اللوحة علامة مكانية مقدار ما هي علامة زمانية أيضاً. وهي علامة صورية تدل على بنائها مقدار ما تدل على محيطها الخارجي: هذه الدلالات المختلفة تنحصر في إطار اللوحة، وتخرج عنه في الوقت نفسه؛ وهي كلها تلتقي في اسم واحد: الفضاء.
هذا الفضاء هو ما يصل السماء بالأرض، والتاريخ بالبشر، ويد الفنان بعيون محبي الفن. هذا الفضاء هو الذي يجعل من اللوحة عالماً على أنه مزدوج: عالم الفن، وعالم الوجود. هذا ما يصل بين اللوحات المعروضة، في شبكة من العلاقات الخافية والمتقطعة.
إلا أن لكل لوحة كيانها، ما يؤلفها في ذاتها، قبل أن تكون موصولة بأعمال فنانين آخرين: علامة مشعة بأكثر من لون وشكل، خصوصاً وأن لكل لوحة حضورها الوازن في نتاج كل فنان على حدة؛ وحضورها الوازن إذ هي منتخبة من مجموعات أوسع منها، هنا وهناك.
للزائر، أو المقتني، الحق في التعامل مع كل لوحة على أنها وجود ناجز، إلا أن في إمكان هذا أو ذاك أن يعزز علاقاته بالعمل الفني المعروض، سواء من ناحية تاريخ الفنانين، أو من ناحية تاريخ الفن، خصوصاً وأن الأعمال المعروضة تعود إلى تسعة فنانين يحتلون مواقع متقدمة في التشكيل العربي الحديث والمعاصر: منهم من غاب وباتت أعماله واقعة في نطاق الندرة والتنافس الشديد، ومنهم (ضياء العزاوي ورفيق الكامل) من يفعل بقوة في المشهد الفني المحلي وخارجه.
علامات الفن تصلح لرسم أكثر من خريطة، ويمكن لهذه الخريطة أن تشتمل على مسارات ودروب متعددة: ما يجمع بين الفنانين، مجموعات ومجموعات، وما يجمعهم بمن يقع خارج الخريطة. هذا ما يعمل عليه دارس الفن، ولاسيما المؤرخ، إذ يستطيع، انطلاقاً من الأعمال المعروضة، أن يتبين خريطة فنية لمشهد أوسع منها، تَظهر فيها انتقالات التجارب والأساليب، كما تَظهر أيضاً خيارات كل فنان على حدة ومهاراته وخبراته.

بين اللوحة والتاريخ
ثلاثة من "رواد" الفن العربي الحديث غابوا في أعمار مبكرة: المصري محمود مختار (1891-1934)، والعراقي جواد سليم (1921-1961)، والمغربي أحمد شرقاوي (1934-1967). وإذا كان الأولان لعباً دوراً تأسيسياً ومؤثراً في قيام تجارب محلية، فإن دور الثالث منهم لا يقل أهمية عنهما، وإن كان الاعتراف به أتى في وقت لاحق، بعد وفاته بعقود.
وهذا ما يصح في غياب السوري لؤي كيالي (1934-1978) الباكر والفجائعي، إذ لا يقل أثراً عن غياب الثلاثة المذكورين أعلاه، ويزيد منه كونه غياباً فاجعاً. إذ رافقت حياة هذا الفنان وقائع معروفة من مرض "الاكتئاب"، بلوغاً إلى احتراقه وموته، وهو في سريره. هذا ما جعل البعض لا يتردد – لهذه الاسباب وغيرها – أن يقرب منه ومن الفنان فنسنت فان كوخ. وهو ما تمثل في حديث الفنان نفسه عن "الجمال الحزين" في فنه.
ويجتمع فنه مع تجارب: إسياخم وفاتح المدرس وكاظم حيدر، إذ إن دور كل واحد منهم ظهر وتأكد وتميز بعد قيام تجارب تشكيلية في كل بلد من بلدانهم، على أن للمدرس دوراً أقوى وأفعل تبعاً لتجربته الخاصة في سوريا.
من يقترب أكثر من أعمال هؤلاء يمكن أن يلاحظ مبدأ التقابل بين اللوحة والتاريخ، إذ يقوم الفنان بإجراء عمليات توسطية بينهما: الوجوه، الهيئات، الأجسام مستقاة من تاريخ خصوصي، يمكن التعرف عليه في لوحة كيالي، وفي خلفية لوحة حيدر، أو يُشكِّل سجلَ وجوه عند المدرس، أو يمثل في صورة صريحة، في بناء اللوحة، في عمل إسياخم.
لوحة كيالي (1960) لا تحتاج إلى عنوان للدلالة عليها، إذ إنها لوحة وجهية (portrait) وتبتعد عنها في الوقت عينه. يقوم هذا الفن (على ما هو معروف) على صورة وجاهية، قد تتعين في الوجه وحده، أو تتوسع لتشمل الوجه والصدر، أو الجسم بكامله. هذه الوجاهية تتبدل في اللوحة المعروضة وتصبح صورة جانبية. وما يتبدل أيضاً هو الجلسة "المستريحة" التي يتخذها الشاب، ما لا يشبه الوضعيات عادة في هذا النوع الفني. يتم تعديل أسس "النوع"، إذاً، ويتحول الإنسان نفسه إلى "موضوع" فني، وهو ما يسم أعمال كيالي في عدد واسع من نتاجه. وإذا كان نوع اللوحات الوجهية قام تاريخياً بغرض رفع هذه الصور في قاعات بيوت السادة المتميزين، فإنه تعدل مع كيالي وغيره ليصبح فناً تعبيرياً في المقام الأول، يقوم غرضه على تمثل الهيئة والتعبير عن مكنوناتها بالرسم واللون.
وما يسم فن كيالي هو مدى ارتباطه الشديد بحياته نفسها، ما جعله فناً تعبيرياً له أسس واقعية. وهو ما نفذه بأدوات مختلفة، من الرسم بالفحم إلى الألوان الزيتية، معدداً الأنواع نفسها، بين "الطبيعة الصامتة" واللوحات الوجهية وغيرها من الموضوعات الاجتماعية والإنسانية المعبِّرة، مثل: "بائع اليانصيب"، و"ماسح الأحذية" وغيرهما. فلم تسلم حياته، مثل بعض لوحاته، من التعبير الحار والجياش عن الألم: هذا ما عرفه في أكثر من معرض من معارضه حيث إنه لم يتأخر، في العام 1967، إثر معرضه الموسوم "في سبيل القضية"، عن تمزيق عدد كبير من اللوحات، التي كان قد نفذها بالفحم. وهو ما فعله مع لوحات: "الإنسان في الساح".
لا يبالغ البعض إذ يربط بين كيالي وفان كوخ: في تعابير الوجوه، أو تشكلات الأجسام ووضعياتها، وفي التواءات الرسم واللون ما يدل على اعتمالات داخلية، عميقة في باطن الشخصيات التي يرسمها، مثلما يتجلى في وضعية الشاب الجالس، الساهم والمنتظر بقلق إلى المقبل المجهول. وما يزيد من معنى الربط بين الفنانَين هو أن فان كوخ لم يبع سوى لوحة واحدة في حياته، وأن كيالي – على الرغم من بيعه لوحات عديدة في حياته – فإن قيمته العالية، سواء الفنية أو المالية، ارتفعت للغاية بعد رحيله، ولا سيما في العقدين الأخيرين.
أما المرأة فهي قوام اللوحة عند الجزائري محمد إسياخم (1928-1985)، بلباسها المميز، وزينتها الظاهرة، وتعبيرات وجهها الكتوم والحزين، ما له أكثر من دلالة تتخذ معناها من سياق جزائري، في منطقة "القبايل" البربرية خصوصاً. وهو يتحدر من هذه المنطقة، واعتنى بتراثها في جانب من نشاطه الفني والثقافي، فضلاً عن أنه عملَ على تمثل هذا الوجود البربري، على تصويره وتأكيده بوصفه علامة حضور قبل أن يكون علامة ذكرى.
ما يظهر في وجه واحد يظهر في وجوه متعددة عند المدرس (1922- 1999). وجوه وحسب، من دون بقية الجسم. وجوه متراصفة، مجموعة، على أنها مختلفة ومتباينة: يتجاور هذا الوجه مع ذاك من دون أن يتحاورا بالضرورة، ما يعطي لمجتمع الوجوه هيئة حيوية ومبنية على التنوع. وإذا كانت امرأة إسياخم تحتفظ في هيئتها، في خلفيتها، بصلات بينة مع السياق، فإن وجوه المدرس تنقطع عنه تماماًَ: ما يجمع الوجوه هو بناء اللوحة نفسه، كما لو أن الفنان استحضرها إلى قماشته واحداً واحداً؛ استحضرها مثل علامات إنسانية، على أنها مواد للتشكيل، لا للترميز. لهذا تبدو لوحة المدرس مثل كتاب من صفحة واحدة، وله سطور متعددة، على أن الفنان هو الذي يبني وجود هذه الوجوه، ووفق ما يطلبه. بل يمكن الذهاب أبعد في درس هذه الوجوه، إذ تبدو ملامحها أقرب إلى أن تكون مجموعة خطوط وألوان وأشكال أكثر من كونها دالة على هذا الوجه أو ذاك، بدقة وأمانة.
خرج إسخايم، إذا جاز القول، بعدته الفنية إلى خارج الإستديو، إلى المشهد التاريخي والاجتماعي، بينما أتى المدرس بوجوهه، بل شكَّلَها في فضاء اللوحة بشيء من الاستقلالية، الذي بات الفنان يسمح لنفسه بها في بناء لوحته.
هذا التقابل بين اللوحة والتاريخ يتعدل، إذاً، وهو ما يتحقق منه الدارس – وإن في وجهة أخرى – إذ يتوقف أمام عمل كاظم حيدر (من مواليد بغداد في العام 1932). لا تزال الصلات قائمة بين الوجود الإنساني وعالم اللوحة، إلا أنه وجود معدل، لا يقوم على حفظ الشكل الإنساني للوجه والجسم والتعبيرات، بل يجري عليه معالجات تحوله إلى كتل هندسية، متعينة في خطوط مستقيمة أو ملتوية وغيرها. لا الجسم الإنساني طبيعي وواقعي، وإن يُذكِّر به؛ ولا الحيوان كذلك، وإن يشير إليه: ما عادت قوائم الحيوان طبيعية، بل محرفة، تبتعد عن التمثيل الواقعي الدقيق لصالح التمثل الهندسي لشكلها؛ وهو ما يعطي لانتظام القوائم إيقاعاً حركياً لافتاً.
الأشكال معدلة وفق شروط واقعة في الأسلوب (التكعيبية خصوصاً)، في خيارات الفنان أساساً. لهذا يقع بناء اللوحة في نسق مشدود بين زمنين، بين أسلوبين: بين الواقعي والهندسي، بين التاريخي والرمزي. وهو ما يجعل العمل ناتجاً مطوَّعاً، ما يناسب حسابات واقعة في الفن (صراع المدارس والأساليب)، وأخرى متعينة في ما يريده الفنان للوحته في استقبال محبي الفن لها. هكذا ينتقل حيدر من المعاينة (عند إسياخم) إلى المعالجة الأسلوبية فوق السطح التصويري للوحة.
غير أن ما يستوقف خصوصاً في عمل حيدر المعروض هو قيام البناء وفق شكل مسرحي: هذا يتمثل في المواقع التي تحتلها الشخوص في اللوحة، بين أمامية ووسطية وخلفية، ما يدل على مكاناتها وأدوارها؛ وهذا يتمثل أيضاً في شبكة العلاقات التي تجمعها بعضها ببعض... وهو شكلٌ ينبني – على ما يتضح – على مشهدية صراعية معلنة، استفادها الفنان من درسه الأكاديمي لفن الديكور المسرحي، ومن عمله في مسرحيات عراقية عديدة. وهو ما تجلى في اشتغال حيدر، طيلة سنوات وسنوات، في ستينيات القرن الماضي، على "ملحمة الشهيد"، التي اتخذت من موقعة كربلاء (مقتل الحسين بن علي) موعداً تذكارياً لها.
التقابل قائم، نشط، وحيوي، بين اللوحة والتاريخ، ما يَظهر في تجليات مختلفة. وهو لا يستقيم إلا عبر التوسط، بين الخارج والداخل، إذا جاز التشبيه: توسطٌ بين ما كانت عليه أشكال وأجسام وهيئات وما يمكن أن تصير عليه في تكوين اللوحة. وهو توسطٌ يطلبه الفنان لكي تكون لوحته وسيطا بدورها بين الخارج (كما قلت) وبين ذائقة محبي الفن. ويقوم التواسط على استعادة أشكال معروفة، أو على التذكير بها، من ناحية الموضوعات؛ أو يقوم كذلك على تواسط أسلوبي أيضاً: أعمال المدرس تذكِّر برسوم وصور قديمة على جدران مغاور وكهوف، فضلاً عن أن لها بناء كتابياً يذكِّر بدوره – وإن عن بعد – بالأساس الشكلي للخط العربي وانتظامه فوق سطور. وهو ما يمكن قوله في إيقاعات الشكل لدى حيدر، إذ تذكِّر بحركة قوائم الجِّمال في صور الواسطي لـ"مقامات الحريري".
هذا ما يتيح القول بأن أعمالاً تحيل على واقعية إنسانية، وأخرى على تاريخية أسطورية، وأخرى على إنسانية دينية، ما يجعل اللوحة تقيم في دورة التاريخ والثقافة والتعبير، وتجعلها بناء مشعاً يتعدى نطاق بنائها إلى ما يحيط بها: اللوحة بناء منير وكاشف عن عالمه، وعن الوجود المحيط به.


بين تجريدية وحروفية
الصلة ممكنة بين إسياخم وشرقاوي، فهما من المغرب العربي، وتعاملا كذلك مع التراث البربري، إلا أنها صلة انتقال خصوصاً من خيار إلى آخر، ما يمكن اختصاره في هذا المثل: زينة امرأة إسياخم تتحول إلى علامات شكلية عند شرقاوي. بل هو انتقال واسع ومتعدد الدلالات: انتقال من خيار التشبيه (figuration) إلى خيار التجريد، ما لا يحتاج إلى إطالة نظر إلى اللوحتين. وهو انتقالٌ له صلات بما كان يجري، في صراع الخيارات التشكيلية ويدل عليه، بين مدرسة تشبيهية عربية سعت إلى الاحتفاظ ببعض أساسيات المدرسة الأوروبية (الفرنسية خصوصاً) من ناحية التقنية، كما سعت إلى أن تكون اللوحة "محلية"، من ناحية موضوعاتها ووجوهها ومرجعياتها. هذا ما يتعين كذلك في الطلب على اللون: بدل أن يكون اللون وصفاً وتعييناً للموضوع المرسوم، يصبح اللون بل الألوان "قيمة" تشكيلية في حد ذاتها، بحضورها وتعاكساتها وإشعاعاتها.
هكذا بات الفن مقيماً في الحدود الداخلية للوحة، وخرج عن نسق التقابل المشار إليه أعلاه. وهو ما يقيم صلات قربى – وإن عن بعد - بين عملي شرقاوي والمدرس: انطلق شرقاوي، في مسعى قريب من إسياخم، من الشكلانية الفنية الماثلة في التراث البربري، واندرج عمله في مجموعة من اللوحات المتتابعة، ذات العنوان المتتابع، "المرايا السوداء"، ما يشير إلى مفارقة لافتة: كيف للمرآة، إذ تكون سوداء، أي معتمة، أن تعكس الصور والأشكال؟ أتقوم وظيفة اللوحة على الانعكاس (كما عند إسياخم)، أم أن لها أن تتدبر أسباب قيامها في خيارات الفنان، وفي معالجاته فوق السطح التصويري؟
إذا كان هذا المعرض يسلط الضوء على فنان (كاظم حيدر) لم يحظَ بالعناية اللازمة له، إلى جانب فنانين عراقيين ذوي حضور قوي (جواد سليم، فائق حسن، شاكر حسن آل سعيد وغيرهم)، فإن المعرض يتيح فرصة لتأكيد "ريادة" شرقاوي في غير مجال، مع: فريد بلكاهية ومحمد المليحي خصوصاً: الريادة في العودة إلى استلهام التراث المحلي (البربري خصوصاً)، الريادة في القطع مع المدرسة المغربية ذات التأثرات البينة بالمدرسة الاستشراقية الفرنسية (في تجلياتها الفولكلورية خصوصاً)، والإقدام المبكر على خوض خيار التجريد (بتفاعل مع "مدرسة باريس"، ومع تجارب غرافيكيين بولونيين).
لهذا فإن الصلة بين شرقاوي ورفيق الكامل، من جهة، وبينه وشاكر حسن آل سعيد خصوصاً، متينة وتحتاج إلى تشديد وإبانة. ذلك أن ما بدأ به شرقاوي يقع في التجليات العربية الأولى للتعامل مع الحرف كمعطى تشكيلي. وما قام به يتلاقى مع ما سعت إليه جماعة "أوشام" الجزائرية (محمد خده وأقرانه) لجهة توظيف الحرف البربري في اللوحة الحديثة. وقد جرى، بشكل واع أو غير واع، استبعاد هذه التجارب من "الحروفية"، أو التخفيف من إسهاماتها، فيما هي مشاركة فيها تماماً، ولها مقاديرها من التوفق الفني الأكيد.
هذا الانتقال الباكر عند شرقاوي من نسق التقابل (المذكور أعلاه) إلى داخل اللوحة عنى، في الدرجة الأولى، انصرافاً شديداً إلى "كون" العمل الفني، إلى عالمه الخصوصي: بات الفنان يعول على أدواته، على لغته أو أبجديته الخاصة، لكي يبني بها لوحته. فاللون، أو الشكل، ما عادا كناية عن عالم خارجي وموجود، وإنما أصبح للون، أو للشكل، ولما يحدثانه فوق السطح التصويري، حضور مكتفٍ بحدوده، مثل كيان ناجز. ذلك أن العمل الفني، قبل أن يكون مرآة عاكسة، فعلٌ مادي ووجودي، وهو كيفية الفنان في القول، في التخاطب، وفي استحداث أثر.
هذه العناية المفرطة بعالم اللوحة قادت أعمال شاكر حسن آل سعيد، ابتداء من ستينيات القرن الماضي، صوب لغة العمل الفني بوصفها موضوع العمل، لا أداته وحسب. هذا ما تمثل في تجارب تدرجية للون، أو للحرف العربي المفرد، ثم في تجارب أخرى (في الثمانينيات خصوصاً) جرت تسميتها بـ: اللوحة-الجدار. العمل المعروض ينتسب إلى هذه التجربة الأخيرة، لكنه يشير إلى مفارقة بين ما يقوله الفنان عنه وبين ما يمثل عليه للمتلقي أو للدارس: يَظهر العمل كما لو أنه حاصل معاينة لأكثر من جدار، في أزقة وشوارع، ولما تستجمعه الجدران فوق سطوحها المادية من كتابات حائطية (من كلمات أو حروف أو أرقام، كما يظهر في العمل المعروض) وآثار وشقوق مادية وغيرها. بينما يقترح الفنان تفسيراً آخر له، إذ يوجه التفسير صوب اعتقاد ديني (بل صوفي) يرى إلى الحادث فوق الجدار فعلاً خارجاً على إرادة الفنان، إذ هو (حسب هذا التفسير) "ينقل"، ولا يبدع أو يخلق.
الأكيد هو أن مجموعة آل سعيد هذه نوعت وعددت تجاربه الحيوية في الفن، ولاسيما في تجريباتها المختلفة التي دارت حول الحرف العربي، ما أطلقََ عليه تسمية: "البعد الواحد" (منذ العام 1971). هذا ما جعل فنه يربط بين التجريدية الشكلية وبين "الحروفية" المتنوعة، في تجارب شديدة التباعد والتقارب بينها. ويزيد من قوة هذه التجارب كون الفنان أرفق، إن لم يكن مهد لانتقالاته الفنية، بمواقف و"بيانات" ربطت ووصلت بينها، ما بلغ معه الربط بين الخط المسماري والخط العربي التي تفصل بينهما قرون وقرون.
هذا الربط بين التجريدية و"الحروفية" لم يطلبه رفيق الكامل (من مواليد العام 1944 في تونس)، إذ انحاز من دون لبس إلى التجريدية (من دون أن يتخلى عن التشبيهية المخففة في عدد قليل من أعماله). والعملان المعروضان له يمثلان أنضج تجاربه في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، وفي مقاسات كبيرة. وإذا كان الفنانون يولون الشكل أو اللون الأولوية في عملياتهم التشكيلية، فإن الكامل انصرف إلى البناء، وفق تكامل مطلوب بينهما. فلا يقوى الناظر على التمييز بين كون اللون صفة أو قيمة أو حيزاً بنائياً، ولا بين كون الشكل علامة وحدوداً وحيزاً بنائياً. فلا يعلم المدقق في بناء لوحته ما إذا كان يبسط اللون ثم يؤطره في شكل محدد له، أو إذا كان يبني شكلاً بل أشكالاً لها صفات لونية وحدود واصلة وفاصلة بينها. وهو لا يبسط اللون تماماً، وإنما "يدعكه" ويعالجه فوق السطح التصويري، ما يولد لطخة لونية متدرجة في كثافتها، فضلاً عن أنها ناتج عملية "خلط" متعدد بين الألوان ودرجاتها. لهذا تبدو لوحاته حاصلَ عمل مديد، صبور، يُعنى فيه الفنان بإنتاج الأثر البصري فوق السطح التصويري، بعد عمليات عديدة يجريها على احتمالات التركيب بين الألوان-الأشكال، ويختار منها، أو يستبقي. هذا يعني أن اللوحة تتشكل بعد الانتهاء منها تماماً. وهذا يعني أن البدء قد ينطلق من لمسة لون، من ضربات مختلفة، لا تلبث أن تتعدل وتتخذ شكلاً متبلوراً لها. هكذا لا يعرف الفنان متى "تنتهي" لوحته تماماً، ومتى تنبني بشكل "مستقر"، إذ لا تستند إلى ما يمكن أن تعود عليه لتعرف حصول الانتهاء، أو إمكانه، أو اكتمالها. ذلك أن اللوحة لا تنطلق من "موضوع"، أو صورة، أو شكل حروفي، فتستند إليه، أو تراقب مدى "تطورها" أو تمامها بالعودة إليه، أو تبقى، في أدنى الأحوال، في حدوده أو إطاره إذ تبتعد عنه.
هذه تشير إلى نقلة ثالثة في عالم الفن، بعد نسق التقابل ونسق الاتكال على لغة الفن، وهي العمل على إنتاج ما أسميه "مادية اللوحة"، التي تذهب بعيداً في استثمار لغة الفن، إذ تختصره بل تبحث بالأحرى عن احتمالاته الخفية. فما كان يقوم على استثمار الشكل، أو الخط، أو الحرف، بات يكتفي بكسوره، بأجزاء منه، فلا يعود الخط خطاً بقدر ما يصبح غبش الخط، أو شكله الغريزي. وما كان يقوم على اللون، في صريحه، ورمزيته، أو تعبيريته، بات يُطلب منه أثره البصري المحض، معولاً وحسب على طاقاته اللونية في مادته، في صيغها المتموجة.
في ذلك تقوم اللوحة على توسط من نوع جديد، لا يعبأً بعلامات ورموز المجتمع والثقافة، ولا بمرجعياتها الأسطورية أو الدينية أو الخصوصية (بهذه الجماعة من دون تلك)، وإنما يطلب هذا التوسط علاقة فجائية، من دون سوابق: بين العين والفن. هذه العلاقة ليست "بريئة" تماماً، بل تقوم تبعاً لثقافة عين حديثة تُعنى بتجليات المادة واحتمالاتها، مثلما تروق للأذن إيقاعاتُ وترٍ واحد من دون غناء مصاحب أو جوقة متعددة الآلات. وهو ما قاله الفنان بنفسه بعد معرض "تحولات"، في مدينة تونس، في العام 2009: "شرعتُ في هذا النوع من الأعمال الفنية منذ عشرين سنة، فاختفى الموضوع، وبقي التلوين وعصارة الرسم".


توليفات مبتكرة
في إمكان الدارس أن يجد صلات عديدة بين عمل ضياء العزاوي (من مواليد بغداد في العام 1939) وأعمال الفنانين الآخرين، إلا أن ما يباعد بينه وبينها أقوى وأظهر. هذا يعود، في المقام الأول، إلى أن عمل الفنان العراقي يختلف معها في كونه عملاً يخرج تماماً من منطق اللوحة، لصالح عمل تجريبي النزعة. هذا ما يظهر في المواد التي استعملها لبناء عمله الفني، وخصوصاً في نوع العمل. فإذا عرف عن العزاوي تمرسه في فن اللوحة، والمحفورة، والكتب الفنية، فإنه انصرف كذلك، في أعمال متميزة، في العقدين الأخيرين خصوصاً، إلى إنتاج أعمال ذات هيئة نحتية. هذا ما تعين في أعمال منتجة من مواد مختلفة، من الخشب وغيره، ما ظهر أحياناً في شكل الكرسي، أو في هيئة الحصان، وما ظهر أيضاً في غيرها من الأشكال: عملُه المعروض يحيل على العمل النصبي، على شكل المسلة (الفرعونية وغيرها)، ما ينوع تجربته ويزيدها تجريباً وغنى. وهو يحيل، من جهة بعيدة، إلى تجربته الحروفية كذلك، إذ إن للكتلتين هيئة "حروفية"، تقوم على استقامة الشكل، بل على نصبيته. ولا يستقيم الوصف من دون الحديث عن اللونية المميزة التي يتسم بها فن العزاوي، والتي انتقلت إلى هذا العمل، في نوع من التوافق والتلاؤم بين السطح والكتلة.
ما حرك العزاوي، منذ بداياته التشكيلية، لا يستقر على حال، وإنما يزيد عليها وينوعها ويجددها. هو هو، وهو غيره، في الوقت عينه. حتى إن المتابع يقوى على معرفة أعماله مباشرة، ولا سيما في اشتغالاته المميزة على اللون: ألوانه الصريحة، والمتعاكسة بقدر كبير من الجرأة، والتي تجذب العين في امتداداتها وتناغماتها وتصادماتها.
قد يجد البعض – وهو محق – أن اشتغال العزاوي على اللون يستلهم الشرائط اللونية في فن السجاد الشعبي، إلا أنه ينهل كذلك من مصادر أخرى، مثل: انبساط اللون، من دون تدرج أو تظليل، كما في التجارب الهندسية اللونية، أو في فن الملصق وغيره من الفنون الطباعية (التي تمرس بها العزاوي تمرساً شديداً إلى حدود عمله المعروف في الإخراج والتصميم الفنيين). وقد يجد البعض الآخر – وهو محق بدوره – أن العزاوي عمل على استخلاص حروفٍ وجمل أحياناً، من أشكال وألوان، مستقاة كلها من أبجدية الخط والزخرفة العربية... إلا أن هذه الإحالات لا تكفي أبداً في شرح فن العزاوي، إذ يقوم على مقادير واسعة من التوليف المبتكر، الذي يتعين فوق السطح التصويري، في خيارات يجريها الفنان أثناء العمل، في غمار التجريب الغامضة والمثيرة. وهي لونية مميزة لا تخفي تعبيريتها الأكيدة، التي تعول على إبلاغات صريحة وسرية، في حوار حميمي، في شراكة جمالية بينها وبين العين.
("غاليري ميم"، دبي، 2013).