عبد الفتاح بوضمرة

يقدم الدكتور شربل داغر على مدى جلستين مترابطتين- أولاهما انطلقت أمس، والثانية من المقرر لها أن تنعقد اليوم - محاضرة بعنوان: «عالم الفن اليوم بين واقعه وفهمه»، بمركز الفنون البصرية التابع لوزارة الثقافة والفنون والتراث، والكائن بـ «كتارا». وألقى الدكتور شربل داغر خلال محاضرته التي أدارها المؤطر الفني بالمركز الدكتور محمد أبو النجا، الضوء على التغيرات الحاصلة في مشهد الفن في العالم والعالم العربي، مبرزا أن الفن يتبدل على مدى ثلاثة عقود على الأقل، سواء من ناحية إنتاجه أو من ناحية أساليبه أو قيمه، وأن هذه التغيرات تثير أسئلة متعددة، منها أسئلة رافضة وأخرى مشككة، ومن المتسائلين من يتحمس باندفاعة كبيرة دون فحص نقدي في حقيقة هذه التغيرات. وتناول المحاضر هذه التغيرات من منظور تاريخي ومن منظور تحليلي متوقفا على ما أصبح يُعرف اليوم بـ «الفن المعاصر»، أي الخروج من «اللوحة الصالونية» صوب أساليب في الفن انتهت إلى أنْ تبلبل حدود الفن وطبيعة الأساليب والقيم المرتبطة بها.
وقال: نحن نعيش اليوم الفن في سياق العولمة، وهو ما فتح الحدود بين البلدان والثقافات، فضلا عن حدود الفن وما شاكل ذلك، بدليل أن متاحف كثيرة في العالم اليوم لا تتردد في أن تنتقل إلى بلدان أخرى غير بلدانها الأصلية مثلما يحصل الآن في بلدان الخليج، فضلا على أن مؤسسات عالمية لبيع الفن لا تتردد بدورها في الانتقال وتنظيم مبيعات في عدد من المدن ومنها قطر في السنوات الأخيرة. وسعى الدكتور داغر إلى حلحلة مجموعة من الأسئلة التي تطاول الفن وتحاول أن تقرأ هذه التجربة الجديدة من خلال قراءة نقدية، وترى الجانب الإيجابي فيها، وما هو مدعاة للقلق أو التساؤل.
وفي جوابه على سؤال لـ «العرب» حول المعروض في متحف الفن الحديث الذي تم افتتاحه مؤخرا، سواء المتواجد بجوار المدينة التعليمية، أو بجانب متحف الفن الإسلامي، هل ينتمي إلى التقسيم الذي ذكره في محاضرته، قال د. شربل: «إن المعروض ضمن جزء من مجموعة المتحف ينتسب أكثر إلى الفن العربي الحديث، وهناك بعض التجارب التي عرضت أثناء تدشين المتحف تنتسب إلى التجارب المعاصرة لا سيَّما التجارب الشبابية».
وأبرز المتحدث أن الخليج يشهد في السنوات الأخيرة نموا هائلا في ميدان الفن، وقال بهذا الخصوص: «لو رجعنا 50 سنة إلى الوراء، لوجدنا أن بعض طلاب الفن محدودون في أكثر من بلد خليجي، أما اليوم فهم يعدون بالمئات، عدا أن بعضهم توصل إلى مكانة فنية مرموقة سواء في بلده أو في العالم بمختلف تجاربه ومسابقاته الفنية. وما يعنيني في تجربة الخليج هو العناية بمؤسسات الفن مثل مركز الفنون البصرية ومتحف الفن العربي وتجارب أخرى متحفية هنا وهناك، عدا أن هناك فئات من المقتنين يعتنون أكثر وأكثر بتذوق الفن وشرائه وحفظه».
ولم تكن المحاضرة جافة، بل أغناها المحاضر من تجربته الطويلة مع الفن والاحتكاك بكبريات المؤسسات الفنية والمتاحف في العالم، خصوصا في أوروبا، وبالتحديد في باريس. فعندما وصل شربل إليها من أجل الدراسة سنة 1976، يكتشف مركز جورج بومبيدو الذي كان يسخر منه الباريسيون وقتها، وكانوا ينعتونه بـ «مصفاة النفط»، فضلا عن كون الإقبال كان ضعيفا جدا ومحدودا للغاية. وإذا كان في القرن التاسع عشر يأتي دور المتحف في نهاية سلسلة العمل الفني، ومنتهى طموح الفنان أن يصل عمله إلى المتحف (الحفظ الختامي للعمل الفني)، فإن «بوبور» كان ينظم معارض متعددة لفنانين غير معروفين بالضرورة، ومنه تغيرت وظيفة المؤسسة الفنية ليتنقل بعدها إلى البندقية ودوكيمنتا بألمانيا، إذ قررت إدارتا هاتين المسابقتين منذ عقدين عدم عرض أعمال غير الفن المعاصر، وتبعه في ذلك بينالي القاهرة ثم بينالي الشارقة.
وأبرز المتحدث أن هذه المؤسسات تحتاج إلى تلبية رغبات جمهور متعاظم إذ في أميركا لوحدها يوجد 20 متحفا تعنى بحفظ وعرض مقتنيات الفن الإسلامي، وفي باريس يوجد أكثر من 300 متحف، وأن هذا التغير الذي أصاب أدوار المؤسسات الفنية، على حد قوله، جعل لها نفوذ وفرضت بالتالي هذا الفنان أو ذاك، واختلت اللعبة. ولفت المحاضر الانتباه إلى أن هاتين المؤسستين أصبحتا تقتطعان حيزا من الفن وتفرضان نوعا من الفن فقط، وما أسماه بـ «اللعبة القديمة» التي كان يتحدث عنها اختلت (...).

(جريدة "العرب"، الدوحة، 30-3-2011).