لا يسعني، في بداية هذه الورقة، سوى الوقوف عند ما جعلتُه المفهوم – السند في الموضوع الذي نلتقي حوله، وهو "الحدود". ولا يكفي في ذلك تعقب ما يقوله المعجم العربي عنه – مثل "لسان العرب"، على سبيل المثال، وبعض التعريفات الفقهية الإسلامية القديمة -، بل ما تقوله الاستخدامات العربية المتأخرة، التي ترى إلى "الحدود" بوصفها فاصلاً بين حيزين، بين مكانين، بين دولتين وغير ذلك. ولطالما استوقفني مفهوم "الحدود"، سواء في دراساتي عن "الفن"، أو حتى في الشعر نفسه، لأنه مفهوم "فارغ"، على ما أقول، أي أنه يحتمل معاني ودلالات مختلفة. فأنتَ لا تُحسن أن تعرف متى تكون "داخل" الحدود ومتى تكون "خارجها"، ولا تعرف كذلك ما تعني "الحدود" فعلاً.
يكفي للتأكد من ذلك أن تنتقل بالسيارة "عبر" الحدود البرية بين دولة وأخرى، لكي ترى بأن ما تعنيه "الحدود" لا يعدو كونه خطاً ليس إلا؛ أي أنه خط بسيط وسميك، هش وصلب، في آن. فهل يمكن أن أقول الشيء عينه إذا طلبتُ معاينة الحدود بين الفنون، بين العمارة والفنون التشكيلية، مثلما تطلب الندوة؟
ما تطلبه الندوة واضح، إذ ترى إلى الحدود من جهة واحدة، من جهة ما تُحدثه العمارة وراء حدود غيرها، وهي الفنون التشكيلية، وهي بذلك "تَعبر" الحدود، ولكن مثل من يحتفظ بعملته من دون أن يحولها عند انتقاله إلى البلد الجديد، متحققاً ومتعقباً ما لهذه العملة، ما لهذا الرأسمال من اعتبار، من قيمة، خارج حدود استعمالاته. مثل هذا الموضوع مثير، وقليل الطرح في أيامنا، حيث أن النقاش يتعين في الغالب داخل الفنون التشكيلية، بل داخل إطار اللوحة، من دون أن نرى إليها فيها ومع خارجها.
هذا ما لبيتُه بدوري في تتبعي لعدد من الاستعمالات، أو "الانعكاسات" (كما تحب ورقة الندوة أن تسمي)، التي أصابت العمارة الإسلامية في الفنون التشكيلية. ومثل هذا السؤال ملح، بارز للعيان، ما أن يتجول في شوارع صنعاء، ما أن يرى إلى عماراتها وأبنيتها، وإلى واجهاتها، مثل لوحات تشكيلية مؤطرة، بأشكالها وزخارفها وتبادلاتها التعبيرية والوظيفية والأسلوبية مع غيرها من المخزون الشكلي واللوني والبنائي. فماذا يمكن القول؟
هذا ما أدرجتُه في عدد من الاستعمالات أو التوظيفات، التي رصدتها، وما جمعته في هذه:
1 . اللوحة المعمارية "الصامتة"
قد يكون من المناسب، في هذا التعرف المقرب على الموضوع، التنبهُ إلى محددات أسلوبية وتاريخية في الوقت عينه؛ وهو ما يمكن جمعُه في الحديث عن العمارة بوصفها جزءاً من مشهد التصوير، أي ما يعطي اللوحة مصداقيتها التعيينية. هذا ما يتحقق منه الدارس عند الوقوف عند استعمالات العمارة في اللوحة الاستشراقية، على سبيل المثال؛ وهو ما يجد في التصوير العثماني المتأخر ترجمة أو تحويراً له، يتمثل في ما أَطلقَ عليه الفنانون العثمانيون تسمية: "منظرة" (منقولاً من العربية إلى التركية).
أطلقُ على هذا النوع من التصوير تسمية "اللوحة المعمارية الصامتة"، ولا أريد من ذلك الحديث عن السكوت الظاهر في اللوحة، حيث ترى الحديقة أو المباني ساكنة، كما لو أنها ديكورات مصممة، خالية من سكانها، ومنصرفة إلى ودائع مصمميها وحسب. وإنما أردتُ من ذلك جمعَ هذه التجربة بمثيلة لها في التصوير الأوروبي، وهي "الطبيعة الصامتة"، وبما يولد في التصوير العثماني فتنة المشهد الطبيعي والعمراني.
إذا كنت توقفت عند هذه التجربة فلخصوصيتها، وغير المعروفة كفاية في تاريخ التصوير المحلي (توقفت لدرسها في كتابي: "العين واللوحة: المحترفات العربية"، 2006).
إلا أنه يستحسن كذلك، في ذات السياق التاريخي والفني، التوقف عند تمثل فنانين محليين للتصوير الاستشراقي في تجاربهم الأساسية، وهو تمثُّلُ العمارة في اللوحة. ومن يعود إلى بدايات التصوير، في هذا البلد العربي أو ذلك، سيتحقق من بروز هذا النوع الفني (مثل توفيق طارق في سوريا)... وهو ما نجده بيناً حتى في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم عند فنانين مختلفين، في الكويت وسوريا ومصر وغيرها. وهو ما اتخذ تعبيرات أسلوبية مختلفة، طلبتْ تمثيلاً "صادقاً" للمشهد المحلي، حتى أن فنانين اكتفوا بتصوير الحارات الشعبية من دون غيرها، في نوع من التدليل الاجتماعي والتعبيري كذلك (مثل: محمود قشلان في سوريا، ووفيقة سلطان في قطر...).
2 . "تجريد" العمارة من حجمها
ما ينتبه إليه الدارس، في هذه الوقفة الأولى، هو أن استدعاءات العمارة إلى اللوحة نشأت، أو تسببت بها احتياجات اللوحة، أو أسانيدها الفنية والجمالية. فحاجات اللوحة هي التي أملتْ حضور العمارة أو معالجتها، حضوراً وظيفياً في الغالب، على أن العمارة صورة أو جزء من صورة مسبقة.
وما طلبته اللوحة في حساباتها "التشبيهية"، أملته كذلك حساباتها "التجريدية". وهو ما بات يظهر مع تنامي التجارب التجريدية في التصوير العربي الحديث، ما ألخصه في القول التالي: تتعين العمارة في منظومة "الفنون التشكيلية" مع التصوير، وفق اشتمال فنونها المختلفة على "الرسم". هذا ما تحدد أيضاً في الخط كشريك لازم في العملية هذه.
ومن يعود إلى عدد من تجارب الفن العربي الحديث يتحقق من انصراف أعداد من الفنانين إلى "تجريد" العمارة من حجمها، وجعلها خطاً ليس إلا، ومن بعدين. وهو ما ينتبه إليه الدارس في أعمال الفنانة البحرينية بلقيس فخرو، التي تعمل منذ ثمانينيات القرن الماضي على البيت المحلي من خارجه، أشبه بسطح أو واجهة أو ظاهر معماري، ما يُظهر حيطانه وبواباته ونوافذه، التي تبدو عليها مسحة القِدَم. وهي في ذلك تزاوج بين ظاهر العمارة كما لو أنها تصورها، في صورة دقيقة بل أمينة لها، كما تعالج هذا الظاهر بلسمات هي أقرب إلى تشكيله والتخفف من تفاصليه الواقعية والمادية.
تقول الفنانة فخرو (في مراسلة معي، في 13-4-2010): "المكان وروح الزخارف المعمارية المنتشرة ذات التصميم الهندسي، الذي يناسب مناخ المنطقة في الخمسينات، والملابس التراثية ذات الألوان البراقة، والزخارف الشرقية التي ترتديها النسوة المحيطات بي وأنا طفلة، والنقوش الشرقية في السجادة ذات الألوان الحمراء بدرجاتها المتفاوتة التي تشد انتباهي وأنا أحبو عليها، ترسخت في عقلي الباطن، على ما أظن. عوامل كثيرة متشابهة ومتناقضة استوعبت بعضها وأجهل أكثرها". وهي تستذكر، لهذا الغرض، علاقتها بأستاذها أثناء دراستها في الولايات المتحدة الأميركية: "أتذكر نصيحة أستاذي عندما كنت طالبة في الجامعة، بأن لا أبتعد عن جذوري وتراثي، وهنا تستدعيني تلك المدينة القادمة من قلب الوطن العربي. فهذه الثيمة كانت موضع اهتمام واشتغال وتطوير على مدار سنوات، حتى أصبحت مدينتي الشرقية عالمية، تطبعت بحركة ساكنيها: يبحث المشاهد عن أصداء تلك المدينة، وبالكاد يعثر على ثيمة هنا أو رمز هناك، إذ توارت مدينتي وذهبت التجربة الجديدة إلى حالة من الألعاب اللونية وبحث دؤوب لاستبصار الجذور العميقة الكامنة في العقل الباطن عبر مساحات لونية مارستها بتقنية خاصة، تخلصت من حدود الشكل ومن التفاصيل الدقيقة، وقررت الالتصاق والانطلاق إلى الإنسان، أي إنسان، وكل إنسان، والأثر الذي يتركه بعد زواله. إن وصولي إلى هذا التجريد، أو ما أسميه السهل الممتنع، الذي هو في الواقع طبقات من الألوان، لها إيحاء المكان في دينامكيته وتشكيلاته العديدة. والأهم في ذلك كله هو اللعبة اللونية في هذه التجربة، والتي تتم وفق قوة الإنشاء والتكوين في إطار من السكون والحميمية، منطلقة من هاجس داخلي يرمى إلى رسم الإحساس الداخلي. تماما كالألحان الموسيقية ولكنها موسيقى بصرية قد تبعث في المشاهد كآبة أو قد تخرجه وتغمسه في حال من التيقظ والحيوية. وفي اعتقادي أن ما يميزني هو حميمية اللون وقوة الإنشاء والتكوين وعبر تقاسيم الفراغات والكتل" (من المراسلة عينها).
وهو ما أجدُه، في قياس أوسع، في ما قام به الفنان اللبناني الراحل صليبا الدويهي، حيث أنه، بعد بدايات وتجارب معروفة في التصوير الطبيعي والانطباعي، ولا سيما للمشهد اللبناني، انتقل الدويهي، وبعد انتقاله إلى الولايات المتحدة الأميركية، إلى معالجة اقتربت من التجريدية اقتراباً خفيفاً، ثم باتت أقرب إلى الاختصارية الشديدة (minimal art): ما يتحقق منه الدارس – وهو ما درستُه سابقاً – هو أن الفنان عالج مشهداً أثيراً من طفولته، وهو المشهد المطل على "وادي قاديشا" في شمال لبنان (الذي يتحدر الدويهي منه)، وما لبث أن انطلق منه مخففاً بعض تفاصيله الدالة عليه ليتحول المشهد إلى مدونة، إلى سطح ذي بعدين، أقرب إلى معالجات بنائية ذات أشكال هندسية في الغالب.
وهو ما يلحظه الدارس في أعمال الفنان التونسي الراحل نجيب بلخوجه، حيث أنه عمل منذ ستينيات القرن الماضي على "الحي العربي" في مدينة تونس، مستخلصاً منه بناء هندسياً، في نوع من التجريد له، أو من البناء، انطلاقاً منه، ما يوفر لأعماله إيقاعية هندسية لافتة.
إن هذه التجارب تبقى قريبة مما عرضتُ له أعلاه، إذ يُستعاض عن صورة العمارة بواجهتها، بشكلها الخارجي، أو حيث يتم "تجريد" العمارة، بأثر واضح من الأساليب التجريدية.
إلا أن هذا الاستعراض الفني والأسلوبي (الذي له سياق تاريخي وفي أكثر من بلد عربي)، لا يكتمل من دون الإشارة إلى تجربة أخرى تمثلت عربياً في مساع لبناء اللوحة انطلاقاً من مفردات معمارية، أو زخرفية. هذا ما ظهر في استعمالات المربع خصوصاً، على ما نلقاه في تجارب عديدة، ولا سيما التي زاوجت بين المربع والخط العربي بأشكاله الهندسية (مثل الكوفية وغيرها).
كان في إمكاني التوقف عند تجربة الفنان العراقي مهدي مطشر، وإنزالها في التجارب الأخيرة، إلا أنني وجدت أنها – وإن تتصل بالتجارب الهندسية والتجريدية والاختصارية - تنفصل عنها، لتبني علاقة مختلفة مع المعماري، فلا تصدر عنه، أو عن التشكيل، بما يقيم صلات "انعكاس" أو غيرها بينهما، وإنما تصدر عن فهم للفن يقع أبعد وأعمق من التحاورات هذه، ليصيب البنى التأسيسية، البنائية والجمالية، لهذا الفن. فعمَّ أتحدث؟
3 . مهدي مطشر : فضاء جديد
قيل الكثير عن "انعكاسات" الفن الإسلامي في الفن الحديث، من دون أن تعالج المسألة في صورة معمقة – على ما أرى. ذلك أن الدارسين، والفنانين قبلهم أو بعدهم، توقفوا عند استعمالات ميسرة للماضي الفني، تكاد أن تكون تلخيصية أو شرحية أو تزيينية، من دون أن تصدر عن فهم عميق، أي تاريخي وجمالي للفن الإسلامي، من جهة، ومن دون أن تصب محاولاتهم في تجارب جديدة أو مجددة، من جهة ثانية. فالعودة إلى الماضي قد توقع الفنان في ببغائية، أو تكرارية، مجدبة، إن لم تتنزل في مساقط الفن الحالية واحتياجاته، التي تبدلت بالضرورة عما كانه هذا الفن في ماضيه الزاهر. وهو ما تنطح له مطشر، بقدر واسع من الجرأة والشجاعة والتفرد، منذ بداياته الأولى، بعد أن انتقل إلى باريس من الحلة (العراقية، جارة بابل العريقة)، ليدرس ثم ليدرِّس في معهد "الفنون الجميلة".
من يتابع أعمال مطشر الفنية، منذ سبعينيات القرن الماضي، وهو ما أتيح لي منذ نهاياتها، يتنبه إلى ديمومة ما يشغله في الفن، وإلى تنويعات وتجريبات يجريها ويتنبه إليها المتابع بين معرض وآخر، وبين تجربة وأخرى. هذا ما ظهر في تشكلات عديدة، يمكن تتبعها أو تبينها في أنساق محددة:
هذا ما ظهر، في ثمانينيات القرن الماضي، في أعمال الطابوق، المبنية في مربعات، والموضوعة وفق ترسيمات للمربع أيضاً فوق أرض العرض، بعد أن يكون مطشر قد حشا كل طابوقة بكميات من مسحوق لوني (النيلي تحديداً). وهذا ما ظهر كذلك في أعمال ورقية أو خشبية مختلفة تتخذ من المربع وحدتها البنائية، التي تتشكل وفق تراكيب مختلفة، بين الأبيض والأسود (أو لون البني الفاتح للخشب)، ما يبني علاقات مختلفة بين ما يرسمه الشكل أو اللون وما يبقيه "فارغاً" ولكن متمماً للشكل الظاهر. وهو ما ظهر كذلك في تشكلات بنائية أبين، إذ عادت ممارسة مطشر إلى بناء أشكال ذات قياسات واسعة (عما سبق)، ما يشكل حيازة أشد لمكان العرض، وما بدأ يظهر في أبنية أقرب إلى التشكل الناتىء...
إلا أن هذا التعرف الأولي والمبسط لتشكلات مطشر المختلفة لا يخدم تقديمها في صورة صحيحة، إذ أنه يقسمها ويفرعها، بينما تحتاج تجربة مطشر إلى ما يجمعها، إلى ما يكشف عن وحدتها العميقة التي تشغلها مثلما تعمل هذه التجربة من أجلها. ومن يقرأ كتابات مطشر القليلة ولكن الكثيفة، مثل مشاركته الكتابية في إحدى ندوات "بينالي القاهرة" في العام 1996، يتنبه إلى بروز لفظ بل مصطلح جديد في ما يكتب ويتصور لفنه، وهو "الفضاء الحضري". وهو لفظ يتعدى حدود الرسم، بل التشكيل نفسه، ويقيم منطقة جديدة لفنه على حدود التشكيل والهندسة، وبين الرسم وإشغال المكان المعماري إشغالاً جمالياً ومادياً. لهذا فهو يقيم على الحدود ليرسم منطقة جديدة وفق تصور جديد يطيح بالأحياز السابقة "الحدودية"، بل ليجعل ما كان ممنوعاً الخروج منه أو الدخول منه إلى غيره منطقة "شرعية". هذا ما تجيزه ممارسته الفنية لنفسها، إذ يجعل مما كان منطقة لـ"عابري الحدود" و"المتسللين" غير الشرعيين (كما يقال في لغة القانون الدولي اليوم) فضاء تتلاقى فيها الفنون، بل الثقافات والمرجعيات والقيم والمعايير التي تنتسب إليها، بما يوفر لها فضاء للتعايش والتحاور والتشاكل والبناء المستجد.
ومن يتابع مادياً مباني أعمال مطشر الفنية يتحقق من "صلات الوصل" التي يجريها بين أنواع الخطوط، على سبيل المثال: فالخط عنده ضربة قلم هندسي مستقيم وفق المسطرة ولا يبلغ أبداً "الشخبطة" أو التلقائية، ما يمثل الحد الأدنى، بل الاختصاري لأي خط، قبل أن يصبح كتابة أو لفظاً أو حرفاً. وهو وصلٌ بين أي خط والخط العربي، وبين الخط والزيح الهندسي. ذلك أن أبنية مطشر التي يشكلها تستند أو تقوم على أبنية مفتوحة تماماً، إذ "تستعير" من هذه المرجعية الهندسية أو الخطية أو البنائية ما يناسبها، ولكن بما يجعل الاستعارة هذه قابلة للالتقاء، للتحاور، للتشكل، مع غيرها، مما تأتى من مرجعية هندسية وخطية وبنائية أخرى، بل من أكثر من واحدة.
وهي "صلات وصل" بين فنون عديدة ومختلفة: بين الخط العربي، وبناء الجدران بحجر الطابوق الرافديني القديم، وتشكلات الزخرفة الإسلامية فوق الورقة والحائط والآنية وغيرها من الحوامل المادبة المختلفة، واعتماد مفردة "المودول"، ولا سيما "المربع السحري"، ذي التشكلات القديمة في التراث الحضاري العراقي والإسلامي، في توليدات شديدة الحذاقة والابتكار والتجدد... يقوى الدارس على استخراج مفردات أخرى في أبجدية الشكل والتشكل عند مطشر، إلا أن هذا لا يغيب إحالات مطشر على مرجعيات ومفردات متأتية من ثقافته التي حصلها في الدرس والتعلم والتدريس في باريس، ومن معايشاته وتفكراته في تجارب التجديد الغربي، ولا سيما في مذاهب التجريد الهندسي، و"الفن الاختصاري"، وبناء التنصيبات أو التجهيزات (installations) وغيرها مما أخرج التجربة التشكيلية من "أسر" اللوحة، صوب فضاءات وأبنية جديدة.
وهي أكثر من "صلة وصل" في تجربة بل تجارب مطشر، إذ عنت فتح الحدود بين الفنون نفسها: بين العمل الفني القابل للعرض في حيز (مثل اللوحة، وإن في سياق عرضي مختلف)، والعمل الفني الذي يغير فضاء العرض نفسه (فلا ينضاف إليه، أو "يعلق" فيه فوق حائط، أو في زاوية من مكان العرض)، فضلاً عن أن تجارب مطشر المتأخرة تقوده إلى بناء تشكلات هي أقرب إلى النحت، وإن لم تكن منحوتة أبداً، إذ تجنح إلى بناء أعمال فنية ذات "حجم"، بل "نصبية" (على ما يمكن التحقق في عمل مطشر الأخير).
إنه فضاء حضري بالضرورة، لا بري، إذ يحتاج إلى ما يقوم عليه لقاءُ هذه الأشكال والمرجعيات فوق أرض تتيح مقادير من الثبات والتركز والتشكل المتغير. إنه فضاء البناة الجدد بل المجددين، ممن يكتفون بأدوات قليلة في عملهم (حيث أن المسطرة تكاد أن تكون أداة مطشر الوحيدة) ولكن بمشروعات واسعة تسع القريب مثل البعيد، وتستحضر إليها ابن الحلة البعيدة وتستدعي من الشارع خارج المحترف ابن مدينة "آرل" (جنوب فرنسا)، حيث يقيم مطشر، مثل زائر معرضه في بيروت أو في تلك المدينة الألمانية أو تلك.
هذا ما يستجمعه مطشر في الحديث عن "ذكاء المكان" (مستعيراً لهذا الغرض تركيباً فرنسياً مأثوراً)، وهو ما يلتقي مع عبارة عربية درجت في العقود الأخيرة، وهي: "عبقرية المكان"، إلا أن ما يطلبه مطشر من التركيب يفيد عن صلة "حوارية" وتفاعلية مع مكان العرض نفسه، حيث أنه يبني تشكيلات قابلة للتغير والتشكل تبعاً للمكان نفسه ولإمكاناته. هذا ما يعول عليه في مواده البسيطة والمعدودة التي يبني بها عمله، وهذا ما يعول عليه في "ليونة" الأشكال التي يبنيها إذ هي قابلة لتمددات أو اختصارات نابعة من هندسيتها النظامية. وهو ما يشرحه بهذه العبارات: "ما أقوم به يتعين في التواجد والمشاركة مع المكان، لا في أن أفرض شيئاً عليه. من هنا يمكن فهم اهتمامي بالعمارة، واعتقادي بأنها تمثل خصوصية الثقافة الإسلامية، على أنها تقوم في تجربتي على إعادة صياغتها بلغة معاصرة، وبوصفها ضرورة وشرط لبناء وعي جديد بالنمو الحضري".
لو سألتَ مطشر عن أساس تجربته في بناء هذه التشكلات التي خرجت من اللوحة تماماً صوب أشكال كبيرة الحجم، لحكى لك ما حدث للخليفة المنصور عندما طلب "تصور" ما يمكن أن تكون عليه بغداد قبل بنائها من معمارييها، وكيف أنهم أقاموا للمنصور، في العام 762، بناء اختصارياً تمثيلياً لما سيكون عليه بناء المدينة اللاحق... إلا أن روايته هذه لا تخفي كذلك، وفي حديثه نفسه، ما استفادت منه تجاربه الفنية المختلفة من تجديدات تعرف عليها في عيشه الأوروبي الممتد (ابتداء من تجربة "الباوهاوس" الألمانية، و"البنائية" الروسية وغيرها). وهو وإن كان يرجع في أسانيده العربية والإسلامية إلى "أستاذه" الفنان العراقي الراحل شاكر حسن آل سعيد، وإلى المعماري العراقي رفعت الجادرجي (الذي عمل معه في مشروعات معمارية لبغداد لم تبصر النور مادياً، بل فوق طاولات عمله هو والجادرجي)، فإن مطشر لا يجد حرجاً أو غضاضة في أن ينسب أعماله ويحيلها على شواغل نظرية وجمالية غربية أخرى، تلتقي في أكثر التجارب تجديداً في المشهد الغربي ما بعد الحداثي.
ويمكن القول – وقد عرفت، في نوع من الشهادة الذاتية عمن عرفتهم من الفنانين العرب خلال عقود وعقود، هنا وهناك – أن مطشر يمثل حالة فريدة بينهم، إذ هو يتبنى في حياته وتصريحاته وشروحاته عن أعماله، من دون أي حرج أو ارتباك، ويعلن نسبه إلى التراث المحلي بمعطياته المختلفة (حتى الصوفية منها)، في الوقت الذي يندرج فيه في سجال اللحظة الغربية المجددة في الفن الغربي ما بعد الحديث. وهو ما جعله – لو جاز لي مثل هذا التقريب – "أكثر هناءة" في عيشه التشكيلي مما كانه "أستاذه" آل سعيد.
ذلك أن علاقة مطشر بالفن اتجهت صوب علاقة ابتعدت عن منطق "العرض" صوب منطق "التأمل"، وعن منطق "الإعلان" و"التهريج" (كما يسميهما) صوب منطق "التحليل"، بل "صوب نكران الذات، والتي لم تعد بالتالي مضخمة حتى حدود الانفجار" (حسب قوله). وهو طموح عال للفن نفسه، حيث يقوم بنفسه، ولنفسه، فلا يقوم "على خدمة غيره"، إذا جاز القول. وهو ما يعبر عنه مطشر بهذه العبارات: "الموضعية (installation) لا تطرح جواباً جاهزاً منغلقاً على نفسه، ولا انفعالات تعبيرية سردية (أي حكائية)، ولا تقترح نفسها كحامل لمعنى، وإنما هي المعنى ذاته" (على ما كتب في "ورقة" عمله القاهرية).
---
إن الخلاصة، بل التوصلات، التي انتهى إليها مطشر، وتشكل أساس تجربته المتفردة، تضعنا في صلب موضوع الندوة وخارجها في آن، مثل حال "الحدود" نفسها، المنغلقة والمفتوحة في آن.
وطلبت بالوقوف عندها أن أشير إلى إمكان تجارب أخرى في التشكيل، لا تقتصر على "الانعكاس" وإنما على التفاعل، أي على طرح سؤال الفن قبل أن يصبح ممارسات قطاعية وتنفيذية مختلفة. وهو ما أجده في تجربة أخرى لا تقل غنى وتجديداً عن تجربة مطشر، وهي تجربة الفنان التونسي سمير التريكي، الذي يسعى في أعماله، بدوره، إلى إيجاد صلات وصل ممكنة، مادية وجمالية، بين الموسيقى والهندسة الإسلامية. والتريكي مثل مطشر يعود إلى استلهام غربي، يتمثل في حالته في ما قاله الموسيقي النمساوي إدوارد هنسليك (Edouard Hanslick)، في العام 1854، عن أن "الزخرفة (الأرابسك) الصوتية تكتفي بنفسها"؛ وهو قول شبيه بما قاله مطشر عن فنه، حيث أنه هو المعنى بنفسه، وليس "حامل معنى" لغيره. هكذا يتوقف التريكي، في تقديم لعمله، عند ما يؤلفه فيشير، بداية، إلى "المودول"، أو مفردة البناء، وإلى "التناسب" في بناء المتواليات، رابطاً بين أقوال التوحيدي الجامعة بين الخط والموسيقى. لم يخرج التريكي من اللوحة، وإنما وظف جميع إحالاته بما يغنيها، وبما يخرجها صوب التعبير عن حالات جديدة، وهي النهل من منطقة حسية-تجريبية. فما هي؟
هي تقوم في ظاهرها على اكتشاف ما يقع بين التكرار النمطي والتلقائي في معاودة الضربة، كما في الخط كذلك في الإيقاع الموسيقي، إلا أنها تقوم على التجاوب الداخلي بين عيش الموسيقى وتأثيراتها غير الواعية ولكن الفاعلة في ما تُقدم عليه اليد فوق قماش اللوحة. لهذا تنبني اللوحة عند التريكي بين "قصدية" مختارة ومتبناة في ما يسبق العمل الفني، أو الابتداء به، وبين ما تعيشه التجربة نفسها، عند تشكيل اللوحة، من عيش موسيقي بأدوات اللون والشكل.
وقد استوقفني في إحدى محاضرات التريكي عن عمله موقفه "الهانىء" بدوره مما يفعله وما يختاره وما يبني عليه تجربته، إذ يقول فيها: "إن غيري من الفنانين قد يقلقه البحث عن لغة تشكيلية (...) بخلافي، فضلاً عن أن العودة عندي إلى الينابيع موصولة بالثقة بالنفس" (1999).
أكتفي - متأسفاً – بهذا القدر في الحديث عن تجربة التريكي، لأنها تتعداني في ما تقوم عليه من علم سواء في الأبنية "اللوغاريتمية" أو في الأبنية الموسيقية (مثل "البشارف" وغيرها)، طالباً في التركيز عليها الالتفات إلى تجارب تفيد في موضوع ندوتنا، كما في تجارب الفن نفسها، حيث أن الفن في بلادنا يتقيد في الغالب بالحدود التي تفصل، من جهة، كما لا يصدر منظور الفن عن رؤية كلية، تاريخية وتعبيرية، من جهة ثانية.
أخال أحياناً، إذ أنظر إلى تجارب الفن العربي الحديث المختلفة، أنني أمام تجارب "حِرفية"، ونقْلية، ليس إلا، أي أنها تصدر في أحسن الأحوال عن مهارات، أو تنتهي إلى خبرات مهنية في أحسن الأحوال. وهو ما يلقاه الدارس إذ ينتقل إلى مشهد آخر، وهو معاينة احوال الشعر أو الرواية أو المسرح أو السينما وغيرها، فيلاحظ أنها واقعة في نطاقات مهنية مغلقة، وهذا يتأتى من فهم تقني، ومكرور، ونقلي للعمل الفني.
ولا يسعف الفكر الفني في بلادنا التفكير في الفن عموماً، في ماضيه أو في راهنه: يكفي أن ننظر إلى أحوال التصميم بأنواعه المختلفة، حيث نجد أن تصميم الكرسي أو المكتب أو طبق الأكل أو الثوب وغيرها، لا يقوم – إلا في بعض الحالات القليلة والنادرة - على تبادلات شكلية وتعبيرية ورمزية في ما بينها.
(ورقة عمل في "ندوة صنعاء الدولية"، عن: "العمارة الإسلامية وانعكاساتها على الفنون التشكيلية"، بين 18 و20 أيار 2010).