ماذا يفعل الفن راهناً؟
لفظ جديد دخل الخطاب عن الفن منذ تسعينيات القرن الماضي على الأقل هو: "المعاصر" (contemporain)، وبات يتعين وحده أو إلى جانب اللفظ القديم "الحديث". وكان استعمال هذا اللفظ الجديد إيذاناً بسقوط أي أمل بتجدد الحداثة نفسها، طالما أنه قطع مع سلالة "الحداثة" (حديث، عابر للحداثة، ما بعد حداثة وغيرها مما عاش عليه الخطاب منذ قرنين على الأقل).
يبدو اللفظ في مبناه أكثر رسوخاً من سابقيه، بل يبدو أكيداً مما يتحدث عنه. إلا أن تحرياً أوسع يفيد بأنه لفظ "فارغ" بمعنى ما، أو لا يقوى على تحمل حمولات اعتقادية شديدة، وثقيلة بمعنى ما. فهو يشير وحسب إلى "الزمني المحايث"، أي إلى ما يحدث هنا وهناك، على أن ما يحدث هو وليد العصر الذي يصدر عنه ويصب فيه. وهي حمولة خفيفة إذا قورنت بسابقاتها، التي حملتها الألفاظ الاصطلاحية الأخرى، حيث أنها كانت تشير إلى حمولات فلسفية وإيديولوجية تحيل على القطيعة والتجدد والتقدم الشديد صوب أفق موعود.
وجبت، إذن، إعادة التفكير في "المعاصر" بوصفه مفهوماً يفضي إلى ممارسة، ويطمح إلى تخطي السباق المجنون الذي شهده المشهد التشكيلي منذ العقود الأولى في القرن العشرين، التي انبنى فيها الفن وفق علاقة باتت لازمة بينه والمعتقد الفلسفي والإيديولوجي. هذا اللزوم بين الفن وصياغة معنى جديد (لتأسيس مذاهب وتيارات و"موجات") تحدث عنه بيار بورديو في كتابه "قواعد الفن" (Les règles de l’art)، بل عيَّنه تاريخياً ابتداءً من عمل المصور الفرنسي إدوار مانيه؛ وما تحدث عنه بورديو قابلٌ للمتابعة والفحص في مجمل المذاهب التي تتابعت بعد "الانطباعية"، وحتى اليوم.
موجة "المعاصر" تُوقف هذا السباق، إن جاز القول، وتًبطل كذلك "الآجال المستحقة" التي وعدت بها "الحداثة" غيرَها، إذ كانت هذه "موعودة"، وما لبثت أن أصبحت "معلقة" أو "مؤجلة"، في انتظار "موجة" أو تيار أو مدرسة "حداثوية" جديدة.
"المعاصر" أراحنا بمعنى ما من الانتظار، من توقع حدوثه السعيد... هذا الوعد الذي لن يأتي، على ما خبرنا في عصر بلغتْ فيه البشرية، على الرغم من "جناتها الموعودة" في خطاب الحداثة الإيديولوجي والسياسي، أبشع المجازر وأعمقها في تاريخ الإنسانية المعروف.
إلا أن لـ"المعاصر" حسنة أو فضيلة، وهي التنبه إلى تغيرات أصابت المشهد الثقافي والفني والأدبي عموماً، وما كانت الألفاظ الاصطلاحية السابقة تلحظها أو تنصرف إلى رصدها ودرسها. إن أصواتاً قليلة مثل أدورنو وبنجامين وماكلوهان ومالرو وغيرهم استرعاها، بفعل معايناتها وتحققاتها، حدوث تغيرات عديدة وعميقة الأثر في الدورة الثقافية عموماً، ابتداء من التجربة الأميركية خصوصاً. وهو ما أجمعه في الحديث عن "بضاعات ثقافية" بدل الحديث السابق عن لوحة أو معرض وغيرها بألفاظ فخيمة و"راقية". وهو ما يمكن التنبه إليه أيضاً في بروز المؤسسات الثقافية، ولا سيما المتحف والبينالي، كفاعل في دورة التداول الفني، فما عاد دوره يقتصر على الوساطة وحسب، وإنما على التأثير المتمادي على ما "ينتجه" واقعاً بينما يعرضه.
والحديث عن "المعاصر" يعني – ضمنياً على الأقل – الحديث عن "العولمة"، بل يقول البعض إن الحديث عن فن "معاصر" لا يعدو كونه الحديث عن "عولمة موفقة". فالمعاصر ما عاد يعني وجهة لازمة للحضارة، للتمدن، للفن، لأي إبداع، بل بات يعني التساوي والتبادل واحترام الجميع، بل قدرة الجميع على صنع الفن العالمي. هذا ما قامت عليه فكرة معرض "سَحَرة الأرض" في العام 1989، والذي حمل في عنوانه الفرعي التعريف التالي: "أول معرض عالمي للفن المعاصر". تلافى منظمو المعرض حينها وضع لفظ "الفن" فيه، متنبهين إلى اختلافات تعريفات الفن وصيغه الملموسة من بيئة إلى أخرى... وأرادوا من "السحر" الحديثَ عن الأثر المدهش الذي تحدثه أعمال الفن في عمليات تلقيها. يقول جان-هيبير مارتين، منظم المعرض، في "الدليل": "إن السؤال الأساسي المطروح هو أن نعرف لماذا يتم تفسير أشياء وتقديرها ومحضها القيمة وفق معنى جديد غير معناها، والذي أوجدناه لها. إذا نجحنا في رفع سوء التفاهم هذا، فإن نتائجه باهرة، ذلك أن الشيء يستعيد نوعاً من الحياة الثانية بعد أن نسبنا إليه أحياناً معنى ما كان له".
هذه "الحياة الثانية" هي - واقعاً – الحياة الوحيدة الممكنة في العولمة المتفاقمة في السنوات الأخيرة. فكيف ذلك؟
---

لو يتوقف المتابع عند أرقام المبيعات في العام 2006 (وهو ما توافر لي في صورة وافية قابلة للدرس والفحص) لتنبه إلى أن عائدات "الفن" بلغت في العالم ما يوازي 11 مليار دولار في المزادات العالمية؛ وزادت المعدلات 20 بالمئة عما كان عليه "انفجار" الأسعار الفنية "الهائل" في العام 1989. ولو اقترب المتابع من هذه الأرقام لتبين له أن الارتفاع بلغ ثلاثة أضعاف ما كانت عليه، وأن الزيادات هذه أصابت مواد "الفن" بالنسب عينها التي أصابت المواد الأولية.
وهو ما قامت به المجلة البريطانية (Art review)، التي رصدت وجمعت وحللت معدلات الارتفاع هذه. ويمكن للمتابع أن يفحص دلالات أخرى تقع في الاقتصاد السياسي قبل اقتصاد الفن نفسه، وهو أن بلداناً جديدة في قوتها الاقتصادية (مثل الهند والصين وغيرها) باتت تظهر في سوق الفن كذلك، ما ظهر في مبيعات الفن الهندي، على سبيل المثال، حيث أنها بلغت 70 مليون دولار؛ وهو ما ظهر في المزادات العلنية أيضاً في دبي في العام 2006... أو مع بروز مقتنين، جدد مثل الروس والصينيين والعرب (وإن بنسبة أقل).
يقول جان بودريار في: "نهاية الحداثة أو عهد التمظهر" (في كتاب ملحق بالموسوعة العالمية: "اليونيفرسالس"): "لم تعد الحداثة موجودة: كل شيء حالي (أو راهن)"، لكي يمهد بذلك إلى الحديث عن "عهد التمظهر". ويستعير بودريار صورة "الهيبرمارشيه" (المجمع التجاري الكبير، في الولايات المتحدة الأميركية) لكي يتحدث عن هذا العهد الناشىء؛ وهو عهد أطاح بالقرية كما بالمدينة؛ وإذا كان السوق يقع في وسط البلدة أو المدينة، وينبني وفق مقتضياتها، فإن "الهيبرمارشيه" هو الذي بات يُنشىء "الجماعة السكانية". هكذا جعل من المجمع التجاري (الذي قضى على الدكان والمؤسسة الصغيرة والعلاقات الأليفة) وسيلة لتعيين علاقات متغيرة قوامها الاتساع والغفلية وغيرها.
ولو انتقلت إلى الفنان لوجدت أنه بات عليه أن يرى إلى هذه الوجهة، وأن يعمل وفق مقتضاها لكي يكون شريكاً في السباق على الأقل، فكيف إن طلب مواقع متقدمة فيه. يكفي المتابع أن يتابع معروضات البينالات الكبرى في السنوات الأخيرة، وأن يستمع إلى شكاوى أو تكيفات أصحاب صالات العرض، لكي يفهم شيئاً من تغيرات المشهد هذا.
كان يحتاج الطالب اللبناني أو المصري أن يأتي إلى باريس أو روما لكي يتابع قسماً من تحصيله الفني، أما اليوم فقد يحتاج إلى الإقامة المستدامة فيها... وهو ما يمكن للمتابع أن يلحظه، في البلدان العربية، غداة الحرب العالمية الثانية، بين ما كانت عليه من "وعود" ومشروعات في بناء حياة فنية سوية (من أكاديميات ومتاحف وصالات عرض وتشكل مقتنين وسوق محلية وغيرها)، وما آلت إليه هذه الوعود والمشروعات في العقود الأخيرة.
يكفي أن نتحقق لهذا الغرض من العديد من الأعمال "الصادمة"، ذات الأحجام الكبيرة، التي تتصدر - على سبيل المثال - مدخل "بينالي البندقية" في إحدى دوراته الأخيرة... يكفي أن نرى إلى تخطيطات بيرن (Buren)، التي يمكن أن نراها عن بعد، كما لو أنها مجسمات زخرفية... يكفي أن نرى قبل ذلك إلى وجه مارلين مونرو إذ يتلاعب به أندريه وارول بما يسلي الجمهور... ويكفي أن نرى إلى هذه الأعمال وغيرها لكي نتأكد من أنها بُنيت - أي جرى تصورها قبل قيامها - بحيث تصلح لرؤية جماهيرية، إذ تقوم في تخطيطها، أو في اختيار موضوعها (جسم إنساني، ولا سيما العاري، شيء معروف، أم كلثوم...)، على ما يسهل التعرف عليها، وعن بُعد: بات العمل الفني أقرب إلى عمل الملصقات والمجسمات الدعائية، أو يستعير منها بعض تقنياتها واستهدافاتها.
يظهر من مجموع هذا الكلام أن الخروج على "المألوف" التشكيلي يعول، ولا ينفصل عن المألوف أبداً. فهو خروج من صالة العرض إلى الصالة الجماهيرية، من "خزانة هواة الفن" إلى محطة القطار، ومن صالة السينما إلى جلسة الفيديو والحاسوب والهاتف الجوال. خروج، إذن، إلى نوع من الشراكة المسبوقة، لا إلى التي يقوم العمل الفني ببنائها، باقتراحها على غيره.
وهو خروج من المزاد العلني والشراء في صالات العرض إلى ميزانيات الحكومات والبلديات وكبرى المؤسسات الدولية، أي إلى سوق أوسع، إلى عالم التسوق الجماهيري. وهو خروج يستعين، كما سبق القول، بتقنيات التسويق والترويج التي للسلع الاستهلاكية، من تكثيف واختصار للعمل الفني بحيث يتم حفظه من قبل المتفرح مثل ارتباط دعاية سلعة بموسيقى أو بوجه مشهور وغيرها من أسباب التعالق والتكافل بينهما.
عالم الفن يتبدل: من كان يقوى على التخمين، قبل سنوات قليلة، بإمكان انتقال متحف عريق، مثل متحف "اللوفر" الفرنسي، إلى إحدى المدن غير باريس؟ من كان يقوى على التخمين، قبل عقود قليلة، بإمكان زيارة أحد المتاحف، وهو مستلقٍ أمام حاسوبه في غرفة نومه؟
عالم الفن يتعولم، بطبيعة الحال، بما يشمل أطرافه كلها. وبات واضحاً أنه يتماشى ويواكب التقنيات الحديثة، ويستثمر أساليب التأثير على الجماهير، مخففاً في صورة متزايدة من حمولات الفن "الثقيلة"، السابقة، لصالح حمولات "خفيفة"، قوية التأثير، وبلمحة بصر، وسريعة الزوال.
التغيرات أكيدة، تصيب "منظومة الفنون" نفسه، حيث أن فنوناً جديدة (السينما والتصوير الفوتوغرافي في النصف الأول من القرن العشرين، والشرائط المصورة منذ عقود قليلة) "دخلت" وباتت مقرة، من دون أن تتابع فلسفة الفن، أو الجمالية، مثل هذه التغيرات بما يناسبها من أطروحات وتفسيرات وتعيينات مناسبة.
التغيرات تصيب الفنون "القديمة" بدورها: الشعر بات "أخرس"، بمعنى ما، أو أن صوته بات غير مسموع، ولا يظهر من دون "معونة"، فضلاً عن تهديد الرواية المتعاظم له.
حتى المهن تتبدل: بات الصحفي أوسع تاثيراً من الناقد، والباحث في نطاق الإنتاجات الثقافية المعاصرة بدل مؤرخ الفن أو الجمالي أو فيلسوف الفن...
---

كيف للخطاب الجمالي أن يتكفل بالفن، بالعمل الفني، إن كانت الظروف التي ينبني فيها الفن قد تبدلت هي نفسها؟
ألنا، أن نكون على الشرفة، ومارين في الشارع، في الوقت عينه، مثلما قال أوغست كونت؟ أهذا ممكن؟ هل يقوى الخطاب على حفظ "المسافة" (التي تحدث عنها والتر بنجامين) بين الدارس والعمل الفني؟
ألنا أن نتحدث عن خطاب جمالي من دون أصل؟ أي أن يعترف الخطاب سلفاً ويقبل بكل أشكال الفن، وباحتمالاته؟ أللخطاب الجمالي أن "يأتي بعد"؟
سبق لي في كتابي: "العين واللوحة: المحترفات العربية"، أن أطلقت على الخاتمة تسمية: "خاتمة إشكالية"، وطرحت فيها السؤال منذ العنوان: "هل "انتهت" اللوحة المسندية؟". وأردتُ من ذلك التوقفَ عند المسألة التالية: عالجتُ، في كتابي هذا، "توطن" اللوحة المسندية، القماشية، في البيئات العربية المختلفة، وانتهيت إلى طرح السؤال ما إذا كانت هذه اللوحة، إذ تتأكد في حضورها العربي المختلف الأوجه، تختفي وتندثر لصالح تجريبية متعددة الوسائل والحوامل المادية؟ وهو سؤال عن خروج اللوحة من التشكيل "المألوف".
كان يمكن أن أبدأ كلامي هذا من لحظة الأزمة المالية الحالية، التي تعصف بالعالم أجمع، حيث أننا أدركنا بصورة مرعبة أننا نعيش - معاً - في العالم؛ بل كنا أشبه بالداخلين إلى سراديب "المترو"، أو المتجمعين في ممراته الداخلية، ممن أصابهم ذعر مفاجىء، إثر سماع صوت غريب أو إشاعة، فراحوا يتدافعون دفعاً، ويدهس بعضهم البعض الآخر، من دون أن يرتدعوا أو أن يتوقفوا عن هذا الإنهاك المتبادل، عن تبديد الثقة بينهم.
عشنا في هذه اللحظة وضعاً يمكن وصفه بأنه خيالي ومادي في آن: فهناك من كبار أصحاب الرساميل من خسروا ربع أو نصف ثروتهم، على أن ما خسروه – مثلما كان عليه ما ربحوه – لا يلمسونه، ولا يمكن أن يعثروا عليه أو يحجزوه في "خزانة سرية". إنه تراكم وهمي وحقيقي في آن. مثل عالم الفن نفسه. هل يمكن أن يصيب عالمَ الفن ما أصاب عالم المال؟
"سؤال الفن" ((The question of art لمؤلفه البريطاني نايغل ووربيرتون (Nigel Warburton ، الصادر في العام 2006، يفشل في تقديم جواب شاف عن السؤال المطروح، بين ما يطمح عليه في بداية كتابه وما ينتهي إليه في ختامه. وما فشل فيه لا يعين ضعفه، بل صعوبة السؤال نفسه، ما أدرجه في سؤال آخر، أكثر بديهية: هل يقوى الخطاب عن الفن على تعريف نفسه؟ وهو ما أتبعه بسؤال آخر: كيف للخطاب الجمالي أن يتعين بين "توحد" السوق و"تشظي" الفن؟
وهو سؤال يصيب تاريخ الفن في المجتمعات والثقافات، وبين الأفراد، طالما أننا لسنا في صدد تمرين نظري أو كتابي، وإنما أمام باب إشكالي، فلسفي بامتياز، وهو غير أسئلة الفلسفة النظرية المجردة، بل يتناول ما يمكن للخطاب الفلسفي أن يكون عليه في معاينته وفحصه لما يجري. وهو سؤال يعيد الخطاب الجمالي إلى أسئلة بديهية طالما تجاهلها منذ هيغل على الأقل، حين أسقط الفنَ – وإن توسله – لصالح مثال فلسفي مجرد على الرغم من كل تعييناته وحمولاته. ومما تجاهله أيضاً، وله أن يعيد النظر فيه، هو تأثير "المذاهب" الجمالية على إنتاج الفن على ما ظهر في العديد منها، ولا سيما المتأثرة بالماركسية وروافدها.
خطاب الفن لم يسلم، إذن، مما أصاب خطاب الفلسفة نفسه، ولا سيما بعد أن تحول إلى خطاب "عقيدي" نسى أول دروس الفلسفة في الجدل الإغريقي، وهو الجدل نفسه، حتى "البيزنطي" منه. أليس على الخطاب الجمالي أن "يأتي بعد"، بدل التطلع أو التنطح لرسم الفن قبل حدوثه نفسه؟
كيف لنا، إذن، أن نفهم مثل هذه التغيرات؟ هذا ما حاولته بالوقوف عند مؤلفَين تعود تآليفهما إلى النصف الأول من القرن العشرين، بعد أن وجدت فيها التعبيرات النظرية الأولى لفهم هذه التبدلات، وهما: والتر بنجامين وهربرت ماركوز.
سعى بنجامين، وإن في صفحات قليلة، إلى التحقق من دور التقنيات الحديثة وتأثيراتها على العمل الفني، سواء في إعادة الإنتاج أو في التوزيع. وتساءل فيه ما إذا كان استصدارُ نسخٍ متعددة عن العمل الفني، لتقديمها في الوقت عينه لأعداد من الجمهور، يؤثِّر أم لا على العمل الأصلي. وهو سؤال ما سبق لفلاسفة الفن أو جمالييه أن طرحوه، حيث أن بنجامين يتنبه ويفحص دخول عامل جديد، هو الصناعة والوسائل الجديدة، إلى عالم العمل الفني. ذلك أنه خرج من المتحف أو صالة العرض أو من مكان عرض المجموعة الفنية، كما خرج من المنسوخات والمصبوبات التي كانت تحفل بها المتاحف ومدارس الفن ومحترفاته سابقاً، كوسيلة للتعرف على أعمال الفن، أو لاستنساخه في تمارين الطلبة. خرج من هذه كلها إلى عالم بات "خيالياً"، كما وصف أندريه مالرو عالم المتحف الجديد في كتابه: "المتحف الخيالي" (الذي يبدو أنه استفاد بقوة كبيرة من الانعطافة الحاسمة التي أحدثها بنجامين في درس الفن). وهذه اللحظة تعينت في أن الفن لم يعد مقيماً في "علياء"، ولا في مؤسساته المعهودة، بل بات "مقتنى" جماهيرياً بفعل الأدوات الصناعية الجديدة. وهذا الوجود الجديد، "الخيالي"، كما قيل، وهو الوجود اللامادي-المادي في آن، بات يعين جانباً أكيداً من عالم الفن. وهي إزاحة واقعاً للعمل الفني، والفنان، والمتلقي، ودارس الفن، لم تُدرس تماماً وبشكل وافٍ ابتداء من هذه اللحظة.
دخلنا، حسب بنجامين، في عهد "التواصل الجماهيري"، واقعاً، وذلك قبل عقود على ظهور التلفزيون والحاسوب والتلفون الجوال ومتعلقاتها. وما يشغِّل، حسب بنجامين، هذا الحراكَ الهائل هو الدخول في عهد "آلي"، "تقني"، هو عهد الرأسمالية في وثبة جديدة لها، تريد منها تقوية وتسريع نطاق "التداول" وآلياته ووسائله: تداولٌ يفقد فيه الفن "هالته" لكنه يكتسب هالة مغايرة، هي هالة الفن بوصفه سلعة استهلاكية قابلة للمفاوضة والمزايدة والمضاربة... وهو دخول في عهد "مالي" سبق لي أن درسته في كتابي: "الفن والشرق..."، وعيَّنته، وفقاً لمعلومات وتقديرات، في نهايات القرن التاسع عشر.
يقول مارك جيمينز: "إن أفكار بنجامين عن انحطاط الهالة تعنينا، اليوم، لأنها تذهب أبعد من اللحظة التاريخية التي تولَّدت فيها. إنها تلتقي، واقعاً، مع الانشغالات المعاصرة حول الدور الغامض لوسائل الإعلام إزاء الفن والثقافة" (ص 362).
يلحظ بنجامين، في بحثه، وجود حاجة متزايدة لدى الجمهور إلى "تملُّك الغرض في الصورة وفي إعادة إنتاجه". ويمكن القول، منذ ذلك الوقت، إن التلفزيون والتقنيات الجديدة يلبّيان تماماً هذه الحاجة. ولكن ألا يمكننا ملاحظة غموض هذه الجيرة الإعلامية: فهذه تُوهمنا، غالباً، بأننا نعيش الأحداث في بث مباشر، في المكان عينه، وهي ظاهرة إيجابية طالما أنها تزيد من معرفتنا. بالمقابل، إن هذه الجيرة نفسها مضلِّلة: تدفعنا إلى الاكتفاء بهذه التجربة الإعلامية على حساب التجربة المعاشة.
هناك إزاحة جديدة، وهي تنقلنا من عيش التجربة إلى عيشها المختلف بعد وقت، مثلما يحدث لنا، اليوم، مع تقنيات الفيديو، حيث أننا نعيش بعد وقت ما كان لنا أن نعيشه عند حدوثه. ولو أردنا الذهاب أبعد في استجلاء مبكر لهذه الإزاحة لانتبهنا إلى أن مؤديات دخول الفيديو وغيره قلب عادات السلوك الفني، حيث أننا بتنا نستحسن التفرج على الفيلم من دون الذهاب إلى صالة السينما، وإلى محتويات المتحف من دون الذهاب إلى المتحف...
إنه "هزال التجربة"، حسب بنجامين، طالما أن التقنيات الحديثة - وإن وسَّعت من حجم الإعلام الذي يبلغنا بيسر وبحبوحة - لا تشدِّد ولا ترفع من المتطلبات الجمالية، ولا "تربِّي" ذائقتنا الفنية، كما في السابق. أمام هذا "الزحف" الأكيد لا يقوى "النقد" على فعل شيء كبير؛ وهو ما يمكن قوله في فلسفة الفن وفي الجمالية أيضاً، حيث أن العملية الفنية، بشروطها الجديدة، باتت تستدعي مهارات ولياقات وخبرات وسلوكات غير السابقة: إنه عهد المال-المَلك، عهد التداول، عهد السرعة والصدمة الذي يزن أكثر من المضمون. يستنتج بنجامين: "يا لهم من حمقى من يَشكون من انحطاط النقد. ذلك أن ساعته أزفَّتْ منذ وقت بعيد للغاية". كما يسجِّل أيضاً: "إن الرؤية الأكثر أساسية، اليوم، التي تذهب إلى لبِّ الأشياء، الرؤية المركنتيلية، هي الدعاية. إنها تدمِّر هامش الحرية اللازم لأي درس، وتَرمينا، على وجوهنا، بالأشياء، بطريقة خطرة للغاية، كما لو أن سيارة تتَّجه صوبنا، وهي تهتزُّ فوق الشاشة، فيما تَكبر صورتُها أكثر فأكثر" (في كتابه: "وجهة وحيدة"، ص 220).
الدعاية باتت متوافرة بقوة، بل أزاحت "النقد" بدوره، بعد أن أزاح المال – في مضارباته "المجنونة" – إمكان احتكام الفن في مرجعياته إلى أسس في الفلسفة، في الماورائيات، في الجماليات، في بناء المعاني الجديدة. بات العمل الفني مطروحاً في السوق، وبات يتطلب كذلك سياسات في التعريف به، في الترويج له، في "تثمير" قيمته، غير بعيدة عما يصيب أي سلعة استهلاكية في مجتمع التسوق الجماهيري، وفي مجمعاته الكبيرة. وهو ما يقود بنجامين إلى طرح سؤال مبكر في استشرافه، وهو التالي: أما عاد حلم الإنسان يتعين في عالم "ميكي" الساحر؟ أما عاد متعيناً في عالم وولت ديزني؟
ظهرَ بحثُ والتر بنجامين "العمل الفني في عهد إعادة إنتاجه الآلية"، للمرة الأولى، في العام 1937، قبل ثلاث سنوات على انتقال هربرت ماركوز إلى الولايات المتحدة الأميركية للإقامة فيها. أطلق ماركوز على إقامته هذه تسمية "المنفى"، لكنه ما لبث أن سمى بلده الجديد: "مجتمع الاستهلاك". وهو ما سينصرف إلى درسه جاعلاً من انتقالته المبكرة إلى "العالم الجديد" مجالاً للفحص؛ وهو ما سيصيب أعداداً من الفنانين والدارسين بعده، إذ ينتقلون بدورهم إلى الولايات المتحدة الأميريكة، ولا سيما بعد الحرب العالمية الثانية. وهي أكثر من انتقالة للفنانين، إذ تبدو في بعض وجوهها انتقالة للفن نفسه، ما سيظهر في موجات الفن الأميركية المتتالية. يشير ماركوز في كتابه الأشهر، "الإنسان ذو البعد الواحد. مقال عن إيديولوجية المجتمع الصناعي المتقدم"، إلى جنوح الرأسمالية الأميركية صوب مجتمع "مغلَق"، وهي "تعمل على الإمساك بجميع أبعاد الوجود، وعلى إدماجها بها، سواء أكانت خاصة أم عمومية". ويشير "البعد الواحد" تحديداً إلى إخضاع جميع الأنشطة الإنسانية للنسق التجاري، وإلى انصياعها للإنتاجية، وفق مبدإ النفع. ويلحظ ماركوز حلول العنصر الرغبوي (الجنسي تحديداً) في العملية الفنية، بل في أي عملية للتأثير على الغير، سواء أكان فرداً أم جماعة، إذ يقول: "إن التعبير الأجلى عن هذا الأمر يتمثَّلُ في إدخالٍ نسقيٍ لعناصر "جالبة للإثارة الجنسية" في الأعمال، والسياسة، والإعلان، والدعاية، إلخ. وبالقدر الذي تحصل فيه الجنسيةُ على قيمة تجارية محدَّدة (...)، تتحوَّل إلى أداة تماسكٍ اجتماعي" (في كتاب "إيروس وحضارة..."، ص 12).
هكذا يستكمل ماركوز ما سبق لبنجامين أن اختطه... وهو ما يتابعه بدوره تيودور أدورنو، حيث أنه يباشر بدرس علم النفس الجماهيري، دارساً أثر وسائل الاتصال الجماهيري على الفن وعلى الثقافة التقليدية.
نحت أدورنو لهذا الغرض (مع زميله ماكس يوركهايمر) مصطلحاً بات، اليوم، شائعاً، وهو "الصناعة الثقافية"، لتحديدِ ظهورِ ثقافة منمَّطة، مشروطة وموضوعة للتجارة وفق شروط نمط السلع الاستهلاكية. وهو ما يستعيد ويستكمل ما بدأ به بنجامين وماركوز تحديداً.

هذا ما يمكن ان يستدل به أي خطاب جمالي حديث، إذ أن له – قبل أي شيء آخر – أن يتخلى عن تطلعه السابق، حيث كان "يسبق الفن" أو "يسابقه" في أدنى الأحوال. للخطاب الجمالي أن يعاين ما يجري، أن يتحقق مما يتغير، وأن يسعى إلى تفسيره فضلاً عن تقويمه. هذا ما أشرت إليه بأن يأتي الخطاب "بعد"، آخذا في عين الاعتبار أن الفن نفسه اتخذ سبيل الفلسفة ونهل منها منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولا يزال.
بات على الفلسفة أن تتخلى عن طموحها السابق، وهو بناء نظرية قادرة على فهم مدارات الحساسية والتخيل والإبداع. وإلا فأن سؤال، أو خيار فريدريك فون شليغل لا يزال مطروحاً: إما الفن، أو الفلسفة.
السؤال مطروح سواء على الفلسفة أو على الفن، إذ أن حيرة الفلسفة أمام مشهد الفن الحالي نوع من ترفعها عن المشاركة في "هياج جماعي"، حول العولمة او التجريب أو "نهاية الفن" فيما لا يتعدى الأمر، وفي واقع الأحوال، سوى طريقة ضاجة للفت الانتباه، للدعاية، بما لا يجدد متعة التشارك والتواصل بين استثارة الانفعال وطلب الحقيقة.
(ورقة عمل في الندوة الدولية المناسبة لبينالي الإسكندرية، 17-18 – 12 – 2009).