انعقدت مساء أمس الأحد (4-1-2010) الجلسة الأولى من ندوة "فرنسا والعالم العربي" حول الفنون (السينما، والمسرح، والفنون التشكيلية)، وعملية التأثر والتأثير بين الفنون العربية والفرنسية. وشارك في الندوة كل من الباحث الأديب الناقد الدكتور شربل داغر، والفنان يوسف أحمد، ومدير تحرير التلفزيون الفرنسي "TV5 Monde" سليمان زيغيدور، وأدار الجلسة الخبير في وزارة الثقافة موسى زينل. وشهدت الندوة حضور وزير الثقافة والفنون والتراث الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري، والأمين العام للوزارة مبارك بن ناصر آل خليفة، ومدير إدارة الثقافة والفنون والتراث في الوزارة فالح العجلان الهاجري، ونخبة من أهل الفن والثقافة، وأبناء الجالية الفرنسية والعاملين في السفارة الفرنسية بالدوحة، وعدد من المهتمين بالثقافة والفن (...).
حصر د. داغر كلامه باللوحة وبثقافة الصورة، وباشر الكلام بقراءة نص قديم للجبرتي يصف فيه صلته الأولى الثقافية والكتبية والفنية بالفرنسيين، بعد حلول جيش بونابرت وغزوه لمصر: "هذا النص (حسب داغر) من أبهر النصوص في وصف الدهشة، وعلى قدر من التحفظ، أمام عالم الصورة الذي كان يشمل الكون. كان الجبرتي يتعرف على اللوحة للمرة الأولى، فيما كانت قد بلغت في فرنسا - على الأقل منذ القرن السادس عشر - مكانة رمزية، فضلا عن القيمة التوثيقية والتاريخية الكبيرة. تُعيِّن هذه اللحظة لحظة افتراق في علاقتنا بالفن، كما كانت قد عززتها العلاقات السابقة على هذه اللحظة التاريخية”. وأشار داغر إلى أن ما كان معروفا من علاقات، قبل هذه اللحظة، سيئ يحكمه تصوران فنيان مختلفان بين أمة المسلمين ومملكة فرنسا، كما كان يتحكم في هذه العلاقات طلبُ فرنسا على المصنوعات النفيسة في الشرق، في المجوهرات والمواد النادرة وغيرها. أما اللحظة المذكورة أعلاه، فيمكن اعتبارها "اللحظة التي انبنت فيها علاقة حول الفن ما انفكت عراها حتى هذه الأيام".
وتابع د. داغر: "ما يمكن قوله حول هذا التاريخ هو أن العلاقة التي أنشأتها فرنسا مع البيئات العربية في نطاق الفن أتت مختلة ولصالحها، من دون أن تحظى في ذلك الوقت وحتى أواسط القرن العشرين بوضعية التساوي العادل بين الطرفين. فكم من المواد الفنية، الشرقية والعربية والإسلامية، جرى فصلها أو سرقتها، أو تم استدراج جلبها في هيئة هدايا، أو شراؤها في النادر من قبل مبعوثين أو دبلوماسيين أو رحالة أو تجار، جعلوا من مواد هذه البيئات محلا لرغبة في التملك والحفظ. هذا ما تحفل به متاحف فرنسا على أنه من فنون الإنسانية، ولكن في عهدة فرنسية، وضمن ملكيتها المادية لا الرمزية، لأن الملكية الرمزية تبقى عائدة إلى الشعوب التي تحدرت منها".
وأضاف قائلا: "هذا التاريخ المظلوم والظالم في بعض وجوهه انتهى إلى فرض الفنون التشكيلية وفق صيغتها الأوروبية في البلاد العربية، وإلى تبخيس قيمة الفنون المحلية والمتوارثة، هكذا أهلتنا فرنسا من حيث طلبت أو لم تطلب؛ لأن نكون مشاركين في فن اليوم، كما هو في عالم اليوم. فما نسميه الفن بالعربية اليوم، وما يحيط به، يعود في جزئه الأول والأسوأ إلى ما أقامته فرنسا في هذه البلاد، وما سعت إليه في سياساتها المختلفة، على مر العقود والعهود. وما يمكن قوله في إجمالي هذه العلاقة هو أننا لم ندخل إلى هذا الفن، بل أُدخلنا فيه. وهو دخول لم تسعفه السياسات الرشيدة، وإنما تكفلت به سياسات متذوق أو أمير أو بعض مستشاريه".
وتحدث داغر عن فنانين عرب زاروا فرنسا ودرسوا فيها، مثل فائق حسن وصليبا الدويهي وغيرهم. "وهذا يصح حتى أيامنا هذه في بلدان الخليج. ففرنسا ظلت في الوجدان والوقائع واجهة الفن عند الفنانين العرب، ولعب فنانون فرنسيون عديدون دورا مؤثرا في أكثر من مدينة عربية، فضلا عن أن فنانين عربا كان لهم دور فاعل وحاضر في الفن الفرنسي مثل شفيق عبود أو أسادور".
"تبدلت إذا، بحسب د, داغر، أطراف العلاقة السابقة بين فرنسا والعالم العربي، "فلم تعد فرنسا مستعمرِةَ الأمس، بل باتت الجارة الأقرب إلينا، بدليل الهجرات والمصالح والمشروعات العديدة معها"، وأضاف: "أرى أننا نعيش منذ 10 سنوات وأقل لحظة جديدة في تاريخ هذه العلاقة في ميدان الفنون، وأكثر ما تظهر في بلدان الخليج. فلا تزال علاقة فرنسا بمعظم الدول العربية علاقة وفق السياسة بين البلدين وعبر اتفاقيات. أما ما يحصل في بلدان الخيلج فهو مختلف، لأنه يناسب من جهة لحظة خليجية تريد من خلالها حكومات الخليج أن تدخل في ميدان الفن دخولاً يمكن أن نصفه أحياناً بالضاجّ، ولكنه دخول قوي، وأربك السياسة الفرنسية إن جاز القول، بمعنى أن ما جرى نقاشه في فرنسا منذ سنوات قليلة شديد الأهمية حول مسألة اللوفر: هل يمكن لمتحف هو المتحف القومي التاريخي أن يصيبه ما تسميه الفرنسية - بلغة الاقتصاد - إعادة التمركز أو التوزيع؟ وحصل نقاش شديد الأهمية تناول خيارات فرنسا، ويدل هذا كله على مدى حرصها على زادها الفني والثقافي، وفي الوقت نفسه على انفتاحها على بلدان الخليج، ولكن هذا النقاش لم يحصل في البلدان العربية للأسف، وبقي في أطر ضيقة للغاية، ولم تتناوله الكتابات بالشكل المناسب: ما هي الخيارات السليمة لهذا البلد العربي أو ذاك في ميدان الفن، وفي لحظة العولمة؟"
وتابع المتحدث قائلاً: "لقد تغيرت اليوم وظيفة المتحف كما رسمت في الثامن عشر. فقد كان زوار المتحف من الفنانين وطلاب الفن يذهبون إلى اللوفر للرسم والتعلم، أما اليوم فإن %70 من زوار المتاحف في العالم من السياح، وهذا ما أحدث تغيرات هائلة".
وأجرى المتحدث مقارنة بين قطر ودولة الإمارات، طالباً أن يتم فهم الموضوع في نطاق بحثي، فقال: "تنتهج قطر حالياً سياسة في المتاحف واضحة بالنسبة لي، وهناك هيئة اسمها "هيئة متاحف قطر" انتهجت سياسة واضحة في السنوات الأخيرة لتنظيم عدة متاحف، وهي سياسة سليمة بطبيعة الحال، وتندرج في إطار ما أسميته السياسات القومية والثقافية والرمزية، أي الدولة التي تبني مؤسسات وتحافظ على جزء من مقتنيات ناردة. في دولة الإمارات هناك سياسة مختلفة، توافق لحظة العولمة - وكلامي وصفي فقط - لا تظهر فقط في استئجار ماركة اللوفر، بل أيضاً في فتح سوق للفن في مزادات عالمية ومعارض، وبالتعاون مع فرنسا. ما أود أن أقوله هو مجموعة أسئلة مطروحة علينا نحن العرب قبل الفرنسيين، لأننا قبل أن نسأل ماذا يمكن أن تكون عليه علاقتنا بفرنسا في مجال الفن، علينا نحن نسأل: ماذا يمكن أن تكون عليه علاقتنا نحن بالفن لكي نختار، وعلى ضوء هذه الخيارات يمكن أن نتعاون تعاوناً مطلوباً وحميداً مع دولة مثل فرنسا، فالأسئلة هي: لماذا مثل هذه السياسة؟ وما موجباتها ودواعيها؟ وما الحاجة إليها؟ أهي ما تحتاجه هذه البلاد في عملية تطورها الفني؟ وهل يمثل هذا القرار أو ذاك جزءاً من سلسلة متكاملة من الخطوات؟ إن انفتاح هذه البلدان على عالم الفن خطوة جديرة بالاهتمام، تتوخى تسريع الدخول في عالم الفن، وفق شروط عولمية جديدة، وهو ما يستحق الانفتاح والمتابعة والحرص خشية أن تأتي الخطوات متعثرة. ما صلة هذه المتاحف بدورة الفن المحلية أو العربية؟ هل تكملها؟ هل تنشطها؟ هل وفرنا للفن ثقافة خاصة به في المدرسة والفن والشارع؟ ماذا عن توثيق الفن وتأريخه؟ ذلك أننا ربما بلغنا نهاية الطريق دون أن نسلك فيه سوى خطوات قليلة. إذاً فليس السؤال هو ما نريد من فرنسا في الفن، بل ماذا نريد نحن كحكومات وأفراد ومجتمعات من الفن، وبالتالي من فرنسا وغيرها؟ وهو نقاش له أن يفتح التعليقات والمناقشات: ما صلتنا بالفنون التشكيلية في هذا البلد العربي أو ذاك؟ أهو خيار معتمد ويتم تشجيعه بالسياسة الحكومية المختلفة أم لا تزال تتحكم به سياسات ظرفية مؤقتة أو تبعاً لبروز حاجات سريعة ومتقلبة؟ هل أصبحت الفنون التشكيلية جزءاً لازماً من سياسات أي حكومة عربية؟ هل أصبحت هذه الفنون متبناة اجتماعياً لا من قبل الأفراد وحسب؟ هل أصبحت مقبولة بالجملة لا بالمفرق، وفي العلانية لا في عتمة الخزائن والبيوت؟ الجواب بين أيديكم" (...).
(جريدة "العرب"، الدوحة، 4-1-2010).