لو طلب الناظر إلى أعمال الفنانة الأردنية هيلدا حياري اتباعَ الخط الزمني لما هو متوافر من أعمالها الفنية، بين أعمال "مدرسية" أو اختبارية أو احترافية، لوجد ما يرضيه في لوحة قد تكون الأولى في أعمالها. وهي لوحة تمثل منظراً طبيعياً، مخضر الألوان، تظهر فيها بقع لونية متعالقة ومتباعدة في آن. وهو ما سيجده بعد وقت، في التسعينيات خصوصاً، من بروز للنطفة أو للخلية في أعمالها. إلا أن الناظر قد يضيع بعد ذلك، وقد لا يجد سوية متتابعة لما يرى، أو في تلاعب إنتاجه وفق هذه الوجهة أو تلك.وهذا الحذر أو الخشية من الشطط يبقى قليلاً لو قورن بتجارب غيرها من الفنانين، حيث أن حياري تبدو شديدة التركز في ما انبنت عليه تجربتها حتى اليوم من خيارات وأساليب. وما يخفف من هذا التتبع هو وقوع الناظر على أعمال، منها "الفيديو" (الذي فازت بموجبه بجائزة التصوير في بينالي القاهرة الدولي)، أو بعض الكتب الفنية (بما فيه كتابها مع الشاعر البحريني قاسم حداد) وغيرها مما يخالف "طريقتها" الفنية. وهي "طريقة" فعلاً إذ أنها استقلت بها، وجعلتها عنواناً دالاً عليها بما يشبه الاسم الجديد، أو الاسم الفني.وما يستوقف في هذه الطريقة هو أن هيلدا جعلتها – كما في الزخرفة الإسلامية، أو في الأعمال الهندسية الطابع – أشبه بالحجر وبالعمارة في آن. فهي تعوِّل على الخلية مادة أو عينة، وتبني بها فضاء هو عينه الذي للمفردة والبناء. وهو تعويل تأخذه كيفما حلا لها: فتجعل الخلية صغيرة، أو كبيرة الحجم أو غيرها من التشكلات. وهو ما يظهر في موقع الخلية من السطح التصويري، حيث أنها تتفرد بنفسها مثل بناء ملتم على نفسه، أو تتراصف وتتلاقي في مجموعات.وما يستوقف خصوصاً في تجربة حياري هو هروبها من الفراغ، فلا ترد مساحة صغيرة أو كبيرة من دون "إشغال"، أو هي تبغي التمتع بما يتيحه لها التصوير من "تعمير" للفراغ، بما يخرجه من الخلاء إلى البناء، أو يخرجه من غفلة اللون أو عتمته إلى جلائه الشديد.وهذا الاكتفاء بالخلية يبدو أقرب إلى الاستحواذ الشديد، إلى الهوس الإلحاحي، كمن لا يقوى على الخروج مما هو عليه، كما هو يستعيد ويستعيد ما يحلو له، في شراهة مزيدة. وهو نوع من امتلاء الشكل بنفسه، من زهوه وكفايته.وهو الهوس الذي لا يصدر أو لا يستجيب لمتطلبات أو خيارات ترتئيها الفنانة كما يفعل فنانون إذ يجربون أو ينوعون في تجربتهم وفقاً لممكناتها الشكلية واللونية، فيخرجون منها إلى غيرها، أو ينوعون فيها، أو يكتفون بجزء منها بما يصغره أو يكبره وغيرها من عمليات تجديد الموضوع. بينما يتبدى الهوس في أعمالها أشبه بالهوس النفسي فعلاً، حيث لا تعود اليد إلا إلى ما كانت عليه. وهو حراك يصدر بالتالي عن هاجس داخلي، عن واعز، بما يسبق اليد إلى اللوحة، والشكل إلى هيئته الاخيرة، واللون إلى بروزه.إذ أن العمل الفني عند هيلدا حياري يصدر عن ولع بالحاضر، باللحظة، عن تفاعلها معه، عن معايشاتها له. وهو ما يتبين أحياناً في بعض تجاربها – لو شاء المتابعُ التدقيقَ فيها – إذ انتقلت من عَمان حيث تقيم وتعمل إلى دكار أو الإسكندرية أو هولندا وغيرها، وهو ما يتبين أيضاً في موضوعات "استفزتها" أو استدعت مخزونها الانفعالي.هذا ما يعطي العمل الفني جانبه الحيوي، التفاعلي، أشبه بإمساك الحق في الكلام، في التدخل، في الصراخ؛ وهو ما تعبر عنه حباري في الجديد من أعمالها، بنقمة وغضب وحزن وإصرار وغيرها. وهو ما تفسره حركتها الدائبة، هنا وهناك، للعمل، للتصوير، لخوض تجارب جديدة. وهي قابليات واستعدادات جديدة لم تكن متوافرة للفنانين قبلها، فيما أصبحت سمة محددة لها. وهو ما يقربها من تجارب فنية عديدة غربية، حيث نلقى الفنان ميالاً إلى التنقل، إلى السفر الشديد، إلى الخوض في غمار الثقافات والقيم، في عالم "تَعَوْلمَ" فوق اللوحة والحامل الفني قبل غيره من الأعمال.وهو ما يقوم بين حدين واقعاً: بين ما تظهر عليه المواد التي ينبني عليها تشكيلها من ثبات واستمرار وتأكيد، وبين ما تبدو عليه هذه المواد من تغيرات وتبدلات، هي مؤدى التفاعل الحيوي مع الحامل المادي، من جهة، ومع ما يحرك مخزونها الانفعالي، من جهة ثانية. ذلك أن الفنانة الاردنية تعمل فوق اللوحة، على أنه لا يغيب عنها أنهما – هي ولوحتها - تقفان فوق أرض الواقع. هذا ما يتعين في تعبيرات تشكيلية لا تسلم منها أدواتها الفنية على تنوعها، إذ نراها تجدد فيها وتبدلها وتنوعها، وتستعملها استعمالات جديدة، ما يجعلها تعتني بالعمل الفني عناية بنائية، وهو ما يفسر التغير الذي يصيب عدتها الفنية حيث تنتقل من عدة إلى أخرى، بين لوحة وكتاب وفيديو وغيرها.إلا أن عنايتها هذه تتفاعل وتتجاوب مع ما تقف فيه وترى منه إلى ما يحيط بها، من معايشات وتجارب، وما ترى إليه في أفق انتظارها: ما يحدث وما لا يحدث؛ ما يُسرُّها وما يُغضبها، ما تحزن له ومنه وما تتبرم منه. وهو ما تُبلِّغه الشحنة الانفعالية في انسيابات الخط، أو في لطخة اللون، أو في تكسر الشكل أو في تدافع الألوان بين بعضها البعض.لهذا تتعين تجربة هيلدا حياري في لحظة اتصال وافتراق في آن معاًَ: بين إرث اللوحة المتمادي وبين تغيرها المستحدث في مساعي التجريب التشكيلي. وهي لحظة تتعين فوق العمل الفني، بين ما احتفظ به وما ينفتح به على غيره. فلا يأتي تجديدها خالياً من الانفعال، مثلما هو عليه الحال في أعمال تخلص إلى برودة الفكرة أو التصميم أو المفارقة الذهنية، إذ تنهل من معين التجربة، من مخزون العيش، من مكابدات الوجود. لهذا يتعين على دارس أعمالها أن يسلك مسالك دقيقة وحاذقة وخفية لكي يتبع تعرجاتها، أو يلحظ تبدلاتها: أن يلحظ، على سبيل المثال، غرافيكية بارزة في أعمال كتابية، وغرافيكية أخرة متفلتة من أي حساب. وهذا ما ينجلي في صورة أفضل لو رأينا إلى بنية اللوحة، حيث أنها ذات حدود بينة في بعضها، مثل مشهد مكتمل، وفي بعضها الآخر ذات بنية مفتوحة، قابلة للتصغير أو التكبير، على ما تطلب وتشتهي.وهو ما لا يكتمل فهمُه من دون النظر إلى بناء تجربتها الفنية على أنه يتم تبعاً لشاغل وجودي على أنه شاغل تشكيلي في المقام الأول. ففنانون غيرها (ولا سيما بعض العرب) يستعجلون في الاستجابة إلى ما يحرضهم "خارج" اللوحة، فيما هي تبني علاقتها المتفاعلة معه ابتداء من لوحتها نفسها، من حلول تجدها في ممكنات البناء الفني نفسه. لهذا لا تهتم حياري كثيراً بموضوع تصويرها (وهو محدود العناصر، كما سبق القول)، وإنما تعتني بضربتها، بأشكال نزولها فوق الحامل المادي، على أنه نزول الشكل، الذي يبدو مثل مرآة للانفعال. (تقديم في كتاب عن تجربتها الفنية، عَمان، 2009).