يحلو لي، في الكلام عن الفنان الراحل الدكتور أحمد باقر، أن أرى إليه من منظور "الرائد" الذي كان عليه، وعلى أكثر من صعيد. وإذا كان "الرائد" في العربية هو من يتقدم الجماعة لكي يتفقد مصادر المياه ووجود المراعي، متحققاً من مناسبتها للنزول والإقامة، فإن هذه المعاني تصلح في أحمد باقر، الذي يبقى علامة منيرة في مستقبل الثقافة. والرائد، إذ يستبق غيره، يفكر في الخيارات، لا في نوايا وميول ونزعات فردية، على أن ذلك في الفن يتعين في بناء العلامة والقيمة.
وهو ما حصل لي معه، منذ لقائي الأول به، إذ تعرفتُ إلى فنه قبل أن أتعرف إلى شخصه. كان ذلك في المعرض السنوي السادس والعشرين للفنانين التشكيليين البحرينيين، في العام 1997، إذ كنت مُحكِّماً فيه، وكان لي شرف إعلان فوزه بجائزة "الدانة"، الجائزة الكبرى.
ما استوقفني، يومها، هو إقباله على الرسم بقلم الرصاص، وهو ما كان قد اختفى منذ عقود من عدة التشكيليين، فكيف في المسابقات الفنية! كان الرسم الفائز عن عازف عود، ما عالجه باقر بضربات قلم مجرَّب ودينامي، فلا يدري الناظر إلى الرسم ما يولد في نفسه مثل هذا الدفق من الانفعال: أيولده انفعال الفنان بما يعايشه مع الفنان الآخر، العازف؟ أم يولده انفعال الرسام بما يرسم؟ أم انفعال المتلقي بما يبلغه من اجتماع لحظة جمالية مشدودة، متوترة، مثل ما يقوى عليه العزف وحده بين الفنون؟
يقوى الدارس ناظراً إلى هذا الرسم أن يلحظ فيه متانة الرسم، المبنية على اهتزاز الخط وثباته في آن، حيث أن ضربة باقر تتشبه بضربات العازف على عوده: ضربة مركزة ومتلاحقة، هي وغيرها، في تتابعٍ تُلاحق اليدُ فيه النَّفَس. كما في إمكان الدارس أن يلحظ انبناء الرسم على لحظة مفتوحة، على شكل قيد التشكل. فالفنان لا يرسم إلا ما هو قيد الإتيان، مثل رغبة طافحة بثمارها. هكذا يُبطل باقر ما في الرسم من وصف، من جمود، لكي يوجده، لكي يبنيه، في الحركة الدينامية التي تُخرج الصورة الثابتة – والفنون التشكيلية صورة ثابتة في أساس بنائها – من ركونها إلى ألفة كيانها صوب صورة حركية.
كما يقوى الدارس على انتباه ما للقلم من إمكانات تشكيلية ولونية في عمل باقر. فهو يبني خطاً، خطوطاً، بل تدرجات خطية، ما يُدخل الرسم في دينامية شكلية غير مسبوقة، إذ ما عاد القلم يرسم خطاً، بل "مناخاً"، وهو ما للأصباغ اللونية من قدرة على فعله، على توليده: بات القلم، وفق هذه الطريقة في العمل، وفق هذا الإنشاء، أقربَ إلى الملوانة، إلى حاملة ألوان المصور. وبات الرسم شبيهاً بعود ولكن بوتر واحد، على أنه كاف لأوسع الأنغام وأعذبها.
في هذا كله طور الفنان باقر، بل عدل من قابليات القلم والرسم، بقوة وارتعاشة في آن. وهو هذا الجمع النادر الذي يقوى عليه الفنان الذي يختصر – إذ يستعيد حركات الإنسان لامساً الأشياء أو متمثلها – يختصر تاريخ ممارسة الصنع نفسه، ويقترح جديداً لها، ومنها لنا.
كان لي بعد ذلك اللقاء أن التقيه مرات ومرات، سواء في البحرين أو في بيروت، أو على الهاتف، وأن أتعرف إلى شخصه كما إلى مصادر فنه. وانتبهت حينها إلى أنه درس الرسم كما التصوير في تحصيله الجامعي في "المدرسة الوطنية للفنون الجميلة" في باريس. وهو الولع عينه الذي يجده الدارس إن تتبع مراحل فنه الأولى، بل علاقته الأولى بالتشكيل، وهي فوزه بجائزة في مسابقة الرسم أجرتها "شركة النفط" لطلاب مدارس البحرين ومدارس المملكة المتحدة، وهو في الثالثة عشرة من عمره. وهو ما لن يتوانى عن فعله، في معرضه الفردي الأول، في العام 1972، في "مدرسة المنامة الثانوية للبنين"، الذي خصصه للرسوم بالقلم الرصاص.
إلا أن لأحمد باقر وجوهاً متنوعة، جمع فيها بين الفنان ودارس الفن وأستاذ الفن. ومن يتتبع أعماله المختلفة يلحظ أنها تلتقي في مسؤوليات "الرائد" التي اضطلع بها، وهي تأسيس أكثر من قاعدة للفن في البحرين: في ممارسة الفن، في التنشئة الفنية، وفي بناء ثقافة مرجعية للفن.
هذا ما اتضح منذ انصرافه الدراسي إلى الفن، حيث أنه جمع بين درس ممارسات الفن في باريس، وبين درس تربية الفن في "ويلز" البريطانية. ولقد تجشم باقر في ذلك مصاعب تعلم لغتين، فيما كان يقبل على تعلم لغات أخرى، فنية ومنهجية وغيرها. وهو لم يكتف بتحصيل شهادة، بل سعى وحصَّل شهادات عالية عديدة ومختلفة، وبلغ بها درجة شهادة الدكتوراه في إحدى أفضل الجامعات، وهي جامعة باريس الأولى في "السوربون الجديدة".
وما استوقفني في سيرته الدراسية استوقفني في سيرة غيره من فناني هذا البلد، وهو أن البحرين "نوَّعَ" في كليات التعليم التي انتدب إليها طلابه المميزون، أو ذهبوا إليها بأنفسهم: هذا ما فعله باقر بين فرنسا وبريطانيا، وهذا ما أجده في سيرة فنانين عديدين، حيث أنهم درسوا سواء في فرنسا أو في بريطانيا أو في الولايات المتحدة الأميركية أو في القاهرة أو في بغداد... وهو تنوع محمود، إذ يفك الأسر الثقافي الموروث من الاستعمار، ويتيح للحركة الفنية تنوعاً خصباً ومنتجاً في أصولها ومرجعياتها.
هذا النهج التأسيسي حمل، عند باقر، علامة مزدوجة، بل مركبة: تأهيل الفنان وتأهيل الفن في الوطن. وهو ما يلحظه الدارس منذ موضوع أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه، حيث كان: "أبحاث ودراسات في الفنون وتاريخها في البحرين".
وهو ما استكمله باقر في الوطن، بعد انتسابه إلى "جامعة البحرين"، حيث كان له دور تأسيس "مركز البحرين للفنون الجميلة والتراث" في العام 1996 . وإذا كان لي من ملاحظة في هذا المجال - وهي حاصل نقاش سابق مع الفقيد الكبير، وليتقبلها القيمون على الجامعة وعلى الفن في هذا البلد العزيز من باب النصح والتقدير – فهي أن البحرين كان مؤهلاً، ولا يزال، وأكثر من جيرانه، لأن يطلق كلية أو برامج أكاديمية للفنون التشكيلية، وهو البادىء قبل غيره في الخليج بعمليات التعليم والتربية، وعلى أكثر من مستوى دراسي. يحز في نفسي – وكان الراحل طلب مني استشارة فنية في هذا الخصوص – أن يتأخر البحرين عن الركب، ويسبقه غيره، فيما هو مؤهل لذلك، ويتمتع بمواصفات لا تتوافر لغيره، ولا سيما في وجود حركة فنية نشطة وبيئة فنية مناسبة وتعليم جامعي راق ومتجدد.
وما ابتعد اشتغال باقر في التأليف، في ميدان الفنون، عما فعله في التعليم نفسه، حيث كانت عينه حريصة ومتأنية في ما لها أن تفعله وترصده وتدرسه وتقدمه وتعرضه على غيرها. وإذا كانت لباقر إسهامات مختلفة في التأليف، منها وضعه في العام 1980 أول كتاب عن الفنون في البحرين، وهو: "الفن التشكيلي المعاصر في البحرين"، أو كتابه الآخر في العام 1981 بعنوان: "التصوير الضوئي"، أو كتابه في العام 1993 بعنوان: "الفن التشكيلي في البحرين" (منظمة الألكسو)، وغيرها الكثير، فإنه يحلو لي التوقف عند كتابه المرجعي: "مجيء الفن بمفهومه الأوروبي إلى العالم العربي"، الذي كان لي أن ناقشته فيه قبل صدوره وبعده، كما عولت عليه في كتابي: "العين واللوحة: المحترفات العربية". ويحلو لي، في هذا المقام، التوقف عند نقطة بعينها تطرق إليها باقر في هذا الكتاب، وهي التنبه إلى لوحات غير معروفة للتصوير في الخليج، ولا سيما التصوير على السفن.
هذا الوجه مغيب من تاريخ الفنون المحلية، سواء الخليجية أو العربية، ويمكن للدارس أن يتحقق منه، من تعييناته المختلفة في أكثر من صيغة في البلدان العربية المختلفة: هذا ما نراه في مصر في الرسوم والصور (على الجدران خصوصاً) التي ترافق عودة الحجاج إلى أهاليهم وبيوتهم؛ وهو ما يظهر في الرسوم على الزجاج سواء في تونس أو في سورية، أو في الأوشام وغيرها من معالم الزينة في المغرب والجزائر...
ما يعنيني من إثارة هذه النقطة، هنا، هو التنبه – وإن باختصار – للمسألة التالية، وهي رصد تجليات الفن في التاريخ المحلي وفق منظور أوسع مما تقوم به دراسات الفن اليوم: فهي لا تعبأ، على سبيل المثال، بما انتبه إليه باقر في كتابه، وهو وجود تصوير "شعبي" (إذا جازت التسمية)، ولفنانين مغمورين، في البحرين منذ مطالع القرن العشرين، وقبله ربما، أي قبل التاريخ "الاحترافي" للتصوير فيه. ومن يعود إلى هذه اللوحة (التي هي من مقتنيات الفنان، على ما أفادني، وأورد صورة عنها في كتابه، في الصفحة 63)، يتحقق من تشابهها مع فن التصوير على الزجاج، أو مع "فن المثبت" (كما يسمى في تونس)، حيث نجد في هذه اللوحة المسعى الفني عينه، ومن تجلياته إقبال الفنان على إيراد أسماء من يظهرون في اللوحة، وهو ما أقبل عليه الفنان البحريني فيها إذ كتب اسم: "القائد" تعييناً لموقعه في السفينة، ولأهميته من دون شك. وينسب باقر، في كتابه، هذه اللوحة إلى تقاليد التصوير العربي-الإسلامي القديم، ويفيد عن رواجه واستمراره في بيئة ملاحي السفن وصيادي اللؤلؤ في البحرين. وهي التفاتة طيبة وموفقة، يستحسن بالدارسين الاهتمام بها، والعمل وفق مقتضاها. ذلك أن تاريخ الفن في الخليج يتعين في معنى أوسع مما هو عليه في دراسات اليوم: لا يمكن أن نختصر هذا التاريخ بتاريخ اللوحة وحدها، كما لا يمكن ان نختصر تاريخ اللوحة بتاريخ إقبال "أول" فنان على إنتاج لوحة زيتية.
مثل هذا الفهم محدود، بل قاصر تاريخياً وفنياً، لأنه لا يأخذ في عين الاعتبار ظهور أو وجود تقاليد فنية سابقة على اللوحة، من جهة، كما لا يأخذ في عين الاعتبار، من جهة ثانية، مدى قبول الجماعات والأفراد، في هذه البيئة أو تلك، بما أسميه "ثقافة الصورة"، وأعني بها دخول وسائط ذوق وفن جديدة إلى هذه البيئات تلتقي حول مسألة الصورة بمعناها الواسع. فتاريخ الفن في البحرين – وإن كان الأول خليجياً – لا يقتصر على الفنانين الأوائل فيه، مثل باقر وغيره، وإنما يتناول أيضاً – وعلى سبيل المثال - اهتمام القارىء البحريني بها تنشره مجلة مصرية عن لوحة إيطالية بعينها. وهو ما يمكن قوله في تغيرات الإثاث والزينة والتمثل والقيم وخلافها في المجتمع، وما عنته من سلوكات ومبادرات وتدبيرات في المسكن تحديداً، وقبل المدرسة أو صالة العرض.
أيها الحفل الكريم،
أيها الأصدقاء،
إذ يغيب الأقرباء، الأحباء، الأصدقاء، نحزن لغيابهم، في أي عمر غابوا، لكننا لا نلبث أن نتبين أن لهم مقعداً دافئاً دوماً فوق مائدة الشراكة، وشمعةً مضاءة في زيت الألفة والبهجة، ما يجعل التحقق من غيابهم احتفالاً مستلحقاً بهم، وإن على خلفية موسيقى حزينة.
إذ يغيب المبدعون – ومنهم صديقنا أحمد باقر – نحزن لغيابهم، لكننا نتأكد من أن مائدتهم منصوبة أبداً، وهي أرحب من أن تسعها صالة، أو بيت، أو حتى متحف؛ هي تتجدد، بل تولد من جديد في عيون من يروا إليها: ففي كل ارتعاشةِ عينٍ ميلادٌ جديد لانفعال من الشراكة الجمالية، التي تبقى أصعب من أن تحد.
(ألقيت في حفل تكريمي، في ذكرى السنة، في 17 أيلول=سبتمبر 2009، في مركز الشيخ محمد آل خليفة، البحرين).