"الصغير بوسيه"، لما أدركَ أنه مُقبل على ضياع مؤكد، وزَّعَ حصى في طريقه، لكي يسترشد بها في متاهته المحتملة، ويعود من جديد إلى حيث كان. هذا التصرف يكاد أن يكون تصرفَ المصور الكلاسيكي، الذي لم يتصور الفن خارج طريق بعينه، مضمونٍ، وممتدٍّ بين الانطلاق والوصول.
هذا ما ظهر في مدن إيطالية، منذ القرن الخامس عشر، بين الفنان واللوحة، وبضمانات محددة: كان المصور يتأكد، قبل مباشرة عمله، من "الموضوع"، مما يريد تصويره. كما كان في إمكان الزبون أن يتأكد من أكثر من ذلك (من عدد الأصباغ اللونية المستعملة، مثلاً)، قبل القيام بإنتاج اللوحة... هذا ما كان يحصل قبل البدء باللوحة؛ وهو ما يستطيع الفنان، والزبون، التأكد منه بعد الانتهاء من إنتاجها.
كانت هذه العلاقة تتمُّ وجهاً لوجه بين الفنان والزبون؛ ووجهاً لوجه، بعد وقت، بين المتفرج واللوحة. وهو ما كان يلتقي في نظرة، وجاهية هي الأخرى، تجمع بين عين المتفرج وبين نقطة بعينها في بناء اللوحة. هذه العلاقة مكفولة أكثر من حيلة "الصغير بوسيه"، إذ هي أقرب إلى أن تكون عقداً له بنود مختلفة؛ وهو عقدٌ قابل للاسترداد والاعتراض والمقاضاة. بل يمكن تشبيه هذه العلاقة بسكة حديد تسير في اتجاهين، بين ذهاب وإياب.
هذه العلاقة ليست مكفولة إذ يتنقل زائر هذا المعرض بين معروضاته؛ وهو ما خبرتُه بنفسي إذ انتقلتُ لرؤيتها، قبل عرضها، في أكثر من صالة عرض ومحترف وبيت في بيروت وخارجها. العلاقة اختلت، بل باتت خطرة حتى حدود الضياع، ولا تنتظم في طريق واحدة يسلكها الفنان والمتفرج والدارس وغيرهم؛ عدا أن الاتصال بين الخطى، بين المنطلق والوصول، لم يعد ممتداً في صورة ثابتة. ذلك أن الأعمال تقوم على علاقات مختلفة، معقدة أحياناً، بين ما تنطلق منه وما تصل إليه.
إنها "أعمال فنية"، كما سأسميها، لا توافقها أسماء سابقة، معروفة مثل: لوحة، تمثال وغيرها. ما هو معروض لا يكتفي بنفسه (مثلما كانت عليه اللوحة)، حتى إن العمل الواحد يحتاج إلى عمل ثانٍ وثالث وأكثر (شمعون، الرواس، دارغوث، نحاس، كرباج، غريب، كلش، كرم...) لكي ينتظم حضورُه. كما أن عدداً من الأعمال يأتي مرقَّماً، متصلاً بأعمال سابقة، وربما... لاحقة.
هذا يَظهر في المقاسات، الكبيرة، التي تحتاج كذلك إلى عرض يختلف عن "التعليق" على حائط (كما في السابق). ويظهر في مواد إنتاج الأعمال، وفي كيفية صنعها... ما هو معروض يحتاج إلى أكثر من وقفة، وأكثر من لحظة عين، طالما أن الزائر يحتاج إلى المشي والاستدارة لكي يتابع العمل الفني (ديما حجار)، وإلى أن يمشي ويتوقف ويدور حول آلة التلفزيون، وإلى قضاء دقائق ودقائق، لرؤيته (روي سماحة).
يمكن إيراد إشارات أخرى للحديث عن تغيرات المشهد التشكيلي، حتى إن عنوان المعرض يمكن أن يكون: ولادة الفن، من جديد. هذا يعني، سلفاً، أن هناك طرقاً مستجدة في الفن، وأن التنقلات فيها مختلفة شكلاً وإيقاعاً. ويعني أيضاً قيام علاقات جديدة بين الفن والحياة، بين الرؤية والمخيلة، بين الجماعة والذات، وبين الفن والتاريخ.
هكذا يكون للفن أكثر من ولادة، طالما أن الفن حياة، والحياة فن، وبين الفن والحياة أكثر من شكل وأكثر من معنى.



"ألبوم" بين الفن والحياة
وجد روي سماحة صعوبة في إيجاد "ألبوم" الصور الفوتوغرافية التي التقطها والده، في مدى سنوات وسنوات، للعائلة من الجد إلى الأحفاد، في مناسبات عائلية مختلفة: ضاعت الصور في تنقلات العائلة أثناء الحروب فوق أرض لبنان. هذا ما استلحقََه عند وفاة جده، فكان أن ودَّعه فيما كان يستقبله فوق أوراق كاميرته الصغيرة: اتسعت الآلة لتشمل مئات الصور الملونة التي تدور حول الموت، في نوع من الوداع البطيء، المتمهل، طلباً لإدامة اللحظة التي نتحقق فيها، عند فقدان الأحبة، من انطباق الموت على الأحياء. ذلك أن من يعيش غياب الحياة هم الأحياء أنفسهم، فيعوضون عنها بأشباح الغائبين وعلاماتهم وصورهم الباقية.
الفن يحفظ مثل هذه اللحظات، ويؤبدها، مثل حياة مستديمة. بل يعمل الفن على عيش مختلف مع الماضي الآفل، ماضي صور الجد، أو صور الفنان نفسه، في أنواع من "المداعبات" مع الهيئة، لما يمكن أن تكون عليه في أوضاع متخيلة.
سماحة رافق جده في اللحظات الأخيرة، بينما عاد مروان سحمراني إلى صورة محفوظة في الذاكرة عن جده، بطربوشه العثماني، تشبه صورَ وجوه الأعيان بالآلات الفوتوغرافية الأولى، أو ما انتقل من نماذجها إلى اللوحات الوجهية ("البورتريه") الأولى. إلا أن الفنان طلبَ "اللعب" مع ذاكرته، مع ما تحفظه، على أن الفن ليس معنياً تماماً بحفظ الأصل، بل باستثماره، إذا جاز القول. وهو ما يَظهر في "طربوش" لوحة رؤوف رفاعي، الماثل للعين مثل أثر من حياة آفلة... الحفيد يرث حكماً، لكنه يتعامل مع التركة بحرية، على أن في ذلك شكلاً لتجديد الحياة، عملاً ربما بما قاله جبران خليل جبران: "أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة، والحياة لا تقيم في منازل الأمس".
هذا ما قامت به لميا زيادة، وكتبت: "اشتريت في 3 كانون الثاني من العام 2011، مجلة لبنانية، "نادين"، في مطار بيروت. انتزعت منها عشر صفحات، وكانت مصدر إلهامي المباشر في إنتاج الصور العشر، التي أنجزتها، بعد عمليات مختلفة من التلصيق والتمزيق، وأطلقتُ عليها تسمية: "ولادة أُمة". إنها تعكس ما هو عليه لبنان اليوم". الفنانة تعيد إلى اللبنانيين صورهم بمعنى ما، مُظهرة الشواغل والاهتمامات التي تعنيهم، من حب الظهور وثقافة المطعم وبريق الجاه إلى الهوس بهيفاء وهبي. تالار آغبشيان عادت بدورها إلى الصورة الفوتوغرافية، إلى الصورة العائلية، التي تصطف فيها الصغيرة أمام الكاميرا بثقة وطمأنينة، فيما يتساءل الناظر ما إذا كان حفظُ الصورة يعني حفظَ التاريخ نفسه.
هكذا يكون العمل الفني قريباً من المرآة العاكسة، وإن يعمد كريم جريج إلى تصوير الجسد العاري من خلف. أو أن يكون قريباً مما تقوى عليه الكاميرا الثابتة أكثر من غيرها، أي التقاط اللحظة، لحظة النشوة، كما مع جيلبير الحاج. إلا أن هناك صوراً أخرى أقل هدوءاً وسكينة، بل "صادمة"، فتحلُّ الجمجمة عند تغريد دارغوث محلَّ وجه هيفاء وهبي، في استباقِ ما سيؤول إليه البشر مع الدمار النووي.
الفن أبعدُ، إذن، من علاقة اللوحة أو الصورة الفوتوغرافية بالمرآة، فلا يكون "شاهدَ قبر"، ولا "وثيقة نفوس". إنه وثيقة ولادة، وثيقة وجود، فني ومتغير في آن. ولا يكون الفنان "الكاتبَ العدل"، ولا حارساً للحنين، وإنما شريكاً في توليد حياة الفن وفن الحياة.
جان-مارك نحاس يرسم مجتمعاً من الوجوه، في وضعيات مختلفة، بل تبدو غير محتملة في بعضها، فيما تنقلب الصورة الفوتوغرافية عند آغبشيان من صورة أكيدة إلى أخرى مختلَقة، بل غير ممكنة الحصول أساساً. يتفقَّد الفنان سجلات "الأصل"، فيجمع جوزف شحفه بين الرقم الإلكتروني (كما في السلعة والكتاب...) والشَّعر الآدمي مثل "شيفرة" رقمية وبيولوجية، إذا جاز القول. فيما تذهب زينة الخليل إلى وجوه أليفة (الإمام موسى الصدر، السيد حسن نصر الله...)، فتراها في غير ما اعتاد المتفرج على رؤيتها. أما رانيا مطر فقد اتخذت وضعية المصورة الصحفية أو التلفزيونية، "المبصبصة" بمعنى ما، التي طلبتْ الدخول إلى عالم غيرها، عالمِ الصبايا المنتقلات إلى عالم الرشد، فسجلت تحولاتهن في غرفهن الحميمة، هن المستغرقات في عوالم فردية خالصة منفتحة على الأنترنت ومارلين مونرو وسحر الملابس الداخلية: باتت الصور أليفة، إذ انتهت مطر إلى أن تكون أقرب إلى الأم الحانية، القريبة من صغيراتها (حسب قولها).
يتنقل الزائر، إذن، كأنه يقلِّب "ألبومَ" صورٍ، للعائلة، أو الجماعة، بطقوسها ورموزها، بعد أن استعادها الفنان، عاملاً عليها مثل معطى للبصر، للاستيلاد، وفق علاقات خفية ومتعددة: تطلبُ حفظََ الصورة، أو تحويلَها، أو قلبََها عما كانت عليه.
إلا أن فنانين آخرين انتقلوا من خلف الكاميرا إلى الوقوف أمامها، في نوع من "التصوير الذاتي"، إذا جاز القول: يخمِّن البعض أن المرأة الماثلة في لوحة فلافيا قدسي هي صورتها، أو صورة صديقتها، وقد استيقظت من كابوس، بعد أن مسَّها تيار كهربائي، فعاشت من جديد. بينما تنصرف هبة كلش إلى إظهار صورٍ داخلية، حميمة، ليس لوجهها أو لجسمها، وإنما لعالمها العاطفي الذي يدور بينها وبين حبيبها في رسائل: ستون رسالة، كتبتها بقلم أحمر، مائل إلى الوردي، ويمكن قراءة بعض جملها أحياناً، مثل هذه: "قبِّلني قبل أن تمضي"، أو: "لِمَ لا نلتقي في بيروت؟" وغيرها مما يمد أسباب الرغبة بين حبيبين، على أنها أسباب العيش والتجدد.
أما راشد بحصلي فعمد إلى إخفاء، أو إبطال الصورة الشخصية، فوضع "مانيكان" بدل الجسد الإنساني، أمام كتب مرجعية في الفن خصوصاً، كما لو أن مشروع الكائن يستند، كما "المانيكان"، إلى هذه الكتب التي تؤلف وجوده. كما أشار إلى "البيضة" في عمله، هو مثل آرا آزاد، بوصفها نواة الحياة الغامضة والهشة في آن.


سِيَر التاريخ وصوره المثقوبة
قد يعتقد أحد الواقفين أمام عمل محمد سعيد بعلبكي المعروض أن هذا الفنان وجد اليد "المقطوعة" من "تمثال الشهداء" (في "ساحة الشهداء")، أو لعله سرقها، ليكشفها على الجمهور. في واقع الحال، إن بعلبكي لا يتواني، في هذا العمل (بعد غيره من أعمال مشابهة له) عن محاكاة التاريخ في عدد من وقائعه وإنتاجاته، وعن استعادة ما جرى وغاب أو اندثر، أو ما لم يبصر النور إلا في أذهان مبدعيه وصانعيه، من دون أن يتوصلوا إلى صنعه واقعاً.
هكذا يكون العمل الفني تشكيلاً للتاريخ، حتى حدود اختلاقه. بينما يتخذ عند لور غريب طابعاً تسجيلياً، بين حفظ وتدوين و"تلصيق"، وفق تدابير الفنانة وميولها. وينصرف مازن كرباج إلى تدوين تاريخ يومي فوق دفاتره الصغيرة والمحمولة (مثلما يقال عن "الحاسوب المحمول"، اليوم)، وفق إيقاعات حياته وتنقلاتها وصورها الحادثة أو المتخيلة أو المرغوبة، خلال عشر سنوات. ويعود ألفرد طرزي إلى حكاية خاصة في التاريخ الدموي القريب، إلى ما جرى بين حبيبَين في فندق "هوليداي إن" الشهير، على شاطىء بيروت، في بداية الحرب، ثم إلى تجدد الحكاية نفسها بعد سنوات، بين قريبَين للعاشقَين السابقَين: تتجدد، إلا أنها حكاية الموت المهدِّد أيضاً، ما يَظهر في دمار الفندق، المستمر حتى أيامنا هذه، فوق الأرض وفي خلفية العملَين المعروضين.
كما لو أن الرغبة تقصد باب الحياة فتقع على الموت: مثل عنوان خاطىء، مثل من ترك بيته ولم يترك وراءه عنوانه الجديد. ذلك أن الموت عنوان للحياة وإن كان العنوانَ الخاطىء، فلا يبقى على الفنان غير أن يقرأ في الجسد علامات الموت الماثلة مثل إشارات سلبية عن الحياة (شوقي يوسف). وهو ما ترى إليه تغريد دارغوث في عمل فني يجمع، منذ عنوانه، المفارقة ذاتها، وهو: "قوس قزح الموت"، في إشارتين ضمنيتين: واحدة إلى البرنامج النووي البريطاني، الذي يحمل مثل هذا الاسم، والثانية إلى قوس القزح الذي يظهر لنوح، في "الكتاب المقدس"، دلالة على انتهاء الطوفان، وعلى تجدد الحياة.
هذه الحركة ترسم انغماساً مطلوباً في التاريخ، العام أو الفردي. وهو ما أجده عند فنانين مختلفين دخلوا إلى الفن من بوابة الحرب (أو الحروب) اللبنانية (أو فوق أرض لبنان). إذا كان غيرهم طلبَ النسيان، أو طوى الصفحات الدامية على عجل، فإن هؤلاء أرادوا إمعان النظر فيها، ووجدوا في النظر إلى الموت، إلى "الدم الفاسد" (كما قال الشاعر رامبو)، ما يمكن أن يدل على ولادة ممكنة، بل مرجوة. كأن هذا الفنان أو ذاك يقول: "انظرْ قبل أن يندثر الأثر... انظرْ بل اعملْ على إعادة إنتاج ما ينقضي على عجل... انظرْ قبل أن تغفر، أن تنسى"... كما لو أن هؤلاء عملوا بنصيحة نلسون مانديلا، غداة الانتهاء من نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، إذ طالب برواية ما جرى، بالاعتراف به، بحفظه مثل وثيقة، قبل إغلاق صفحة التاريخ السميكة عليه.
أما ندى صحناوي فتعرض على زائري المعرض عدداً من المكانس، وتقول في عنوان عملها: "للكناسة" (To sweep)، ما هو دعوة صريحة، قريبة مما يجري في هدير الميادين العربية وساحاتها (عند كتابة هذه "المقدمة" في شهر شباط 2011)، من احتجاجات مدنية وديمقراطية. هذا ما بدأَ برمي حذاء على أحد الرؤساء، وبأحذية عديدة على صورة رئيس آخر؛ وهو ما بلغ حرقَ صورهم وتمزيق كتبهم "الإرشادية"، فضلاً عن إجبارهم على التنحي.
هذا الانغماس في التاريخ قد يكون أيضاً طلبَ انتسابٍ إلى المستقبل، طلبَ استباقٍ لما هي عليه الوقائع والأفعال في التاريخ: العشب ينمو فوق أكوام وطبقات (في عمل برهوش-عاصي) تختفي في ثناياها الرصاصات، فتكاد أن لا تُرى. والبناية التي ترتفع، في وسط بيروت، مثل سفينة مدمرة، مبقورة، ليست بعد سفينة نوح التي حفظت الناجين، إلا أنها أينعت، في عمل كريستينا عنيد، وارتفعت أشجاراً تقوى على الموت والدمار والخلاء. وهي الرغبة عينها التي نجدها في الرماد الذي يورق في شجرة زيتون (الشجرة العريقة في جذورها اللبنانية والمتوسطية)، في عمل بسام جعيتاني...
هكذا تظهر بيروت، "ست الدنيا" (في عبارة نزار قباني الشهيرة)، في لوحة زينة عاصي، في صورة امرأة محنية الرأس ولكن واقفة، متألمة ولكن من دون أن تكون صاغرة، على أنها حبلى بالحياة وإن لم تكن ألوانها بإشراقة ألوان كليمت (Klimt).

الفن في حياته الداخلية
يُطلق شوقي شمعون على عمله الثلاثي المعروض تسمية: "قيامة"، على أن ما يَظهر لا يعدو كونه "قيامة" اللون الأسود في تشكلات حرة. هذا ما يقع بعد الموت، بعد البياض، الذي يمثل السياق الذي تخرج منه الأشكال، في زخمها الإيقاعي وتلاوينها المتموجة.
أسود على أبيض، ما يبدو شكلاً فنياً يحاكي شكل الوجود، بين فراغ وبناء؛ ويحاكي وجود الإنسان نفسه بين موت وحياة. يقول راوول دوفي (Raoul Dufy): "التصوير يعني العملَ على إظهار صورة هي غير ما تَظهر عليه الأشياء في صورة طبيعية، وهي صورة لها قوة الواقع نفسه". وهي القوة التي نجدها في عمل شمعون، في الضربة والتشكل. يتخفف الفنان من العدة والمواد والأشكال الكثيرة، مكتفياً بعدد قليل منها، مركزاً وحسب – أشبه بالمقاتل الآسيوي – على فجائية الحركة وكثافة التجليات.
يستغني هانيبال سروجي عن الوجود نفسه مكتفياً بإطار اللوحة نفسها، بحدودها، على أن ما يحصل فوق سطحها التصويري من عمليات وتشكلات كفيلٌ بتمثيل الوجود نفسه. يرى إلى اللوحة مثل "فضاء إيجابي للتأمل"، حسب قوله؛ وهو فضاء للعمل، لإجراء حركات وحركات، ما يَظهر في علاقات مواد التصوير بالحامل المادي وبالسطح التصويري. وهي حركات عنيفة أو رقيقة، تنبني على تضاد أو تآلف فيما بينها، ما يجعل اللوحة عند الفنانة تنباك نسيجاً أو نصاً من العلامات والرموز والأشكال والالوان.
هذا ما يَظهر في لغة الشكل بديلاً عن لغة الواقع، في عناصر معدودة، كما عند جوانا رزق، التي تقيم تقابلاً بين ثلاثة أنساق: نسق الشجرة، نسق الفن، ونسق الإنسان، على أن هذه تعرف "فصولاً" أو "دورات" ترسم الانتقالات والتحولات. وهو ما يبدو في شواغل تجريدية المبنى، عند ماريو سابا، تجمع بين أشكال مختلفة من الخط وتنتهي إلى تصميمية تحيل على تجربتها المخصوصة. أو يقوم العمل الفني على ضربة شكلية-لونية مركزة عند فاديا حداد، وإن تنطلق من صورة معروفة (القناع). أو ينطلق جميل ملاعب من مشهد المدينة، الذي يختزله بضربات رقيقة وشفافة، ما يُظهر المشهد ويبدله في آن.
هذا الانصراف إلى حدود العمل الفني يكاد أن يكون منتهى ما وصلت إليه هيكيت كالان. فبعد أن خبرتْ تجارب عديدة توصلت إلى استدعاء ما تشاء إلى السطح التصويري، كما لو أنها تنسج سجادة ولكن من دون خطوط مستقيمة؛ أو تكتب بأقلام ملونة فوق دفاتر حميمة، من دون سطور مستقيمة، هي الأخرى: تستدعي من الذاكرة صورة بيت لبناني بقرميده، وترسمه بريشة الطفلة التي كانت في لبنان (قبل هجرتها الدائمة)، أو صورةَ زخارف السجاد أو البُسُط الشعبية وغيرها، على أن يدها تستولد علاقات الأشكال والرموز من بعضها البعض، من ذاكرتها كما من مخيلتها.
هذا اللهو الطفولي هو ما ينتجه أصغر الفنانين المشاركين عمراً، عبد الرحمان قطناني، إذ يعود، في المخيم الفلسطيني، إلى المواد المهملة (وإن لا يبدو عليها الصدأ)، بدل أدوات التصوير والنحت المعهودة. يعود إلى أقرب محل لحداد ونجار، وإلى أدوات عملهما، لكي يصنع منها مجسمات أطفال في رقصة دائرية، أو يعلو بها مثل طائرة ورقية في سماء تتبدد فيها غيوم الإقامة. يقول قطناني: "يَكسر أطفال المخيم بمخيلتهم حاجز المعاناة، ويبدعون عالماً جديداً، لا أزقة فيه، ولا جدران مهترئة، ولا أسلاك شائكة، ولا معاناة. فنتعلم منهم أننا نتغلب بالفرح والسعادة على المعاناة، وبالمخيلة والإبداع نحقق الحرية".
للعمل الفني حياة "داخلية"، إن جاز القول، ما يتجلى في النحت أيضاً في أعمال سيمون فتال وميراي حنين ومي ريشاني. هذه الأعمال لا تنشغل بموضوعاتها إلا بالقدر الذي تنبني فيه وفق توازن مخصوص: يكفي أن تضع إصبعك على منحوتة حنين لكي تجعلها تهتز، على الرغم من صلابتها، فيما تُعنى فتال بتثبيث "الواقف" في صورة متينة، وتعمل ريشاني على جعل العمل "متحركاً" وإن يبقى ثابتاً.


أبجدية الفن وحياة الصورة
في إمكان الواقف أمام عمل محمد الرواس أن يراه كما لو أنه يقرأه: من الشمال إلى اليمين، أو بالعكس. ذلك أنه يتشكل من أحد عشر عملاً فنياً، متتابعاً ومتقطعاً فوق سطر (إن جاز التشبيه)، على أن الوصول إلى نهايته يمكن أن يكون بداية جديدة له. طبعاً في إمكان الفنان، أو الزائر، أو الدارس، أن يضع لعمل الرواس وجهةً، بين نقطة بداية ونقطة وصول، بين صورة أولى وصورة ختامية، تنتهي بها الصورة-المنطلق إلى صورة أخرى، متحولة عنها، في نوع من الولادة لها. وفي إمكان الفنان، أو الزائر، أو الدارس، أن يتعامل مع مجموع العمل مثل دورة ولو فوق خط مستقيم، دورة تحويلية، لا تعرف بدايتها من نهايتها.
إلا أن عمل الرواس، بعيداً عن حقيقة اجتماعه، يحاكي بأدوات الفن ولادةَ الفن نفسه، ولادة الصورة نفسها. فهو يحيل، من جهة، على امرأة إغريقية بريشة ميكليل أنجيلو، وعلى امرأة حالية، ذات حجاب، من جهة ثانية. هكذا يستجمع، في عمله، بين ما يعايش وما يقرأ، بين المحترف والشارع، بين تصوير تاريخ الفن وتصوير الفن الجديد، ويجعل من هذه كلها مجازاً لولادة صورة.
كان دافنتشي (وهو أحد مراجع الرواس، مع ميكيل أنجيلو) يقول عن الفن إنه "قضية عقلية" (causa mentale)، مشيراً إلى الترابط، عند فناني "النهضة" الإيطالية، بين الاشتغال على المواد والأجسام والأشكال وتشريحها واختبارها واكتشافها بقدرة العقل الناشط والفاحص، من جهة، وبين قدرة اللوحة على إظهار الوجود والكائنات والأشكال، من جهة ثانية. بل عنى الترابط شيئاً مزيداً، وهو أن الخلق يعلو التقنية، وأن الفن يبلغ مرتبة العلم الخالص. وهو ما يمكن قوله في منظور جديد عن عمل الرواس وغيره، وهو أن الفن بات معهم "قضية ثقافية".
ما يقوم به الرواس من حوارات بين عمله وأعمال سابقة، نجده عند غيره في ظهورات أخرى. تيو منصور يصور ابتداء مما يعيش (مع المرأة)، ومما يسمع (مع المؤلف الموسيقي الألماني ريتشارد شتراوس) أيضاً، ما يصل أسباب الفن بغيرها، وبأسباب الحياة نفسها.
هذا ما يَظهر في اعتماد جان-بيار واتشه على مرجعيات "انطباعية" و"غنائية"، ولكن بأدوات الحاسوب (والفيديو والموسيقى والصور الرقمية)، لصناعة مشهديته الصورية. وهو ما يَظهر عند غيره بأدوات غيرها، أو في الجمع بين أدوات ومواد لم تعرف سابقاً عيشاً مشتركاً فيما بينها. وما يصح في غالب الأعمال المعروضة هو أنها قامت على "توليفات" (مونتاجات) مخصوصة، يتدبرها الفنان نفسه، مثل زاد ملتقى، كـ"بصمة" خصوصية ومهنية.
في إمكان الدارس أن ينتبه، إذن، إلى خروج الفن من دائرته ومراجعه وأدواته إلى فضاء آخر، بما يجدده ويحوله، ويولده من جديد. فلا يغيب عن ذهن المتلقي أن هناك أعمالاً تستعير من الرواية، ومن سلفها (التاريخ)، ومن السرد الذاتي، والبوح الفردي، والمراسلة، نسقاً خفياً لها. وهو ما يمكن قوله في نسق الشرائط المصورة، أو الصورة الثابتة (الفوتوغرافية)، أو الصورة المتحركة (التلفزيونية، السينمائية، الرقمية...)، حيث إن البعض يحيل على تقنياتها، ويعتمدها في بناء صوره المتعددة والمتتابعة... بل يمكن القول إن الرغبة في السرد، المركب والمتعدد الفقرات، يسم أعمالاً كثيرة، ولا سيما عند من طلبوا إخراج الحرب إلى العلن، بما يُظهر صورها الممزقة أو المؤجلة. وهو ما يمكن قوله في أعمال اخرى توخت، مثل عمل الشاعر الحديث، تجميع مواد "عالمِها" فوق حامل مادي، في نوع من "التنصيص" المكثف لها، وفق تدبيرات شخصية.
هذا ما يمكن تتبعه في العلاقات التي تبتعد (كما سبق القول) عن العلاقة "الوجاهية"، إذ إن العديد من الأعمال ينشأ من نقطة بعينها، من فكرة، من مقترح أولي، ثم يبتعد عنها في المعالجة، في التحويل المتمادي لها. هذا ما قامت عليه السوريالية ماضياً، وبقي في نطاق عمل واحد، وفي لقطة عين مركزة، بينما تقوم الأعمال المعروضة على مسافات صنعية وزمنية واقعةٍ بين البداية والنهاية، بين فقرات أو وحدات العمل الواحد. بل يمكن الحديث عن أن التقطع والتتابع بين الوحدات أو الفقرات يقومان على معالجة تحويلية، ما يشبه الانتقالات في عمليات السرد، أو الاستعارة الكثيفة في الشعر، فيما كان التصوير يحافظ فوق سطح اللوحة على وحدة الموضوع أو "اللقطة" المسرودة.
إذا كان السرد، بما فيه الرواية، حافظَ على مبدإ "الشبه الحقيقي" (vraisemblable) وطلبَه، فإن بعض الأدب المتأخر (في الشعر والسرد ورواية الخيال العلمي وغيرها) قد خرج عليه صوب علاقات بنائية تخلط بين الواقع والخيال، بين ما هو ممكن الحدوث وما هو مستحيل الحدوث... وهو ما تأخذ به معروضات كثيرة، إذ نجدها تُعوِّل على المخيلة، أو الرغبة، أو الاستيهام، محرِّكاً محوِّلاً للموضوع أو للحكاية المطلوب تمثُّلها.

 


الزمن بين البصر والبصيرة
القصيدة الجاهلية، الأقدم في الشعر العربي (المعروف)، طلبتْ نوعاً من العلاقة الوجاهية بدورها، وعلى طريقتها، إذ كانت تبدأ بالوقوف على الأطلال: يقف الشاعر، قبل راعي البقر في الأفلام الهوليودية، ويفحص الرماد والخطى الإنسانية والحيوانية المرسومة فوق التراب، ويتعرف من "الشاهد" على "الغائب".
طلبتْ منى باسيلي صحناوي شخصيات أسطورية (جلجامش وأنكيدو، إيزيس وأوزيريس، أدونيس وعشتروت...)، ووضعتْها "مصطفة" (كما في صور غارقة في القدم)، في إشارات مختلفة إلى حكايات معروفة منذ أسطورة "الفينيق" الفينيقية، الذي ينتفض من رماده دورياً. هذه العودة قامت بها أيضاً ميراي حنين إذ استهلمت أسطورة "إيكار" في منحوتتها، فيما عادت ديما حجار إلى "حائكة الدانتيل" (La dentelière) لفيرمير (Vermeer)، وروجيه مكرزل إلى "الراقص الياباني"... لكن هؤلاء وغيرهم استعاروا هذه الأساطير واللوحات لأهداف حالية، متمثلة في موضوع المعرض، لكن دوافعهم تبتعد أحياناً عن المعاني الأولى، بل تقلبُها: المرأة الإغريقية، في عمل ميكيل أنجيلو، تؤدي دورَ العرافة، بينما تفك المرأة الثانية حجابها بعض الشيء، ولا تبالي (بمعنى ما) بـ"إصبع" النهي، الذي يعلوها ويهددها...
الفن يخرج من الفن، لا من صوره المستقرة وحسب، وإنما أيضاً من نماذجه وقواعده، التي وضعته خارج الزمن والإنسان، وجعلتْه أسيرَ حلقات وبلاطات ومجالس، بوصفها دورة مختصرة وكثيفة للتداول.
تحدَّثَ الإمام حامد الغزالي (-1111 م.)، في كتابه "إحياء علوم الدين"، عن أن "البصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهر"، وأن "القلب أشد إدراكاً من العين"، إذ كان يجد المعرفة مبنية على "النص"، على اللغة، بين التفسير والتأويل، بين الإدراك والشعور، بما يَعرض الظاهر ويجلو الباطن. أما ليوناردو دافنشي (Leonardo Davinci) فكتب، بعد ما يزيد على ثلاث مئة سنة، في "مبحث في التصوير" (Trattato della pittura)، أن النظر هو أساس العلم، وأساسُ التمكن من ظاهرات الوجود.
قد يسرع البعض، أو يتسرع، في القول إن المعروضات تبتعد في منظورها عن الغزالي لتلتحق بما قاله دافنشي. ذلك أن ما تقوم عليه يبتعد عن المنظورَين، وإن تكن صلتُها بدافنشي باقية بمعنى ما. ذلك أن العلاقة الوجاهية تباعدت، إن لم تكن قد اندثرت، طالما أن القسم الأغلب من الأعمال الفنية ينطلق من فكرة (أو مفهوم، أو حالة...)، ولكن من دون أن يتقيد بها، بل ليحولها تماماً. فإن أشار عملٌ فني إلى صورة عائلية، باقية أو محفوظة في الذاكرة، فلا لكي يستعيدها وإنما ليلاعبها، ليحولها مثل مادة بصرية. كما يتيقن دارس هذه الأعمال، في أكثر من تجربة، من أن الانطلاق من سابق، من حاصل، من مرجع، من موضوع فني بعينه، بات أقرب إلى الذريعة، لا أكثر: ذريعةٌ لمعالجةٍ تبدلُ الأصلَ المفترض. معالجة تبتعد عن حنين الاستعادة، وتُحلُّ محلها عمليات نفسية وشكلية وثقافية، مثل المداعبة، والتخيل، والتحويل، والتبديل والتكثيف وغيرها.
ما عاد العمل الفني يقتصر على عدته المعروفة، بل نراه يبتعد عنها عمداً، فتكاد الريشة أن تختفي تماماً، ويكاد الفنان أن يستعمل ما هو موجود وحسب، ويضعه في وضعيات جديدة ليس إلا (ندى صحناوي). كما يستعير الفنان أحياناً من العرض المسرحي نسقاً لبنائه الفني، محيلاً على مراجع ذاتية وعمومية (ديما حجار)... هذه إشارات، وهناك غيرها أيضاً، تفيد بأن بناء العمل الفني بات نتيجة مسارات وعمليات غير مضمونة، بين بداية ونهاية، ونتيجة ما تعالجه المخيلة فوق خشبتها الداخلية (مثلما قال فرويد عن "خشبة" اللاوعي)، أو ما تعالجه الثقافة الخصوصية.

بين الخيال والمدينة
هذا ما ينتقل مع نديم كرم إلى نطاق آخر، في تشكلات مختلفة. فالصور الثلاث، التي يقوم عليها عرضُه، هي صور-لحظات، مقتطعة من عمل متحرك وممتد (في الفيديو). ومن اعتاد على رؤية أعماله سيكون أليفاً معها، بل يتعرف على هيئات شخوصه بيسر. ذلك أن لكرم عائلة أو جماعة من الأشكال تنتقل معه في معارضه وكتبه، وتتمثل في عدد من رسوم الكائنات الحيوانية والإنسانية، التي تندرج في سياقات مكانية، وفي صراعات متعينة في المدن الكبيرة. في معروضاته الجديدة نلتقي بالصياد والغيمة، في تتابع سردي، يرينا بأن الغيمة – لو تمت العودة إلى ألفاظ العربية – تعني دلالة مزدوجة: تعني "المَخِيلة"، و"يُقال: خَيَّلَت السحابة، إذا غامت ولم تمطر"؛ وهو ما عنى الظنَّ بحدوثِ شيءٍ من دون أن يحدث... إلا أن هذا اللفظ بات يعني معنى ثانياً، مختلفاً: يعني التخيُّلُ (والمُخَيَّلة...) تصورَ ما لا يحدث، على أنه بات مستحسناً في الفن والأدب.
هذه الغيمة رفعَها نديم كرم في سماء النظر، ودعا المتلقي لأن يكون مثل صياد في بحيرته. فالعمل الفني، بين ما يَظهر عليه ويحيل عليه، بناء شديد التركيب، صنعي بقدر ما هو ثقافي، منخرط في جدل لحظة "عولمية" أكيدة، باتت تبددُ حدودَ قاراتٍ وفنون، وتجعل من الغيمة العابرة جنينَ مطرٍ كامنٍ ومتنقل. لهو ودراما، كما لو أن طفلاً يقلَِب حكايات البشر والزمن في دفاتر العطلة المدرسية.
إلا أن ما يقوم به كرم يتعين، قبل ذلك كله، في صراع مع الفن نفسه ومع صيغه المستقرة. فإذا كان بيته يبتعد مئات الأمتار عن بيت داود القرم (1852-1930)، المحترِفِ الأول للتصوير في العالم العربي، فإن ما يفصله عنه يتعدى ذلك بكثير، في خطوات وقفزات كبيرة.
غير أن الدارس يحتاج، مع ذلك، إلى متابعة ومراقبة المشهد وتبدلاته: راقبَ القرم وسجلَ وجوهَ مزامنين له، ممن طلبوا الوقوف أمام حمالته المسندية، فدخلت صور البشر الزمنية إلى اللوحة، وقبلها إلى المحترف. وهو ما استمر في أعمال الفن اللبناني، إذ التفتتْ (مثل الشعر والمسرح والرواية تحديداً)، في أشكال مزيدة، صوب الزمن، وصوب متغيراته.
هذا المَيل لم ينقطع، بل بلغ مع كرم وزملائه حدوداً غير مسبوقة، ما يتجذر في صورة مختلفة. فبعد أن عاينَ القرم وحفظَ صورَ الأمراء والأدباء ورجال الدين والساسة الجدد والسيدات "المهذبات" وغيرهم؛ وبعد أن انتقل غيره، وبعده، إلى مرتفعات كفرذبيان (عمر الأنسي)، أو حديقة بيته الداخلية (مصطفى فروخ)، أو منحدرات وادي قاديشا (صليبا الدويهي)، "نزل" أكثر من فنان، مع حمّالة ألوانه، من القرية إلى المدينة (عارف الريس، سيتا مانوكيان...)، فيما كان البعض الآخر ينحو إلى جعل المشهد "داخلياً" (شفيق عبود)، أو بنائياً (سلوى روضة شقير)... رسمتْ هذه الأسماء وغيرها الكثير خطاً موصولاً ومتقطعاً، إلا أنه يقع في خلفية أعمال عديدة معروضة، وإن اختلفت الأدوات أو الشواغل أو المنظور أحياناً.
أجيال متتابعة، على أن التقطع يَظهر في صورة مزيدة، ومن علاماته الأولى انغماسٌ شديد في سياق الفن المتغير، وفي شواغل الزمن اللبناني، في آن معاً.
وهو ما يمكن للمتابع ملاحقته، في الجامعات والمعاهد التي درس فيها هؤلاء الفنانون (حيث إنها اتسعت وتعددت كثيراً، عما كانت عليه قبل أربعين سنة)، أو في المدن التي يقيمون فيها (بين بيروت ومدن غربية عديدة)؛ أو في صالات العرض التي يعملون معها، أو في مشاركاتهم في تظاهرات وبينالات ومزادات عديدة... هذه دلالات مختلفة عن الحرب ونتائجها، إلا أنها تشير أيضاً إلى مواكبة هؤلاء الفنانين لتغيرات المشهد الفني في العالم، وإلى اندفاعاتهم فيه.
هكذا يتضح، بين جيل وآخر، ابتعادٌ مزيد، أو عدم لقاء، مع ما عرفته وتعرفه تجارب أخرى، هنا وهناك، حول "الهوية"، أو التحصن الأسلوبي وراء "تراث" بصري، أو وراء الشواغل الجمعية... ابتعادٌ صوب تجارب أكثر فردانية، وإن عالجت مواد الهوية والذاكرة تحديداً. هذا ما دفع غسان غزال إلى الحديث عن "ذاكرة مثقوبة"، أو "هجينة"، ما يَظهر في حقيبتين، على أن واحدة منهما تتخذ شكلَ جدار، والأخرى شكلَ حقيبة محمولة؛ أي أنهما تتحدثان عن حائط الإقامة وحقيبة السفر. لا يتأخر الفنان عن الحديث عن "جسد حقيبة"، بعيداً عما قاله الشاعر محمود درويش ("وطني ليس حقيبة، وأنا لست مسافر")، بل قريباً مما كتبه جاك أتالي (Jacques Attali) عن إنسان العقود الأخيرة، "البدوي الحديث"، الذي يتنقل بسرعة غير مسبوقة، فيزيائياً وافتراضياً وتواصلياً، من دون أن يكون مرتبطاً بأرض بعينها، موصولاً في ذات الوقت بالعالم وأفراده وأحواله وأحداثه: في "العالم، هذه اللحظة"، وفي "بث مباشر".
هذا ما يَظهر عند إيلي معماري في شواغله المدينية التي تُعنى برصد علاقات التحكم بين الصورة (الدعائية) والحاجة الإنسانية (للأكل مثلاُ). إن أعداداً كبيرة من العارضين ينتسبون إلى هؤلاء "المترحلين"، إلا أن ما يميزهم – وربما بسبب ترحلهم المديد - هو انتظام علاقتهم بين عيش مدني منفتح، من جهة، وطلبِ انغماس في المشهد المحلي، في ذاكرته وهواجسه، من جهة ثانية. وهو ما يتخذ عند غير واحد منهم موقفاً نقدياً من فكرة الولادة الجديدة، خاصة وأن أكثر من فنان تنبه إلى أن أحد أصول هذه الفكرة فينيقي وفرعوني، وتحدثَ عنه هيرودوتس وأوفيد، ما جعل البعض يقول بأن التجدد حاصل، وهو "إرادة حياة" متمكنة من اللبناني، وما جعل البعض الآخر، مثل شوقي يوسف، يؤكد: "قبل أن نحيا من جديد، علينا أن نموت".

(مقدمة دليل معرض: "الولادة من جديد"، الذي يضم أعمال 49 فناناً لبنانياً، في بيروت، بين شهري حزيران وتموز 2011).