الالتباس بين الطليعي والحداثي

 

كيف لنا أن نعاين فنّ السنوات الثلاثين الأخيرة، وقد اصطرعت فيها مشروعات ومفاهيم عدّة، متداخلة بقدر ما هي متباينة، و"محلية" بقدر ما تدّعي كونها "عالمية" المنزع؟ هذا يفترض، في البداية، أن نبني طريقة في النقاش، في تبيّن القضايا، تاريخية أساساً في نظرها إلى الشأن الجمالي؛ أي أن نتجنّب الانسياق إلى نظرية "ترويجية" في مؤداها عن الحداثة، والتي لا تعدو كونها الوجه الآخر لمقتضيات "السوق" في تطلّبات الرواج والتنافس. وهي نظرية تقوم على النظر إلى الممارسات التشكيلية "منزّهة"، أي منتزعة من سياقات إنتاجها، من سبل رواجها، ومن القيم والرؤى التي تبثّها. وهو ما أتبيّنه في مناقشات هذه "الندوة الدولية"، لا بل أخالني أحياناً في ندوة تربوية، أي تعريفية وتبسيطية، عمّا نتصوّره على أنّه آخر المستحدثات الغربية، بل الأميركية تحديداً، في مجال التشكيل! وهو هلع إلى التفسير، إلى التعرّف، إلى عرض الصناعات الجديدة، أقرب إلى عمل المروّجين منه إلى عمل آخر. هذا الهلع يبيّن لنا أيضاً خطأً في تصوّر "العالمية"، حيث أنّنا لا نميّز بين الرواج والذيوع، من جهة، وبين الجدّة والابتكار، من جهة أخرى؛ بين تجديد الحداثة فعلاً وبين حاجة المتاحف إلى تجديد معروضاتها وممارسة دورها في التصنيف والتكريس؛ بين قوة أميركا وذيوع منتجاتها ووفرة وسائل نشرها (أي مقوّمات الفنّ في الاقتصاد والدعاية والإعلام، لا فيه)، وبين ما يقدّمه هذا الفنّ والتحقّق من خطابه بين محليته وعالميته المزعومة؛ بين استجابات هذه المستحدثات الغربية لحاجات واقعة في مجتمعاتها، من المتاحف حتى صالات العرض، وبين نزول هذه المستحدثات والوسائل والخطابات في مجتمعات أخرى ذات حاجات وتطلّعات اجتماعية أخرى، إلى غير ذلك من القضايا التي تبيّن لنا ضرورة فكّ الاشتباك بين مفهوماتها الضمنية من جهة، وبين المقتضيات التي تستجيب إليها في السوق والتنافسات الحضارية أيضاً، من جهةٍ ثانية. فكمّ من "الحداثات" لا تعدو كونها، خارج سياقات إنتاجها وتبلورها الأولى، صيغاً من التأثّر المحكومة دوماً بـ "التشوّف" (أي جعل قيمة الفنّ واقعة سلفاً خارج إنتاجه على الحامل، في صيغة ما معيّنة، ولو غير مصرّح به، على أنّها "النموذج" الذي يجب اتّباعه) والتبعية بالتالي!
إنّ التوقّف، إذن، أمام واقع الفنّ في السنوات الثلاثين الأخيرة، يدعونا، بدايةً، إلى تبيّن ما للفنّ هذا من "محدّدات" تعينه في السياق المحلّي، كما في سوق التبادل والرواج. ذلك أنّنا لا نقوى على فهم "حيوية" الحداثة (أي تجدّد مدارسها وأساليبها والتمايزات بين فنّانيها) منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر من دون وضعها في ما أملته التبادلات والتنافسات الاقتصادية – الاجتماعية (أي التنافس على حيازة "النادر"، ومنه القطع الفنية، بين النخب البورجوازية) على السلوكات الفنية، وبعد أن صارت اللوحة منذ منتصف القرن السادس عشر بضاعة مطروحة بين منتج ومالك.
غير أنّنا لا نقوى على التوقّف أمام فنّ هذه السنوات من دون أن نبيّن أصول الالتباس المفهومي الذي جرى في تاريخ التصوير (وغيره من صنوف الإبداع) وممارساته بين "الحداثة" و"الطليعة"، ومن دون أن نتبيّن مؤدّيات هذا الالتباس أيضاً الفنية والجمالية ومستتبعاته أيضاً. وأنا ما وجدت ضرورة لـ "فكّ الاشتباك" المفهومي هذا، إلاّ بعد أن تبيّنت أنّ فنّ السنوات الثلاثين الأخيرة – مجال مناقشاتنا في "الندوة" – غلّب مفهوم "الطليعة" على مفهوم "الحداثة"، ممّا أدّى إلى لحظة الارتباك الحالية في المشهد التشكيلي.
عرفت "الحداثة" في فرنسا، موطنها الأول، سبيلين متتابعين ولكن مختلفين: الحداثة المعنيّة بالقطيعة مع الماضي وبالاتصال الشديد بـ "الحالية"، أي باللحظة الحارة في الحاضر، وهو ما نلقاه في دعوة بودلير خصوصاً؛ والحداثة الطليعية المعنية بنشدان المستقبل، أي بمعنى تقدّمي لوجهة التاريخ، وهو ما نلقاه في دعوة رامبو لأن يجعل الشاعر "مُضاعِف التقدّم". وهذه الحداثة الثانية تعني ابتكار فكرة "التقدّم"، التي أشار إليها لاحقاً الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث، حين رأى أنّ الحداثة وجدت ضرورة لتحديد معنى "إيجابي" للزمن، أي أن يكون له تطوّر تتابعي وسببي، بدل الزمن الدائري، كما نلقاه في النظريات التاريخية القديمة، أو الزمن النموذجي – التصنيفي كما في العقيدة المسيحية، أو الزمن "السلبي" كما في كتابات غالبية مفكّري "عصر النهضة" الأوروبي.
تماهت الحداثة مع وله بالحاضر (وبالزائل والموضة والعابر عند بودلير، على سبيل المثال)، أمّا الطليعة فاشترطت وعياً تاريخياً بالمستقبل و"إرادة أن نكون متقدّمين على زمننا"، حسب عبارة أحدهم. أحلّت الطليعة، إذن، تفخيم المستقبل محلّ الوله بالحاضر، ونشَّطت بالتالي تناقضاً خفيّاً من تناقضات الحداثة. والحداثة والطليعة لم تظهرا زمنياً في وقت واحد، عدا أنّ الأولى تشير إلى نزعة جمالية في الغالب، فيما تشير الثانية إلى نزعة تاريخية–سياسية ذات ملمح جمالي. واللافت في هذا التباين التاريخي بينهما هو أنّ لفظ "الطليعة" يشير، بالإضافة إلى معناه العسكري الأصلي، في فرنسا منذ ثورة 1848، إلى اليسار المتطرّف كما إلى اليمين المتطرّف، أي إلى الرجعيين والتقدميين في آن. هكذا اتّخذت "الطليعة" عند جماعة سان سيمون، على سبيل المثال، معنى يصل ما بين الشاعر والصناعي، أشبه بـ "مصباح" الجماعة. يقول سان سيمون في نصّ يعود إلى سنة 1825: "يقول الفنان لمخاطبيه: لنتحدّى، العالِم والصناعي. ولكي نصل إلى الهدف ذاته، لكلّ واحد منّا مهمّة مختلفة لا بدّ أن يقوم بها. نحن، الفنانين، الذين يجب أن نكون طليعة لكم: قوّة الفنون هي الأكثر مباشرة والأكثر سرعة". وهو ما نلقاه أيضاً في دعاوي جماعة فورييه الذين سيفهمون بدورهم الفنّ على أنّه وسيلة للدعاية وآلة للعمل. هكذا يتعلّق الفنّ نهائياً بنموذج تطوّري، بنموذج الفلسفة الهيغلية، أو بنموذج التحولية الداروينية، متبنياً النماذج التي تبقى وتتماشى مع "الأفضل". وهكذا سيتمّ النظر من فنان إلى آخر، ومن جيل إلى آخر، على أنّه انتقال، على أنّه تجاوز باتّجاه الحقيقة.
إنّ هذا الهوس سيؤدّي إلى الشكلانية، بعد أن قام الفنّ أو طلب "المرجعية الذاتية" و"الاستقلال الذاتي" كشطرين للفنّ الأصيل. ولم تعد اللغة في الشعر "تقدّم" و"تمثّل"، بل صارت تدرك بوصفها "لعبة مستقلّة عن المرجع". وهو ما يلخّصه أحد الباحثين الفرنسيين في مقارنة جميلة وموحية، إذ يعتبر "صمت" رامبو شبيهاً بإنتاج الفنان الروسي ماليفيتش في سنة 1918 بلوحته الشهيرة: "المربع الأبيض فوق سطح أبيض" (...).
لسنا في مجال تأريخ هذا التعايش، بل هذا التأزّم، بين الحداثة والطليعة، بل نريد التأكيد وحسب على وجود "أصل" ما لما نتحقّق منه في فنّ السنوات التي نتناولها. والأصل هذا، في حسابنا، يقوم على تغليب "الفكر" على "التجربة" و"الذهن المجرّد" على "اللحظة الحيّة"، إلى غير ذلك من الحالات والصفات التي أدّت في السنوات هذه إلى تغليب الطليعة على الحداثة، بل إلى إنتاج فنّ هو عندي بمثابة القطيعة مع سابق الفنون المعروفة.
ففنّ هذه السنوات هذه لا يجدّد ولا يطوّر ولا يصحّح الفنون المعروفة، كما يسارع البعض إلى التقدير و... التطمين، بل يقطع تماماً مع عدد من أصول الفنّ، ولا سيما الحديث منه. وهو ما نتأكّد منه في غير مجال وأمر. فنحن لو نتوقّف أمام تجارب "الفنّ الاختصاري" (Minimal Art) ، أو "فنّ المنشأة" (Installtion) ، أو "التأدية التشكيلية" (Performance) ، أو "الفنّ الجسدي" (Body Art) أو "الفن البيئوي" وغيرها من التجارب الطيلعية، لما وجدنا صعوبة في تبيّن معالم هذه التقطّعات.
ماذا لو نتوقّف، بداية، عند عدد من دعاوى هذا الفنّ لنغسه: ماذا عن "ضديته" المعلنة على سبيل المثال، ونقده الدائم للمؤسسات؟ يتهرّب من المعارض كاحتفالات تجارية منظّمة، ومن صالات العرض بدعوى "الاتصال الحيّ" بالجمهور، إلاّ أنّه يقيم تواطؤاً أقوى، إذا جاز القول، مع مؤسّسات أخرى مهيمنة ونافذة، لا بل أوسع تأثيراً من المتحف وصالة العرض، وهي مواقع تواجد الجمهور أو التلفزيون والفيديو وخلافها.
وماذا عن دعواه "الديمقراطية": الفنّ بمتناول الجميع، أو مشاركة الجمهور الحيّة في صناعة العمل الفني في تجارب "التأدية التشكيلية"؟ الدعوة مغرية طبعاً، إلاّ أنّها كاذبة طبعاً، خاصة وأنّنا "متفرّجون" في عرض ليس إلاّ، مهما كانت ذرائعه التشكيلية (...).
لن نعدّد هذه الدعاوى، فغرضنا لا يقوم على السجال، بل على التبيّن. وهو يؤدّي بنا إلى ملاحظة الأمر التالي، وهو أنّ هذه التجارب انطلقت من الولايات المتحدة الأميركية في المقام الأول (بالإضافة إلى إلمانيا وإيطاليا)، وأنّها "تحدّدت" بأعراض هذه النشأة بالمقابل. هذا يتّصل بمواد هذا الفنّ، حيث جرى الاستعاضة عن الريشة والمنقاش وخلافها بشاشة التلفزيون أو بالصور المحسوبة الكترونياً؛ أي أنّه فنّ تحدّد في إنتاجه بمعطيات غالبة في مجتمعه نفسه. وهو ما نتبيّنه في الأعراض التي وسمت تكويناته: فنّ متّصل بشروط الاتصال الحديث (فيديو، كومبيوتر...)، بل بالعروض الحيّة (مثل "الشو" – SHOW – الأميركي)، وهو ما نسميه: "الحدث" السمعي – البصري. بتنا أمام عمل لا تستقيم عناصره بالرؤية البصرية وحسب، بل بالسمع أيضاً؛ ولا تقوم الرؤية على الالتفات أو التأمّل في صورة مقترحة بل على "تتبّع" صورة معروضة. التغير، إذن، بل القطيعة تصيب طبيعة العمل الفني ومؤداه أيضاً.
بتنا نرى في طريقة مختلفة: نرى ونسمع في آن، نرى ونقرأ، نرى إلى حدث ذي سرد حكائي في فقرات، أي إلى عمل متّصل ومتتابع في الزمن. هذه التجارب تقطع بالتالي مع اللحظة، أي مع الوقع المكثّف والمركّز والسريع الذي كنّا نتلقّاه مع اللوحة، وتجعل من المتابعة الزمنية أساساً لتقبّل العمل الفني. تقطع مع اللقطة السريعة لصالح جلسة المتابعة، التي هي اختصار مكثّف للجلسة أو القعدة أمام التلفزيون أو في صالة السينما، لا الوقفة أو الالتفاتة إلى اللوحة في صالون أو في صالة عرض.
تغيّر الزمن، إذن، وتغيّرت أيضاً علاقة العمل الفني بالمكان: انتفت الصلة بين اللوحة والصالون البيتي، لا بل في بعض الأحيان بين العمل وصالة العرض لصالح المتحف تحديداً. هذا لا يتّصل بإسقاط اللوحة عن حائطها القديم وحسب، بل بجعل المتحف أساساً للعرض (...).
كما يمكن لنا أن نتحقّق من هذه القطيعة في المادية التي يظهر بها صنعُ العمل الفني: فالعمل في "الفنّ الاختصاري" لا يحكي، على سبيل المثال، في صورة مباشرة أو غير مباشرة، تاريخ صنعه أو سيرته، مثلما هو عليه الحال في الفنّ السابق عليه، ذلك أنّه فنّ تنفيذي يقوم على إنزال الشكل في قالبه المادي، بعد أن استقرّت صورته سابقاً، أي قبل صنعه. ما يعنيني من هذه الملاحظة هو أنّ اللوحة تفتقد ماديتها المعلنة لها، أي ما تقوم عليه من صلة تتابعية في الصنع، ودالة على الصنع في تجاوزه وتخالطه.
وهو ما يقودني إلى تبيّن أمر آخر، وهو أنّ الفنان بات يبحث عن "الذريعة"، عن الإدهاش كأساس للتجديد. وهي مخالفة لا تقوم على إنتاج لوحة مغايرة في موضوعها – وهو الفارق بين التشبيهية والتجريدية -، أو مغايرة في طريقة صنعها – وهو الفارق بين الفنّ والحرفة -، بل في أسس تقع خارج الفنّ، أو تعلن "موته"، حسب العبارة الشهيرة. وهو انسياق في طلب "الفرادة" التي هي أساس التنافس على حيازة "النادر" في المجتمعات التداولية.
هكذا يمكننا القول إنّ بعضاً من ممارسات الطليعة يقطع مع "اللعب" (حسب عبارة مالارميه في وصفه لعملية الإبداع) كأساس لهذا العمل غير النافع، ولكن الذي نمحضه صفة إيجابية، بل تقديسية، وهو الفنّ. ولا أقصد بـ "اللعب" هذه الحركات الظريفة والمفارقة التي نقع عليها في بعض ممارسات الطليعة (كأن "يرزم" الفنان كريستو أحد الجسور الباريسية بقماش أبيض، داعياً العابرين إلى المشي عليها)، بل اللعب بوصفه طلباً للمعنى وتحايلاً عليه. وليس المقصود من "اللعب" عرض المفارقة، بل أن يكون معنى الفنّ إشكالياً، أي ملتبساً مفتوح الاحتمالات. اللعب بوصفه تعريض الفنان لنفسه في لعبة التعبير، وبوصفه طلباً لفنٍ نتوجّه إليه من دون أن تكون خاتمته معلنة سلفاً.
ففي العمل الطليعي يتمّ الانطلاق غالباً من ذهن، من توصّلات ذهنية، من مفارقة تشكيلية، لا من معالجة وتجريب وطرق صنع. فنّ شديد الاتصال بالإيديولوجية بالتالي، أي بالمعتقدات والأفكار والأشكال والحلول المسبقة. وهو ما نتبيّنه في المفارقة بين الحاصل التصويري والذريعة الثقافية (أو الحيلة الشكلية) التي يقوم عليها. إنّ هذه التجارب الطليعية أدّت إلى (أو قامت في منشأها) نقاش "جذري" في بعض الأحيان عن اللوحة والمتلقّي، على سبيل المثال، إلاّ أنّها أفقدتنا اللذة (وسبيلها الانفعال) بوصفها مؤدّى العلاقة الطوعية الاختيارية والتصعيدية في آن بين الفنان والمتلقّي (...).
أنحاز إلى فنّ يُغلِّب اللعب على التصميم، والابتكار على القصد المحكم، والرغبة على الشكل (المنتهي قبل صنعه)؛ أنحاز إليه لأنّه يمكن طاقتنا التاريخية، بما هي رغبة ومقاصد، من التعبير.

(ورقة عمل في الندوة النقدية الموازية لبينالي القاهرة الدولي الخامس، 1994).