هجرة العلامات
مثل هذا اللقاء بديهي، طبيعي وغير مفتعل أبداً. كيف لا، والعلامة، الحروفية وغيرها، تؤلّف منذ العقد الثاني في هذا القرن (العشرين) لدى الفنانين الأوروبيين (والأميركيين أيضاً في فترة لاحقة)، ومنذ العقد الرابع لدى الفنانين العرب (والمسلمين الإيرانيين أيضاً)، المعلّم الأساسي لسلسلة واسعة من التجارب التشكيلية! هذا ما يمكن أن نتأكّد منه عند مراجعة السياق التشكيلي الخصوصي لكلّ من المناخين الثقافيين، الأوروبي والعربي، ذلك أنّنا لم نكتب حتى أيامنا هذه أيّ دراسة جادة، ولا أيّ كتاب، حول هذه التجربة المشتركة في استلهام العلامة في العمل الفني الحديث، رغم ترحال العلامات المتواصل بين ضفتي المتوسط. هناك التجاهل، وهناك الإهمال؛ وهناك أيضاً صعوبات مثل هذا الحوار. حقل التجربة التشكيلية واحد، إلاّ أنّه يتّصل بمنابع مختلفة، ويسعى إلى غايات مختلفة غالباً. الحوار بديهي وممكن، ولكن بشرط إزالة العديد من الأفكار الخاطئة... المتبادلة.
لا بدّ، بادئ ذي بدء، من الوقوف أمام فنّ الخطّ، العربي حصراً، لتبيان هذه "العلاقة الأولى" بين العلامة والتشكيل. إنّها وقفة ضرورية للفنان العربي كما للفنان الأوروبي: غير خطاط (أو فنان) عربي نقل فنّ الخطّ العربي إلى اللوحة الحديثة (محمد سعيد الصكار وحسين مسعودي وعبد الغني العاني من العراق، عثمان وقيع الله وأحمد شبرين من السودان، وجيه نحلة اللبناني في بداياته...)، أي أنّ مصادر لوحاتهم قائمة في هذا الفنّ القديم؛ وغير فنان أوروبي توجّه بدوره إلى فنّ الخطّ العربي (والآسيوي أيضاً) للتعرّف على مقاصده وتقنياته (ديغوتيكس، ميشو، توبي، ماتيو، كاندينسكي، كلي...). العودة إلى الخطّ لازمة، إذن، في الحالتين؛ وهي لازمة، أيضاً، على المستوى النظري الصرف، نظراً لما يحيط فنّ الخطّ، أوروبياً وعربياً أيضاً، من أفكار خاطئة أو غير دقيقة.
إنّ اللغة - وهي استنسابية وتوافقية – تحتفظ لنا بمفاجآت، وتسهّل وصولنا إلى كشوفات سارة: "خطّ" تعني في العربية ممارستين مخصوصتين باليد: "كتب" و"رسم"، كما انّ المصدر "خطّ" يعني أيضاً، وفي آن معاً: فعل الكتابة وفنّ الخطّ. وهل يعني هذا أنّ الحضارة العربية – الإسلامية جمعت بين الممارستين؟ من دون شكّ. هذا ما يتحاشاه بعض النقاد الأوروبيين حين يقيمون فصلاً قاطعاً بين الفنّ، من جهة، وبين فنّ الخطّ العربي، من جهة ثانية، منطلقين من نظرة جمالية أوروبية المركز والمنطلق والهدف، تصنف فنّ الخطّ العربي في مقام "دوني" أو "تطبيقي" بإزاء اللوحة الزيتية ذات المقام "المعتبر"، دون أن يتبيّنوا بصورة مقرّبة العلاقات الأكيدة القائمة بين فنّ الخطّ وفنّ الرسم. إنّ استعمالات الخطّ المختلفة على الشقف وعظام الجمال وجريد النخل وقطع الخزف والأديم والرق والبردى والورق والحجر والنحاس، وخلافها من المواد، استدعت وتطلّبت من الخطّاط تقنيات وحلولاً، هي تقنيات وحلول الرسام أحياناً، دون أن تتطابق العمليتان بالضرورة. ففنّ الخطّ هو غير ملكة الكتابة؛ وهذا ما يؤكّده ابن خلدون في "المقدمة"، حين يميّز بصورة واضحة بين الخطّ والكتابة في "عداد الصنائع الإنسانية" ضمن الفصل الواحد. فالكتابة "رسوم وأشكال حرفية تدلّ على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس"، والخطّ "صناعة شريفة". هذا ما يؤكّده التاريخ بدوره، إذ أنّ فنّ الخطّ لم يكن معطى سلفاً للعرب، ثم للمسلمين، ولم يأخذوه عن غيرهم من الأمم والحضارات التي اتّصلوا بها، بل وضعوه بأنفسهم، فصاغوا قواعده وبلوروا طرزه، في مسار تاريخي–فني، لا يقلّ تعقيداً أبداً عن المسار الذي عرفه الفنّ الحديث في أوروبا عند انبثاق التجريدية. هذا ما نتأكّد منه أيضاً في العمل الخطي نفسه، حيث يتّضح لنا انّه يشترط مفهوماً وتصوّراً للمساحة، وتوزّعاً للعناصر فوقها، ليست بعيدة أبداً عن خصوصيات العمل التصويري. هذا بالإضافة إلى أنّ فنّ الخطّ لا يفيد الإيضاح وحسب، بل يفيد الفنّ الخالص أيضاً. فغرضه لا يقوم، في غالب الأحيان، على الإبانة والشرح بل على اللعبة الجمالية المحضة، وهي سمات ملازمة للعمل التصويري بدوره. علينا أن لا ننسى بالمقابل أنّ التصوير بيني نظامه الشكلي والجمالي انطلاقاً من الواقع المادي، أمّا فنّ الخطّ فهو ينطلق سلفاً من الشكل، الغرافيكي تحديداً، أي أنّه، بالتالي، شكل شكلاني.
العلاقات قائمة، إذن، بين فنّ الخطّ وفنّ التصوير، إلاّ أنّهما فنان مختلفان. إنّ المقارنة بينهما غير جائزة، لأنّها تنتزع كلّ فنّ من سياقه الخصوصي، فتبدّل طبيعته وتشوّهه بالتالي، كما أنّها تقلّل من قيمة الواحد إزاء الآخر. الخطّ والتصوير يتّصلان ببعضهما البعض، دون أن تفارق كلّ ممارسة مجالها الفني الخاص؛ وهما يتقاطعان أحياناً دون أن يتطابقا. هل يعني هذا أنّ فنّ الخطّ يساوي في الجمالية العربية–الإسلامية ما يساويه التصوير في الجمالية الأوروبية؟ طبعاً. يكفي أن نعود إلى عشرات الكتب العربية القديمة لكي نتبيّن مكانة فنّ الخطّ عند العرب (والمسلمين أيضاً)، رغم أنّها تقتصر أحياناً على السرد التاريخي، دون النظر الفني الخالص. هذا ما يتلافاه عدد من الكتب العربية المعاصرة، إلاّ أنّه يقع، أحياناً، في خطأين: التعامل مع فنّ الخطّ كما لو أنّه "فنّ تجريدي حديث"، من جهة، والتشديد فقط على الجانب "الروحاني"، لا بل "الصوفي"، في تجارب الخطّ العربي.
إنّ فنّ الخطّ هو أساساً فنّ تصميمي، ذو قواعد مضبوطة، أي أنّه فنّ الصيغة المؤسلبة أكثر منه فنّ الأسلوب الفردي الحرّ. إنّه فنّ متّصل أساساً بالهندسة أكثر منه بالرسم أو بالتصوير، وهذا ما يتناساه البعض، أو ما لا يعيره أيّ اهتمام. إنّ بلورة فنّ الخطّ تمّت أساساً عبر هندسة الحروف، وهذا ما تحقّق تاريخياً على يد قطبة والضحاك بن عجلان وإسحاق بن حماد؛ ثم ما لبث الوزير ابن مقلة أن وضع في أوائل القرن الرابع الهجري قواعد ومعايير يلتزمها الخطاط المجوِّد، وأكمل ابن عبد السلام عمل ابن مقلة، كما أكمل ابن البواب (المتوفّي عام 413هـ) قواعد الخطّ وهندسته، كما وضع شمس الدين بن علي الزفتاوي قواعد للخطّ الثلث... وقد بُنِيَت هذه المعايير والقواعد على أسس هندسية، وعلى نسبة كلّ حرف إلى حرف الألف، التي وصفها ابن مقلة بأنّها "شكل مركّب من خطّ منتصب يجب أن يكون مستقيماً غير مائل إلى استلقاء ولا انكباب"؛ وقد قدّر، على سبيل المثال، طول الألف في الخطّ الثلث بقدر مربّع عرضها، وكانت وحدة القياس هي شعرة البرذون، فإذا كان عرضها ثماني شعرات كان طولها 64 شعرة. كما قيست الحروف أيضاً بنقط القلم الذي تكتب به، فجعل شرف الدين محمد بن الشبخ عزّ الدين شعبان الآثاري سبعة أمثال عرضها في ألفيته التي سمّاها "العناية الربانية في الطريقة الشعبانية"، أمّا أخوان الصفا، في "الرسائل"، فقد وجدوا أنّ أفضل هذه النسب ما كان طول الألف بمقدر ثمانية أمثال عرضها، "وهذه هي نسبة طول جسم الإنسان العادي إلى عرضه". كما قدّرت أيضاً أبعاد الحروف الأخرى، وأحكم قياس كلّ حرف وأجزائه بالنسبة إلى قياس حرف الألف: الباء، على سبيل المثال، تتكوّن من خطّ أفقي وآخرين رأسيين مجموعهما يساوي طول الألف، وحرف الجيم يتكوّن من خطّين، أحدهما أفقي والآخر نصف دائرة قطرها يساوي طول الألف...؛ وقد ذكر نجم الدين أبو بكر محمد أنّ الحروف تتكوّن من دوائر وأجزاء منها مع خطوط، وطبّق هذا التقسيم على خطّ النسخ والثلث والرقعة والمحقّق.
إنّها معايير الضبط، التي تقصر فنّ الخطّ على صيغ هندسية، تصميمية، تصورية ثابتة؛ وقد سمّيت هذه المعايير بـ"النسبة الفاضلة": إنّه فنّ النسبة والقياس. إلاّ أنّ ابن مقلة، وعدداً غيره من الخطاطين، لم يكتفوا بهذه المعايير، بل عقدوا الصلة بين فنّ الخطّ والموسيقى، وبينه وبين التشكيل أيضاً. فطلب ابن مقلة في الحرف صفات أخرى، غير الهندسة القياسية، هي صفاته الجمالية، التي لخصها في أمرين: حسن التشكيل، وذكر فيه: التوفية والإتمام والإكمال والإشباع والإرسال؛ وحسن الوضع، وذكر فيه: التوصيف والتأليف والتسطير والتنصيل.
إنّه فنّ الصيغة في حدّه الأدنى، وقد أصبح قابلاً للتشكّلات الفنية التي تمتاز بدرجة من الحرية والابتكار عند كبار الخطّاطين المجودين. هذا ما نتحقّق منه أيضاً في المسار الفني الذي عرفه الخطّ الكوفي، مثلاً، من صيغته الهندسية الأولى الصارمة، حتى تحوّلاته المتطوّرة إلى الكوفي المضفور أو التربيعي. وهذا يصحّ أيضاً في الخطّ الثلث وتحوّلاته. وماذا عن "روحانية" هذا الفنّ؟
لا يرقى أيّ شكّ حول "دينية" هذا الفنّ، وحول "عربيته" أيضاً؛ فهو فنّ عربي ولكن لاعتبارات إسلامية ودينية. إلاّ أنّ هذا الفنّ حقّق وظائف أخرى، وأجاب على حاجات عربية–إسلامية مختلفة، غير دينية، أي على وظائف وحاجات حضرية، دنيوية، تزويقية، سلطانية وغيرها، هي غير الوظيفة الروحانية تماماً. إنّ قضايا الفنّ الحديث ومشكلاته، عربياً وأوروبياً، هي التي تفسّر نشأة عدد من الأفكار الخاطئة التي لم تسهّل عملية التعرّف على العلائق المتداخلة والملتبسة بين فنّ الخطّ (القديم) وفنّ التصوير (الحديث)؛ فقد كانت تتمّ قراءة الماضي انطلاقاً من حاجات وضرورات راهنة. ولكن ماذا عن العلامة والتصوير في زماننا هذا؟
إنّ الإجابة ميسرة أكثر، طالما أنّ الفنانين العرب والأوروبيين يمارسون الفنّ (الحديث) ذاته، بالوسائل (ريشة...) ذاتها، وفوق الحوامل المادية (قماشة...) ذاتها. ولكن متى حدث هذا؟
يجمع المؤرّخون على أنّ الفنّان براك هو أول من وظّف العلامة في اللوحة الحديثة؛ وكان ذلك في 1911 في عمله "البرتغالي" (الموجود في "متحف بال")، الذي ضمنه حروفاً وأرقاماً، كعناصر تشكيلية. إنّها العلامة الأولى، ذلك أنّ ما حقّقه الكاتب ميشال بيتور في كتابه "الكلمات في التصوير" مفيد في فهم أمور هامّة في التصوير الغربي، إلاّ أنّه لا يفيدنا أبداً في فهم ووعي ومعرفة التوظيف الأوروبي للعلامة –ومنها العلامة اللغوية– في التصوير؛ فهو ينتبه إلى كتابة توقيع الفنان لأول مرّة في اللوحة، أو إلى الإهداء المكتوب على لوحة، أو إلى غيرها من الكلمات، دون أن تؤلّف هذه الإشارات والجمل الكلامية عنصراً تشكيلياً في اللوحة.
براك، إذن، هو الأول؛ إلاّ أنّ استعمالاته هذه، وغيره من الفنانين، التكعبيين خصوصاً، في العقد الثاني من هذا القرن (العشرين)، كانت تأتي ضمن إطار ممارسة "الكولاج" نفسها. هذا لا يمنع أنّ عدداً متزايداً من الفنانين الأوروبيين سيتوقّف أكثر فأكثر أمام العلامة، اللغوية خاصة، ولذاتها، ولاعتبارات تشكيلية محضة. هذا ما سيتحقّق مع التكعيبيين والمستقبليين، الروس والطليان، ومع السورياليين، والتجريديين، وغيرهم، الذين نظروا إلى الكتابة، الخطية أو الطباعية، نظرة جديدة، نظرة بصرية خالصة. إنّ انبثاق الفنّ التجريدي هو الذي أتاح التعرّف على السطر، واللطخة، والنقطة، والعلامات الهندسية، والإشارات الرمزية، والحروف، كعناصر لجمالية جديدة في رؤية مختلفة. إذا كان كاندينسكي وكلي وماتيس تلمّسوا بصورة أولية العلامات العربية في لوحاتهم بحثاً عن مصادر جديدة للتشكيل، فإنّ لاحقيهم من الفنانين الأوروبيين (والأميركيين) سعوا إلى فهم العلامات الخفيّة بين التصوير والخطّ، أكان ذلك آسيوياً أم عربياً. مارك توبي مثل هنري ميشو أو برنار كينتين أو بريون جيزين زاروا البلدان العربية، المغاربية خصوصاً، لمعرفة مقربة من الخطّ العربي، حتى أنّ تجربة الأخير بينهم تميّزت عن غيرها؛ كيف لا وهو الذي يقول بأنّ "لوحاتنا ليست سوى صفحات من كتاب نعلّقها على الحائط ونقرأها مثل أوراق المخطوطة"! أقام هذا الفنان من طنجة، بعد اتّصاله المقرّب بالثقافة اليابانية، حتى أنّه لم يتأخّر عن إنتاج لوحات تتقاطع فيها بصورة عامودية خطوط الكتابة الآسيوية مع الكتابة العربية المتوزّعة بصورة أفقية، وذلك وفق تكوين دائري نبصر فيه اللوحة من سائر الجوانب. إنّ فكرة التكوين الدائري للوحة اقتبسها الفنان الأميركي جيزين من الشرائط الكتابية العربية، حيث يضطرّ القارئ – المشاهد إلى الدوران لملاحقة المعنى ومتابعته؛ إلاّ أنّ اقتباسه هذا أفاده لحذف النقطة المركزية – نقطة الوسط في البعد المنظوري – التي يقوم عليها بناء اللوحة الغربية منذ عصر النهضة؛ وهو بذلك يكون قد طوّر تقنية الفنان الأميركي "جاكسون بولّلوك" المسماة بـ “all-over” ، التي تقدّم لنا لوحة متساوية، أي مسطّحة تماماً، دون أيّة نقطة مركزية على خطّ الأفق في وسط اللوحة.
إلاّ أنّ الفنانين اتّجهوا بشكل خاص إلى اليابان والصين، حتى أنّ الفنان توبي تعلّم في 1921 "أسرار" الكتابة الصينية من الخطاط الصيني تنغ كواي Teng Kwei ثم ما لبثت أن أقام للغرض نفسه، في 1934، في شنغهاي، وفي اليابان أيضاً، في صومعة تابعة لطريقة "الزن". اندريه ماسون درس بدوره الخطّ الصيني في 1949، وهنري ميشو جال طويلاً في 1930 و 1931 بين الصين واليابان. إنّ آثار الفنّ الخطّي الآسيوي في اللوحات الغربية جليّة أكثر من آثار من العلامات العربية، ذلك أنّ هؤلاء الفنانين بحثوا في "قاموس العلامات" هذا عن "العفوي" لا عن "التصميمي"، عمّا يحرّر يدهم فوق اللوحة، لا عن فنّ النسبة والمقادير، وهو ما وجدوه أكثر في فنّي الخطّ، الياباني والصيني، منه في فنّ الخطّ العربي.
لم يتّجهوا إلى تجارب الخطّ الآسيوي لتقليدها أو محاكاتها، بل للاستفادة من بعض تقنياتها وحلولها. رسومات ميشو باتت تنهض، مثلاً، على اللون الأسود فقط، لون الحبر. لوحات سولاج، بين 1947 و 1949 تبتعد عن النسق الكتابي – الغرافيكي، لتتجمّع وتتركّز في علامة واحدة، مركزية، يتحلّق حولها النظر مباشرة، دفعى واحدة، أي دون أن ينتقل مثلما ينتقل النظر وهو يقرأ عبارة أو جملة، مثلما يتحلّق النظر في حركة واحدة، كلية، لالتقاط العلامة اللغوية (المقطعية) الآسيوية: إنّها لوحة تُعطى للنظر مرّة واحدة، تتألّف من خطوط متداخلة، متجمّعة في علامة، وذلك وفق بناء تركيبي عامودي. هذا ما أصاب الشكل، وهذا ما أصاب اللون أيضاً، في لوحات سولاج وغيره أيضاً: اللون بات قائماً في العلامة، في الشكل نفسه؛ لم يعد صفة لشيء، أو لاحقاً وحسب؛ أصبح اللون الأسود المساحة والمادة والحدود في اللوحة. هذا ما نجده أيضاً في بعض أعمال ديغوتكس. ينطبق على هذه الأعمال ما قاله يورن في بيان نظري في الأربعينات من هذا القرن: "الكتابة والتصوير شيء واحد، والشيء نفسه".
علينا أن لا نتحدّث عن علامة في هذه الأعمال، بل عن غابة من العلامات.
علامات: تتراوح من "الخربشة" حتى العبارة، من الحروف المجزوءة أو الكاملة حتى الكلمات أو الجمل البينة؛ هي مخطوطة أو طباعية، قصاصة جريدة أو كتابة اختبارية وإحساسية، وفق حركات تتنوّع بين الهندسي المضبوط الحرّ المتفلّت، بين الصارم والغنائي، بين التصويري والانفعالي.
العلامة هي مادة الشكل ووحدته الأساسية، أو هي عنصر ثانوي مصاحب لغيره في العمل الفني؛ وهي، أيضاً، مقروءة، مرئية، أو غير مقروءة وغير مرئية. تجارب متنوّعة، إذن، تتّضح فيها العلامة كمبني وكمعنى، كحرف أو كجملة، مطبوعة أو مخطوطة، أو أنّها لا تتّضح أبداً، في أشكال، هي دون التبلور الخطّي.
إنّها هجرة العلامات حقاً، ولكن في مسارات غير متوقّعة أبداً؛ مثلما حدث لعدد كبير من الفنانين العرب الذين وظّفوا العلامة، اللغوية خصوصاً، في أعمالهم الفنية، ولكن ليس في بلدانهم، بل خارجها، حين تعرّفوا على قابلياتها الفنية الجديدة في أعمال الغربيين الحديثة، وفي أعمال بول كلي خصوصاً. بول لي كان الاكتشاف لأكثر من واحد بينهم؛ وهو ما أكّده غير واحد منهم.
إلى متى يرقى الاستعمال الأول – الفني تحديداً – للعلامة في التصوير العربي الحديث؟
الفنان العراقي جميل حمودي يؤكّد في غير مناسبة ومجال أنّه "الرائد الأول"، وهو أيضاً عنوان الكتاب الذي خصّه به الكاتب الفرنسي بول بالطا: هناك عملان حروفيان للفنان حمودي موقّعان في عام 1945، ومثبتان في هذا الكتاب، وهما محيّران، لأنّ الفنان كان قد أكّد في غير تصريح صحفي أنّه لم يبدأ تجاربه الحروفية إلاّ في عام 1947، بعد أن حلّ في باريس وتعرّف فيها على هذه التجارب الجديدة، وهو ما كتبه بنفسه أيضاً في كتاب "البعد الواحد"، حيث يقول: "إنّ اللحظة التي وثبت فيها إلى ذهني فكرة استيحاء الحرف العربي في العمل الفني كانت في ساعتها نوعاً من الابتهال، والصلوات لنفس أفزعها الفراغ الذي ملأ الحياة الأوروبية، التي كنت حديث العهد بها. وكان الخوف من الضياع في تراث لا يمتّ لوجودي الفكري والقومي بصلة سبب الثورة التي اجتاحتني على المثل المادية الصادرة عن حضارة الآلة – الماكنة، وحضارة المادة الرخيصة فتمسّكت بالقيم الروحية التي تؤكّد على أصالة الروابط الحضارية والثقافية لوجودي؛ ولم أر أرضف وأقدس من الحرف العربي ينبوعاً آتي إليه لأشبع به عطشي للتعبير والإبداع، ملتصقاً بكلّ كيانب بتاريخية بلادي ومؤدّياً في مجال الابتكار الحديث ما يطمح إليه أيّ فنان معاصر". إذن، هو بدأ هذه التجربة في أوروبا، وهو لم يحلّ فيها إلاّ في عام 1947، فماذا عن العملين الموقّعين في عام 1945؟ هل يعني هذا أنّ الفنان رسم هذين العملين في بغداد في محاولة فنية لم تتأكّد وتتبلور إلاّ بعد إقامته في باريس؟
الفنان الإيراني حسين زندرودي يؤكّد أيضاً بأنّه "الرائد الأول" في العالم الإسلامي، بعد أن أطلق في إيران، ابتداءً من العام 1957، "مدرسة ساغا خانه" (وهو اسم أطلقه أحد الصحفيين الإيرانيين على طريقة زندرودي الفنية، وعلى أتباعها وتلاميذها، وتقوم على استلهام الحرف في اللوحة الحديثة). لم يكن زندرودي الرائد الأول، لأنّ هناك إيرانيين آخرين، وقبل العرب، ينافسونه على هذه الأسبقية: ناصر أسار (من مواليد 1928 في طهران) الذي تميّز فنياً منذ 1953 في باريس بتخطيطاته؛ والفنان الإيراني الآخر محمد صابر فيوزي (1909-1973) الذي بدأ بتجاربه الحروفية بعد الحرب العالمية الثانية، إلاّ أنّها لم تعرض في صالة عرض قبل موته أبداً. يتّضح لنا، إذن، أنّ الفنان حمودي كان سبّاقاً أيضاً في المجال العربي؟ هناك فنانة، عراقية هي الأخرى، تنافسه على هذا اللقب: مديحة عمر.
عرضت الفنانة عمر في معرضها الشامل بـ "قاعة الرواق" البغدادية في 26 آذار / مارس 1981 عدّة لوحات حروفية مؤرّخة في عام 1946، وهي أعمالها الأولى دون شكّ، وقد كانت تدرس الفنّ في واشنطن. هذا ومن المعروف أنّ الفنانة شاركت في عام 1947 في معرض جماعي في "متحف التاريخ الطبيعي" بواشنطن، ونظّمت في عام 1949 في "متحف الكوركوران" في واشنطن معرضها الشخصي الأولن وكان بعنوان: "صور تجريدية للحروف العربية"، كما كرّرت التجربة نفسها، في العام نفسه، في "مكتبة بي بودي" في جورج تاون واشنطن، وفي "مركز جن للفنون الجميلة" في سلفرسبرنغ بولاية ماري لاند. أهي الرائدة الأولى؟ هذا هو الرأي الذي نميل إليه، لأنّ الأساسي في هذا المجال لا يقتصر على معرفة تاريخ أول لوحة حروفية عربية (وإسلامية) وحسب، بل على التأكّد من هذه الوجهة وثبوتها في تجربة الفنانين الأوائل. حين كانت تقتصر التجربة الحروفية عند حمودي على أعمال محدودة، كانت مديحة عمر تخصّص معرضاً لأعمالها (أكثر من 22 عملاً)؛ وحين كان حمودي يتعرّف ويلتمس في باريس هذه التجربة، كانت مديحة عمر تحكم العلاقة بين "التجريد" و "الحرف العربي"، وهو ما يشير إليه بجلاء موضوع معرضها، بالإضافة إلى أنّها نشرت إلى جانب معرضها هذا بياناً نظرياً، هو "البيان الحروفي العربي الأول" دون شكّ، تقول فيه: "لقد شاهدت الفنّ الحديث ودرسته مقابلة دوماً بينه وبين الفنّ العربي في الشرق الأوسط. فوجدت الأخير أيضاً بهيّ الألوان، ساحراً، وفي الوقت نفسه معقّداً ومزخرفاً، حتى شعرت أنّه من الضروري أن تتهيأ لهذا الفنّ الخالد دفعة قوية تخرجه ممّا هو عليه من الجمود، وتحرّره من السطحية، وتقرّبه من فنّ عصرنا الحاضر المتّصف بجدية التعبير والحركة والقلق".
"وأنا، أيضاً، رائد"، لا يتردّد بدوره عن القول الفنان اللبناني وجيه نحلة، رغم أنّ لوحته الحروفية الأولى ترقى إلى عام 1952، ذلك أنّ الفنان كان يعتقد، حين أنجز هذه اللوحة، أنّه يشقّ طريقاً غير معبّد، وغير مطروق؛ كيف لا وهو لم يكن على دارية بما كانت قد أنجزته مديحة عمر أو جميل حمودي.
كلّهم رواد بكيفية ما، وسبّاقون أيضاً، خاصّة وأنّ هذه التجارب الأولى كانت تتمّفي بلدان مختلفة، لفنانين ناشئين، حتى لا نقول مغمورين. إلاّ أنّ هؤلاء الرواد – ما عدا حسين زندرودي – لم يلعبوا دوراً حاسماً في إطلاق هذا التيار. فنانون آخرون، خاصة شاكر حسن آل سعيد، هم الذين سيجعلون من هذه التجارب تياراً عربياً قوياً، منذ نهاية الستينات بشكل خاص، خاصّة مع تأسيس "جماعة البعد الواحد" (أو "الفنّ يستلهم الحرف") في 1971.
علينا أن نلفت النظر، بادئ ذي بدء، إلى أنّ التجربة العربية توقّفت أساساً أمام العلامة اللغوية على حساب غيرها من العلامات. عدد قليل من هؤلاء الفنانين (ضياء العزاوي، رافع الناصري، رشيد القريشي، فريد بلكاهية...) توقّف أمام العلامات غير اللغوية، أمّا الأغلبية السابقة منهم فقد توقّفت أمام اللغة، العلامة الكبرى. قد لا تكون تسمية هذه التجربة بـ "الحروفية" دقيقة. قلّة من الفنانين العرب (شاكر حسن آل سعيد، حسين ماضي، عبد الله حريري، يوسف أحمد، رافع الناصري...) استثمرت طاقات الحرف التشكيلية، أمّا الغالبية العظمى منهم فقد عملت على العبارة العربية، أكانت جملة أم مقطعاً أم نصّاً. قد تكون تسميتهم بـ "اللغويين" دقيقة أكثر. إنّهم يقفون أمام اللغة العربية بمتونها المختلفة، من النصّ الديني إلى النصّ الشعري، مروراً بأنواع الكتابات العربية الأخرى، من الشعار حتى الغعلانات مروراً بالأمثال والحكم. يقفون أمام اللغة العربية مثلما يقف البناء أمام مقلع الحجارة: هذا يكتفي بمجزوء الحرف أو الحرف نفسه ليبني عمارته الخاصة، وهذا يعود إلى الجملة والمقطع (ضياء العزاوي، سمير سلامة، شاكر حسن آل سعيد، كمال بلاطة...)، وهذا يعود إلى النص كاملاً (ايتيل عدنان، رشيد القريشي...)، وهذا يبتعد عن معنى العبارة متوقّفاً أمام مبناها وحسب (نجا المهداوي، سعيد أ. عقل، نجيب بلخوخة، رشيد القريشي، مهدي قطبي...).
الحرف العربي مفرداً أو مجتمعاً، بات عماد العمل الفني. إنّه حجر البناء والبناء نفسه؛ المادة والصورة؛ نقطة الإنطلاق ونقطة الوصول.
الحرف: العلامة السامة الجديدة.
اللغة: نصّ الفنّ الجديد، بعد أن كان القرآن الكريم نصّ الخطّ العربي. الصلة بين التجربتين قائمة، وليست مفتعلة. إنّها صلة موجودة، رغم أنّ الفنانين العرب تغرّبوا بعيداً قبل أن يستقرّوا من جديد في رحاب اللغة وقبل أن يكتشفوا قنوات جديدة للصلة أيضاً بين المفردة اللغوية والفنّ. نطتشف في هذا المستوى التعبيري أيضاً أنّ المسافة موجودة بين القول النظري والمنتوجالفني، هي المسافة بين التطلّع إلى نموذج جمالي غربي عند مبدعين من العالم الثالث، وبين واقع إنتاجهم الفني، الذي يستجيب إلى حاجات وقيم محلية. فنحن نقرأ على سبيل المثال، في البيان النظري لـ "البعد الواحد"، أنّه يقصد بهذه الفكرة "اتّخاذ الحرف الكتابي نقطة إنطلاق للوصول إلى معنى الخطّ "كقيمة شكلية" صرف"، وهو ما يؤكّده أيضاً غير فنان حروفي عربي؛ إلاّ أنّ لمتتبّع لأعمال فناني "البعد الواحد" وأقرانهم يلاحظ، غالباً، أنّ الفنان يتحرّر من طرز الخطّ العربي في الكتابة لصالح كتابة منطلقة ويومية، إلاّ أنّه، بالمقابل، يؤكّد دائماً، ومبرزاً، للسمة الدلالية في المفردة اللغوية، أي أنّ بنية عمله الفني تنهض على مدخلين: تشكيلي ولغوي، حيث يؤدّي المعنى دوره ويتشارك مع الشكل في إنتاج العمل الفني.
إنّ الصلة لا تزال قائمة مع فنّ الخطّ. هذا ما نتأكّد منه في التشديد والتأكيد على "المعنى اللغوي" الجليّ والمعلن للعمل الفني، وفي أساسيات ومواصفات وتقنيات العمل نفسها.
إنّ التعامل مع الحامل المادي (قماشة، ورقة، جدار...) يتمّ ويتحقّق دون تقميش خلفيته، أي أنّ الفنان يتعامل معه تعامله مع الورقة، فيثبت العبارات – الأشكال تثبيتاً عليه، كمن يدوّن أن يخطّ: يغطّي الفنان رشيد القريشي (أو محجوب بن بيلا ومهدي قطبي...) خلفية عمله بشبكة من الكتابات، دون أن تفيد أيّ معنى بالضرورة، أي أنّ الفنان يستعيد تقنيات الخطّ والكتابة، لا تقنيات اللوحة الحديثة (وهذا ما نجده أيضاً عند عددٍ – ولو محدود – من الفنانين الغربيين).
هذا ما يتعرّض له اللون أيضاً في أعمال بعض الحروفين. فاللون مبسوط دون تدرّجات (العزاوي، المليحي...)، كلون زخرفي، كلون تصميمي؛ وهو في أعمال عدد آخر من الفنانين (المهداوي، ماضي، حريري...) بديل مماثل للون الحبر، ليس إلاّ...
نحن لا نصدر أحكاماً، بل نصف واقع الحال، وهو أنّ بعض التجارب الحروفية يتّصل من جديد، بطريقة محوّرة طبعاً، بفنّ الخطّ. إنّه الفنّ الاقتباسي بكيفية ما، وهو ما نتحقّق من وجوده في تجارب تشكيلية عربية أخرى، غير الحروفية. ألا نشهد بهذه الطريقة انبثاقاً جديداً لفنّ الصيغة، كما عرفناه في العصور الماضية؟ في العصفور؟ ربّما، إلاّ أنّ الشيء الأكيد هو أنّ الحروفية نجحت في تأكيد حضور العمل الفني الحديث في المجتمعات العربية، بعد أن كان حضوراً ضعيفاً ومحاطاً بعلامات الاستفهام والحذر. لم تزل الحركة الحروفية العربية ناشئة، رغم سنواتها الأربعين، لأنّها تعرف، بالإضافة إلى مشاكلها الخصوصية – وهي مشاكل ناشئة، من جهة، عن صلاتها غير المنقطعة بفنّ الخطّ، وعن تأثّرها، من جهة ثانية، وتقليدها لتجارب حروفية غربية – مشاكل العمل الفني الحديث، وهي مشاكل ناشئة بدورها نظراً لنشأة هذا الفنّ المتأخرة في البلدان العربية.
اللقاء، إذن، بديهي وطبيعي؛ كما أنّ هذا الاستعراض التاريخي النقدي للتجربتين، الأوروبية والعربية، يوضح لنا الكيفية التي تعيد فيها كلّ ممارسة تشكيلية صلاتها بماضيها الفني، فيما ترسم آفاق المستقبل.
(ورقة افتتاحية لورشة العمل التي نظمها وأدارها الكاتب داغر، خلال شهر تموز-يوليو 1987، ضمن إطار أعمال الجامعة الأوروبية-العربية، في مالطة، حول موضوع: "التصوير والعلامة"، وشارك فيه عدد من النقاد والفنانين العرب والأوروبيين: غي دو روجمون، جان ميوت، رينيه لاموريه، بيار فان ليت، حسين زندرودي، وجيه نحلة، مهدي قطبي، بيار غوديبير، يانيك يوت، محمد عزيزة، عبد الوهاب المؤدب، وكتبها داغر بالفرنسية، ثم أعاد صياغتها بالعربية، ونشرها في مجلة "المقدمة"، باريس، العدد السادس، تشرين الثاني-نوفمبر 1987).