شاكر حسن آل سعيد : علامة الغياب بوصغها أثر الفن والبقاء
غياب الفنان العراقي شاكر حسن آل سعيد يزن كثيرا في سجل الفن العربي الحديث، إذ يفتقد أحد أبرز أعلامه في القرن العشرين، بل واحدا ممن كانت لهم اسهامات فاعلة فيه، في غير جيل فني، وفي غير اتجاه فني. فقد جمع هذا الفنان، في عمله وفي كتاباته الفنية، انتقالة الفن العراقي الحديث بين جيل رواده وجيل فنانيه المجيدين، وصولا إلى أجيال عديدة تتلمذت على يديه، مثلما تأثرت بغنى تجربته الفنية، فضلا عن رعايته العديد من تجاربها بمتابعاته النقدية والتعريفية. بل يختصر هذا الفنان، في عمله وإنتاجاته، مسيرة الفن العراقي منذ بدايته الحديثة وصولا إلى تجارب الفنانين العراقيين الجدد والمنتشرين في شتات الغربة والمنافي العديدة.
إلا أن غيابه عربي أيضا، بعد أن كانت للفنان اسهاماته في تجديد النظر الفني إلى اللوحة، إلى ملكتها التعبيرية. وقد كان بين قلة عربية سعت إلى أسلوبية خصوصية، إلى تحفيز المخيلة التشكيلية، إلى البحث عن توقيعات عربية في التصوير. ولقد كانت للوحته، كما لمواقفه الفنية، في تجارب الفنانين العرب، هنا وهناك، تأثيرات بينة، توقف لدراستها غير باحث في غير أطروحة جامعية، في العالم العربي كما في الخارج. وهو ما بلغ حضورا لافتا لفنه خارج العالم العربي, ولا سيما في باريس، عند عرض أعماله, في مطلع التسعينيات، مع فنانين غربيين سعوا بدورهم إلى تجريب العلاقة التشكيلية بين العلامة اللغوية والعلامة المرئية.
ولغيابه توقيعات مؤلمة تصيبني بدوري، إذ رافقت هذا الفنان مرافقة مقربة منذ نهاية السبعينيات، حين التقيته وحاورته وكتبت عنه غير مرة، ولا سيما في كتابي: "الحروفية العربية: فن وهوية"، أو في كتابي الآخر: "اللوحة العربية بين سياق وأفق"، فضلا عن حواراتي المطولة معه (والتي لم أنشرها حتى اليوم)، في مراجعة شاملة لحياته وفنه. وهو ما جرى في بغداد غير مرة بين السبعينيات والثمانينيات، سواء في دائرة الفنون التشكيلية، او في بيته حين أتاح لي تصوير جميع أعماله الفنية المتوافرة عنده، أو عندما اصطحبني إلى باب الشيخ، قرب جامع عبد القادر الجيلاني، مرتع الطفولة، إلى حوائطه المهملة التي تشبه سطوح لوحاته. أو حين اقتضى الأمر الاجتماع به - وهو المتدين الصارم - في "بار" فندق "الميليا منصور" البغدادي، أمام دهشة الكاتب العراقي ماجد السامرائي... أو حين التقيته في بيروت، وقبلها في عمان، أو قبل ذلك كله في باريس, في غير مرة، أو حين كنت أتسقط اخباره من الناقد الصديق فاروق يوسف، أو قبل سنة بالتمام والكمال حين التقيت صاحب صالة عرض عراقي كان يتولى عرض أعمال آل سعيد في الشارقة, في البينالي الأخير في نيسان-أبريل 2003، أو من الفنانة العراقية هناء مال الله، تلميذته الفنية والروحية، قبل أشهر قليلة في عمان.
كنت أستعيد هذه المشاهد والاخبار مرارا، إذ كان يرافقني في نوع من الحوار الداخلي المستديم مع نفسي عبره، عبر تجربته بمعناها الوجودي والثقافي: اقترب منه فيما أظن انني ابتعد عنه، وابتعد عنه فيما اقترب منه. ذلك ان الاسئلة التي حركته حركتني في بعضها، وإن كانت في صيغ مختلفة. فكنت أتبرم من حلوله الثقافية والسلوكية أحيانا، وألتقيها أحيانا أخرى، في نوع من النزاع الداخلي، هو عنوانه وعلامته ونقطة مآله أيضا. أما ان يبلغني خبر وفاته في تونس، قبل مباشرة محاضرتي في مدينة الشابة عن "الفن "، فهذا ما يؤكد لي أن موت الاحبة والمعلمين الكبار فاجع دوما، وفي أي وقت كان، حتى وان كان متوقعا بين ليلة وضحاها. إلا أن ما يخفف من هول الفقدان هو معرفة ما يبقى من إرث، من علامات، من نقاط استدلال، أراجع فيها الدرب والخطوات: فكيف إذا كان دليل الرحلة لم يخلف وراءه الغبار، بل ما يجعل الحياة أقل وحشة وأكثر جدوى، في هذا العنف الذي مضى فيه آل سعيد صامتا، بعيدا عما يجري في بغداده الأثيرة.
وثيقة نادرة
ففي حياته مضى بعيدا في الفن، وكان في ذلك قريبا من صورة للمثقف، للفنان، تجعله اقرب لأن يكون كاشفا لغيره ومكتشفا لنفسه. وهو ولع بالفن بلغ حدود المشقة، حدود التعبير المأزقي. ذلك ان آل سعيد، الذي لم ينعم بدراسة فنية مستقرة وثابتة، مثل أعداد من أفراد جيله، أمسك بالفن إمساكا غريبا، بل جعل وجوده مختفيا فيه إلى حدود التلاشي على انها حدود الأمل. غيره أقبل على الفن من دون أن يتخلى عما يصله بغيره، عن مهنة ثانية، عن وظيفة، فيما هو مضى فيه من دون رجوع أو توبة، من دون أن يبارحه تردد متأزم بين العيش والوعي، بين الفن والاعتقاد، وبين الذات والآخر. كما لو أنه وجد في الفن شيئا يتعدى الفن نفسه، شيئا قريبا من معنى الانسان في الوجود، شيئا مما يأمله ويجيب على أسئلة قلقه المقيم، خاصة حين يكون عراقيا عرف الحرب العالمية الثانية فيه مثل الحروب اللاحقة كلها، من دون أن يفارق العراق إلا لفترات قصيرة كانت تقوده إلى عمان في السنوات الاخيرة، قبل مرضه الأخير.
لم يبرح العراق في أحلك الظروف، فيما كان بعيدا عن القوى الحاكمة، مخلصا لفنه وحده. اقامة متعبة، منهكة أحيانا، بين فنانين موظفين وحزبيين ممن كان يغيظهم، من جهة، بتشدده في النظر إلى الفن وبعدم انغماسه بل ابتعاده الصريح عن "النضال" في الفن وبه. كما كان يغيظهم، من جهة ثانية، بقامته الفنية العالية، وبحضوره التشكيلي اللافت هنا وهناك، خارج العراق. بل بلغ الأمر حدود منع كتابه: "الحرية في الف"، الذي تم طبعه لاحقا في عمان، وبتقديم من رفيق الرحلة، جبرا ابراهيم جبرا.
ولقد وجدت - لتقديم هذا الفنان الكبير- بين أوراقي الخاصة وثيقة نادرة، غير معروفة، مدني بصورة مستنسخة عنها هو نفسه، وتتضمن أجوبته على اسئلة في هيئة "استبيان"، أعدها الأستاذ أحمد فياض المفرجي لصالح <"الأرشيف التشكيلي"، في "دائرة الفنون التشكيلية"، في وزارة الثقافة والاعلام العراقية، في مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم. ويشتمل الاستبيان على اسئلة مختلفة، تفيد في توثيق معلومات عن الفنانين العراقيين بأنفسهم، ومنهم آل سعيد.
للاستبيان مقدمة توضيحية، أعدها ووقعها المفرجي، وموجهة لجميع الفنانين، وهي بعنوان: "ملاحظات إلى الفنان"، ويقول فيها: "إن هذه الاستمارة ستحفظ بملف خاص يحمل اسمك، واعلم ان هذا الملف هو تاريخك الشخصي والفني، فيرجى تثبيت المعلومات بوضوح ودقة". وتضيف المقدمة: "بإمكانك أن تزود ملفك الخاص بنشاطاتك المقبلة، وبما تستذكره من معلومات سابقة قد تفوتك الاشارة اليها في هذه الاستمارة". كما ترجو المقدمة من الفنان "ترك فراغ مناسب على جانبي أوراق هذه الاستمارة عند الاجابة وذلك تسهيلا لحفظها في ملفك الشخصي". ويختتم المفرجي ملاحظاته بتقديم الشكر والامتنان للفنانين لتوفير وثائق تفيد في تأريخ الفن في العراق.
يشتمل الاستبيان على أسئلة عديدة، متبوعة بأجوبة الفنان آل سعيد، بخط يده، وتبدأ بسؤال عن الوضع العائلي، فيصرح بأن اسمه الثلاثي واللقب هو: شاكر حسن سعيد آل سعيد، واسم الاب: حسن، واسم الجد مركب، هو محمد سعيد، وان الانتساب القبلي هو لعشيرة الجبور. اما عن الاسم الفني الشائع فهو: شاكر حسن آل سعيد، مشيرا إلى انه كان يوقع لوحاته في فترة الخمسينيات باسم "أبومحمود". وتفيد قراءة الوثيقة في التعرف المدقق على تاريخ مولده، اذ يشير إلى انها سنة 1931 في دفتر النفوس الرسمي، وفي سنة 1926 في سجل سابق؛ ثم يضيف: "في احدى وثائق والدي تبين لدي ان الولادة كانت في عام 1925". أما محل ولادته فهو في مدينة السماوة، وفي بغداد حسب دفتر النفوس. ويذكر مقر اقامته في "حي الامين" ببغداد، عند اعداد الملف، وان رقم هاتفه في المسكن: 7717976. وينفي آل سعيد معرفته بالموقع، او المسكن الذي ولد فيه في مدينة السماوة، مضيفا: "أما الدور التي احتضنت طفولتي وصباي في بغداد فقد تهدم بعضها، وبقي البعض الآخر". وهي على العموم موزعة في المحلات التالية: سوق حمادة (العمر 8-11) بظهر جامع عطا (المتهدم الآن)، وباب الشيخ، جوار جامع عبد القادر الجيلاني. ويسرد آل سعيد أمكنة تحصيله العلمي والفني، كما يلي: يذكر في المرحلة الابتدائية "دار السلام الابتدائية" في بغداد (محلة سوق حمادة) حتى الصف السادس، ومدرسة باب الشيخ الابتدائية (محلة باب الشيخ)، قرب جامع الشيخ عبد القادر الجيلاني. ويذكر في المرحلة المتوسطة: المتوسطة المركزية، وفي المرحلة الثانوية: الاعدادية المركزية قرب وزارة الدفاع. ويذكر في المرحلة الجامعية: دار المعلمين العالية (العلوم الاجتماعية، 1949)، ثم معهد الفنون الجميلة (1955). ويقول عن الدراسة خارج العراق: "درست في المعاهد التالية: الأليانس الفرنسية: دراسة اللغة الفرنسية (مدرسة أهلية)؛ أكاديمية جوليان: دراسة التخطيط والرسم (مدرسة أهلية)؛ المدرسة الوطنية للفنون الزخرفية: أمضيت سنة في دراسة الديكور، وكانت الدروس عامة (نحت، رسم، تاريخ فن، رياضيات، هندسة)، 1956-1957; حاولت العمل مع بروفسور لامبرت (...). وانسحبت لعدم موافقة الوزارة في بغداد (...) ولسبب شخصي مع الأستاذ; المدرسة الوطنية للفنون الجميلة (بوزار): أمضيت 1957-1959, وانتميت (...) بروفسور ليكول".
ويسرد آل سعيد في هذه الوثيقة الألقاب العلمية، وهي التالية: ليسانس العلوم الاجتماعية، بغداد، 1943-1948; دبلوم الرسم في معهد الفنون الجميلة، الدراسة المسائية، 1949-1954; و"كانت دراستي دراسة حرة في "البوزار"، ولم أزود بشهادة (فيها، ولا في) المعاهد الاخرى السابقة لها".
والدي معلمي الفني
ومن طريف ما يذكره الفنان الراحل، في هذه الوثيقة، هو انه عمل في مديرية المساحة العامة بالاجور اليومية، في 1942-1943، ولمدة 3 أشهر تقريبا، وانه عمل كاتبا لعدة أشهر كموظف حكومي في "أمانة العاصمة" في 1942، قبل عمله في مديرية المساحة العامة اثناء الحرب العالمية الثانية، موضحا طبيعة عمله: "كنا نعد قوائم لتوزيع الطحين على الأفران، أنا وناظم الغزالي، المغني المعروف، وشخص ثالث اسمه محمد رؤوف الامام". ولقد عين آل سعيد، بعد تخرجه في عام 1948 من دار المعلمين العالية، مدرسا في المدارس التالية: في دار المعلمين الريفية في بعقوبة، بين و1952، ثم في ثانوية بعقوبة للبنين بين عام 1952 وعام 1953، ثم في المتوسطة الغربية في بغداد بين عام 1954 وعام 1955. ولقد أعيد إلى هذه الخدمة، في وزارة التربية، بعد عودته من باريس، فدرس في المدارس التالية: في متوسطة الاندلس في 1960، في الثانوية الشرقية في الكرادة ببغداد، بين 1961 و1963، في المتوسطة النظامية للبنين ببغداد، بين 1963 و1970، في معهد الفنون الجميلة، بين 1970 و1980، ثم تفرغ للبحث منذ 1980، وحتى تاريخ إعداد هذه الوثيقة لإعداد كتابه عن تاريخ الحركة التشكيلية في العراق.
وتفيد قراءة الوثيقة في التعرف المقرب والمدقق على بدايات آل سعيد الفنية، ومنها تأثراته الاولى، إذ يقول: "في البداية كان والدي يدربني بصورة بدائية على رسم الخيول، في تخطيطات أقلدها، ثم أخذ يصطحبني إلى الحدائق العامة لأرسم التماثيل"، مثل تمثال الملك فيصل الأول أو تمثال الجنرال الانجليزي مود، وهو بين السابعة والعاشرة من عمره. كما يذكر، في بداياته الفنية، تعلمه فن الرسم على الزجاج ونقل صور بعض الكتب، من الأستاذ اسماعيل العلوي. وكان مدرس الرسم في "دار السلام"، مدرسته الابتدائية في بغداد, بين 1933 و1938. ويفيد كذلك انه تعلم، في المدرسة المتوسطة المركزية، من مدرس الرسم الأستاذ فاروق عبد العزيز، أسلوب رسم "الستيل لايف"، أي الرسم في الهواء الطلق، بين 1939 و1940، فيما لم يعرف مدرسا مخصوصا للرسم في الاعدادية المركزية، فكان أن باشر ممارسة رسم التخطيطات على السليقة. أما في دار المعلمين العالية، في عام 1947، "فقد تعلمت الرسم الزيتي من الزميل فريد يوسف نانو، وكان خريج معهد الفنون الجميلة، ورسمت المناظر الطبيعية في البداية". كما درس في دار المعلمين على الاساتذة: شوكت سليمان الخفاف وخالد الجادر، وهما مدرسان محاضران، "كما أظن أن ممن درسنا أيضا (الفنان الرائد) حافظ الدروبي"، وذلك قبل دخوله إلى معهد الفنون الجميلة في عام 1949.
ويذكر آل سعيد في الوثيقة أسماء الفنانين الذين تعرف عليهم في بداياته، أي: فريد نانو وجواد سليم، عند التحاقه بمعهد الفنون الجميلة، وحميد المحل، الذي "لم يكن له تأثير علي"، والاستاذ العلوي والاستاذ فاروق عب دالعزيز وغيرهم من اساتذة المراحل الدراسية الاولى. كما يذكر عددا من المعارض الأولى التي شاهدها، وأسماء المشاركين فيها، والصالات التي أقامتها، مثل المعارض التالية: معرض في المعهد الثقافي البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية (ربما في عام 1943)، و"كان يشترك فيه سعاد سليم وحميد المحل على ما أتذكر". كما يذكر انه اشترك في معرض للمدارس الثانوية، وربما لكل مدارس بغداد، وعرض فيه تخطيطا يمثل الفنان في مرسمه، بعد ان نقله عن كتاب، متذكرا ان الفنان العراقي الرائد عطا صبري كان من منظمي هذا المعرض، وقد شاهده في حينه.
كما يسرد الجمعيات والجماعات والمؤسسات التي انتسب اليها أو شارك في معارضها، مثل: "جمعية أصدقاء الفن"، التي لم يحضر اجتماعاتها، ولم يشارك في معارضها، و"جماعة بغداد للفن الحديث"، وهو عضو مؤسس فيها مع جواد سليم ومحمد الحسني وجبرا ابراهيم جبرا ومحمود صبري وغيرهم، و"جمعية الفنانين العراقيين"، بعد عودته من باريس، و"نقابة الفنانين العراقيين"، وجماعة "البعد الواحد" و"كنت الرائد الاول في تأسيسها، واشتركت في جميع معارضها". كما يذكر في الوثيقة عددا من المعارض، مثل معرض مشترك مع النحات العراقي محمد غني في بعقوبة، في منطقة ارشاد المنطقة الوسطى, في عام 1962، أو معارض المركز الثقافي العراقي في لندن في السبعينيات، او المعرض المشترك لفناني دول الخليج في باريس.
ويمكن التحقق، عند قراءة الوثيقة، من معلومات ثمينة عن معارض آل سعيد الاولى، وعن أمكنتها، وعدد اللوحات فيها. إلا أن الفنان يتردد في تثبيت سنة معرضه الشخصي الاول، بين عام 1953 وعام 1954، مؤكدا على حصوله في قاعة معهد الفنون الجميلة، في البناية القديمة مقابل البلاط الملكي سابقا. ويذكر بين معارضه الشخصية واحدا اقامه في عام 1961، في دار صديقه منير الله ويردي، في الكرادة الشرقية، واشتمل على 40 لوحة، ولمدة 3 ايام، ذاكرا جريدة "الأخبار" التي تحدثت عنه في عدد اليوم 21/12/1961. ونتحقق من قيام معرض شخصي، "شامل" له، في عام 1962، وتضمن 92 لوحة، في قاعة معهد الفنون الجميلة، بين 18 و28 من الشهر الثاني. وتفيد قراءة الوثيقة في التأكد من بلوغ الفنان مرتبة التكريس في بلده، منذ عام 1966، إذ جرى تخصيص معرض شخصي له في قاعة المتحف الوطني للفن الحديث، وضم 52 لوحة؛ وهو ما تكرر في السنة نفسها (بين 16/12/1966 وبداية عام 1967)، في المتحف عينه، في قاعة جواد سليم، بمناسبة معرضه "تأملات ومعارج" الذي اشتمل على 43 لوحة. وكذلك معرض التخطيطات، في عام 1971، في قاعة جواد سليم، المتألف من 37 لوحة؛ ومعرض "رؤى تأملية" في عام 1974 الذي ضم 50 لوحة.
ونتحقق في هذه الوثيقة من حصول معارض عديدة له خارج العراق, في الكويت، في 1978، في "جاليري سلطان" الذي اشتمل على 25 لوحة؛ ومعرضه الثنائي مع الفنان التونسي نجا المهداوي،في عام 1979، في قاعة ابن خلدون في مدينة تونس؛ ومعرضه الشخصي في بيروت في عام 1980، الذي ضم 26 لوحة، في صالة المركز الثقافي العراقي وغيرها من المعارض، سواء في العراق او خارجه، الشخصية او الجماعية (خصوصا في الهند والبندقية وسان باولو وفرنسا ولندن ودمشق وغيرها).
ويذكر من مؤلفاته، فضلا عن دراساته العديدة في الصحف والدوريات، الكتب التالية: "الخصائص الفنية والاجتماعية لرسوم الواسطي" في عام 1962، و"دراسات تأملية" في عام 1967، و"البيانات الفنية" في عام 1973، و"البعد الواحد" في عام 1971، و"الحرية في الفن" في عام 1975 وغيرها. كما يسرد آل سعيد البلدان والمدن التي زارها، مثل: سوريا، لبنان، فرنسا، انجلترا، بلجيكا، ميونيخ، المملكة العربية السعودية، الكويت، طرابلس، نابولي وجنوا في ايطاليا وغيرها. كما يذكر، في جواب أخير في "الاستبيان"، الجهات التي اقتنت أعماله، وهي: المتحف الوطني للفن الحديث، القيادة القومية، مجموعات شخصية موزعة على هواة الرسم والفنانين الأصدقاء، المجموعة الخاصة، لوحات موزعة لدى بعض الاقارب.
صراع فني متوتر
وما لا تقوله هذه الوثيقة، تقوله لوحة آل سعيد. وقد أتيح لي الوقوف عند عينات ثمينة، بل مجهولة من أعماله، في التكريم الذي حظي به، في بينالي الشارقة الاخير، في دورته السادسة، في قاعات المتحف الوطني. وما تقوله اللوحة، على اختلاف تواريخها وأساليبها، هو هذا الدأب على التصوير، على ايجاد بل توليد أسبابه التشكيلية فوق مساحة اللوحة بحساسية عالية, ففنه يقوم على صراع قلق ومتوتر، وعلى تنازع وتحاور دائمين بين هوس التصوير نفسه وبين قلق وجودي ذي تعبيرات مختلفة، منها دينية، بل صوفية. فمنذ عام 1992 خرج الفنان من اطار اللوحة إلى تصور جديد، يمكن تسميته بـ"اللوحة المزدوجة": لا يمثل العمل الفني في قماشة او على سطح تصويري مشدود إلى اطار، وإنما في أوراق مرسومة من جهتيها، وموضوعة بين زجاجتين، فيرى الناظر اليها من أي جهة كانت، خاصة وانها مثقوبة او مخرمة او محروقة او مخروقة في بعض مواضعها، ما يجعل العين تجتازها وتعبرها، عدا ان سماكة العمل الورقية الخفيفة تجعل السطح التصويري شفافا ومتغيرا بالتالي تبعا لتغيرات الضوء الطبيعي. وهذا ما جربه آل سعيد أيضا في دفاتر مثقوبة ومحروقة في وسط صفحاتها، بحيث تنتقل العين إلى الصفحات السابقة بمجرد أن نطوي صفحة جديدة. إلى هذا فان الفنان العراقي ينتقل من عمليات التشقيق والتحزيز والتفسخات الجدارية، التي طلبها في مرحلة سابقة، إلى عمليات أخرى تقوم على الحرق والتخريم والتخطيط المشدد فوق سطح تصويري مشغول بطبقات كثيفة من التلوين والتشكيل.
وهي انتقالته الفنية الاخيرة، قبل غيرها، مما حفل به تاريخه الاسلوبي المميز. فلقد حقق آل سعيد، بعد بداياته التشبيهية كما التكعيبية (التي عرض معرض الشارقة قطعا نادرة ومجهولة عنها)، انتقالة حاسمة في منتصف الستينيات هي التي تسم وتحدد، قبل أي شيء آخر، تغيراته الاسلوبية اللاحقة. فلقد بنى اللوحة في هذه الفترة وفق تدرجات لونية ما لبثت ان أوصلته إلى تجربة "البعد الواحد"، أو إلى صور الشقوق والتفسخات كما في أعمال منتصف السبعينيات، او إلى وضع حروف عربية ذات اتجاه تتابعي يأسر العين في مسار ذهني- شكلي. وهو ما بلغ في لوحات الجدران، التي عمل عليها طويلا في السبعينيات وقسم من الثمانينيات، حدودا غير متوقعة: تمثل اللوحة مثل وثيقة عن كتابات الحائط في الشارع العربي، بتعبيراتها السياسية تحديدا والواردة نصا فوق اللوحة ("ليسقط الاستعمار"، "الخونة" وغيرها مما تحفل به لوحات هذه الفترة من كتابات بينة التعيين). غير أن الفنان يقول انه لا يصور، وانما ينطلق من تصور للعالم المحيط يجعل من الصور الجدارية جزءا داخلا في العالم المحيط، وليس تعبيرا او صورة عنه. وهو ما يستدعي الوقوف عند "البعد الواح". فما هو?
قد لا يكون مفيدا النظر إلى "البعد الواحد" على أنه شأن هندسي- بصري: فالبعد الواحد غير موجود في اللوحة، ذلك أن اقامة أي خط أو شكل فوق الحامل التصويري تعطي العمل أو تمحضه صفة البعدين (أي الطول والعرض) بالضرورة، بل المفيد ان ننظر إلى "البعد الواحد" على انه شأن متصل ب-"القصد"، بمعتقد الفنان فيما يقوم به ويباشره. وفق هذا التصور يمكن ل-"البعد الواحد" ان يكون حالة جنينية لما قبل الخط، وبالتالي لما قبل الشكل. وعلينا ان نميز، إذن، بين مباشرة العمل الفني وبين حاصل العمل فيه: فالفنان يحقق تدرجات لونية، او يصور شقوقا وتفسخات، او يضع حروفا عربية ذات اتجاه تتابعي، ما يوفر وجهة معينة لها. وهي كلها أعمال وحركات تنطلق من قصد لا يعمل على رسم بعدين مطلوبين، مثلما يعمل الفنان الذي يطلب، على سبيل المثال، رسم شكل او خط يتأنى في وضعه من ناحيتيه (اذا جاز القول)، أي منتبها إلى وضعيته الشكلية فوق الحامل التصويري من ناحية بعديه. أما الفنان آل سعيد فيقبل على وضع الخط والشكل من نقطة انطلاق عملية واعتقادية في آن، هي طرف الريشة (أو القلم او غيرها من أدوات التصوير)، وهي القصد الروحاني، على أن لليد المصورة وجهة واحدة، بعدا واحدا، هو هذه النقطة المتجهة من القلب (والذهن أيضا) صوب الحامل التصويري.
وهو ما نراه، أو ما يمكن ان نستوضحه في أعماله الاخيرة في صورة أبين: ففيها نتبين تخريمات بالابرة فوق ورقة التصوير، او خروقا، التي يمكن اعتبارها نقطة وصول (قبل أن تكون نقطة تحقق) من ضغط بصري- مادي على اللوحة، على ان منطلقه نقطة ذات بعد واحد، لا شعاع لها بالتالي. لهذا أقول ان تسمية "البعد الواحد" تنطلق من القصد الواقع قبل مباشرة العمل الفني، ومن التصميم عليه، ولا تستند إلى تحقق هذا القصد أبدا. ذلك ان حاصل العملية الفنية غير ممكن من دون بعدين: كيف لا ونحن نرى ان مسألة البعدين- التي تقول بها جميع مدارس الفن التجريدي- تحتاج، هي بدورها، إلى نظر ومراجعة. ذلك ان الفنان يحقق البعد الثالث في عمله، وإن كان تجريدي المنزع، بمجرد أن يحقق تباعدا او تباينا او تنافرا بين لونين او بين شكلين فوق السطح التصويري، مما يوفر له بالتالي عمقا للعمل الفني كما نتلقاه.
ما أريد ان أصل اليه يتعدى هذا التعيين لحقيقة "البعد الواحد"، ويتوخى الاحاطة الأشد بواقع التجربة الفنية عند آل سعيد، أي هذا الجمع المركب والحيوي بين الوعي والفن، هو القائل في كتابه "حرية الفن": "الوعي الدينامي هو حقيقة العمل الفني"، ما يشير في حسابه إلى ان للوعي اشتغالا لا يحده ولا يختصره العمل الذهني او الاطلاعي، وإنما تندغم فيه اشتغالات أخرى لنا ان نرى اليها في تشابكات تجمع بين شخصية الفنان نفسه وبين اللحظة التي يعيشها، على ما يقول هو نفسه في الكتاب عينه: فالوعي هو "التشابك ما بين الفعاليات الانسانية معا من اجل التعبير عن الشخصية في اللحظة".
تنبني اللوحة في غيابها
ينشأ تصور شاكر حسن آل سعيد للعمل الفني دائما بين ناتج وقصد، على ان العلاقات بينهما مركبة، لا تختصرها مخفيات العملية الفنية. وما يغيب في أعمال آل سعيد لا يقتصر على ما خفي من طبقات في إعدادها، ومن اشكال تحت اشكالها، ومن ألوان خلف ألوانها الظاهرة، وإنما ما خفي أيضا منها قبل مباشرتها، في التوجه صوبها، وفي الضغط المركز عليها. ويزيد من حدة التفاوت بين ناتج اللوحة ومسبقاتها ان اللوحة في حساب الفنان لا تقوم ولا تنشأ على أساس عمليتها المادية وحسب، وانما وفق علاقة بين القصد والطلب في الانصراف إلى وجهة ما، وفق تركيز معين واندفاعات خفية. يقول آل سعيد: "فما ان ينمو الوعي خلال التعبير إلا ويبدو أن حروفا تأخذ مكانها على السطور, ولكنها حروف غير مقروءة، انها حروف معاشة. وهنا سر ازدهارها، لأن نسغا يجري في عروق الشجرة لا بد أن ينقل لأعضائها خلاصة التربة". فما تبديه اللوحة شيء وحسب من تاريخها، وما حضر من حالتها يومئ وحسب أو يشير إلى ما تكتنزه التوترات والتشققات والتأزيمات العديدة التي تمثل بها أعماله للناظر.
ومع ذلك، وبسبب ذلك، أقول: يبدو عليه أحيانا كما لو أنه يفعل كل شيء لكي يمتنع عن التصوير، أو لكي يبرر إقدامه عليه، مثل رجع أو صدى بعيد لخشية قديمة، محلية، من التصوير, وفي ذلك ما يوتر، ويجدد الشحنات ويقويها عنده، وما يطبع أعماله بهذه التوترات الظاهرة على السطح التصويري، العنيفة والحارة، اشبه بطالب التنسك والزهد المرتعش أمام أي منظر حسن، وإن لم يكن آدميا. لذلك كان يطيل التوقف - أمامي- لشرح علم الأوفاق، أو التعاويذ، او حسابات "المربع السحري"، ويجد مقابلات بين اسم ما، مثل اسمه، وحسابات عددية معبرة، وبين اسم أحد الأولياء وأرقام بعينها، ما يقوم في ظنه وتفكيره على انه تحقق اليقين والحق في مثالات حسية. او يجد في تخريماته المتأخرة على الورق ما سبق لأمه ان فعلته، وهي تخرم بالابرة ورقة زرقاء لطرد الشرور والأمراض التي كانت تؤرق شاكر المريض. وهو يذكر غيرها أمامي من الأخبار والذكريات ما يجمعه في أسانيد ينسبها إلى عمله المتأخر، واجدا لعمله خلفية تبريرية له بالتالي. هذا ما ألقاه في تفسير جزئي لأقواله ومباحثه الفنية، التي كان يثقلها بإحالات إلى "مولانا" (جلال الدين الرومي)، او الحلاج، او... فوكو. وهو ما أتحقق منه في مباحث كان يريد لها دائما أن تجد أصولا، وان بعيدة ومتخيلة أحيانا، بين ماضي العراق القديم وتراثه الاسلامي وبين تجربته التشكيلية. او أراه يرسم شكلا معروفا في لعبة الخداع البصري، وأرى فيه الشكل في هيئتين مختلفتين: في هيئة حيوان بحري، وفي هيئة أرنب، شارحا ذلك بوصفه من الحقائق الراسخة التي لا يرقاها الشك. او أراه يقارن بين اسطورة رافدينية وبين شأن تصوفي، ما لا يصمد امام أي تحليل أو أي تاريخ سببي أو تعليلي، الا في عينه، عين المؤرخ او المحلل، التي تغتذي، خلافا لما كان يظن هو نفسه، من حساسيته القوية ذات الشحنات العالية، التي تمكنه من "حرق المراحل"، من اجتياز الحضارات والاساليب, في مسعى يصهر بين الأزمنة ويوحدها في لحظة حية.
الوعي والعيش
والفنان آل سعيد واحد بين عدد قليل من الفنانين العرب ممن اشتغلوا بالنقد الفني والتنظير وطرح المسائل الجمالية والانصراف إلى مباحث مختلفة في التاريخ الفني، للحركة التشكيلية المعاصرة في العراق، أو للفن الاسلامي، أو للأساطير والفنون الرافدينية وغيرها، بالإضافة إلى عمله الريادي في "جماعة بغداد للفن الحديث" (مع جواد سليم), او جماعة "البعد الواحد". ويجد القارئ في كتاباته صعوبة في التتبع والفهم، ما عبر عنه خير تعبير الكاتب جبرا ابراهيم جبرا في تقديمه الطبعة الجديدة (والمزيدة) من كتاب آل سعيد الشهير "الحرية في الفن" (عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، عمّان، 1994، بعد طبعته الأولى ضمن منشورات "مديرية الفنون العامة"، في وزارة الاعلام ببغداد، في عام 1974): "هذا الكتاب، ككل ما كتبه الأستاذ شاكر حسن آل سعيد، فيه تفكير عميق، واخلاص، ومحبة انسانية، مهما يكن أسلوبه شائكا أحيانا، وغائما أحيانا أخرى (...), لا بد من الاعتراف أن المرء يجد شيئا من الصعوبة في الوصول إلى حكم نهائي على هذا النوع من الكتابة التي تتراوح بين الحدس والمنطق تراوحا لا يسعف القارئ في تتبع نمو الفكرة على نحو متماسك متنام". وحيرة جبرا تعود إلى صعوبة المسالك التي تتخذها علاقات الحدس بالمنطق، كما يسميها، وهي أيضا العلاقات الملتبسة بين الذهن والعيش، بين الوعي والإبداع، بين السند الذرائعي والهوس التصويري، والتي تؤدي، في حاصل العمل الفني، إلى الدينامية التي أشرت إليها. وعلينا في هذا السياق ألا ننظر إلى دراساته الفنية في منظار التاريخ او النقد أو الفلسفة وحسب، وان نحكم عليها انطلاقا من معايير واقعة في هذه العلوم والمقاربات فقط وانما من خلال منظار دينامي يرى إلى التوصلات، التي ينتهي اليها الكاتب آل سعيد على انها توصلات الفنان، "صاهر العصور في لحظة"، قبل أي شيء آخر. فعين الفنان فيه هي التي ترى إلى مواد التاريخ الفني والآثاري حين يظن الفنان أنه يدرس ويحقق ويوثق. هذا لا يعني انه لا توجد قيمة خاصة وبحثية لدراساته، وإنما يعني ذلك العمل بحذر مع كتاباته هذه: فهي موثقة ودقيقة حين تؤرخ "فصولا" (طبقا لعنوان كتابه عن بدايات التصوير الحديث في العراق). وهي وصفية وتحليلية موفقة حين تنصرف إلى دراسة بعض أعمال جواد سليم، إلا أنها قد تنحو مناحي لا يقرها منطق المقاربات البحثية، ولا أصولها، جانحة صوب طرق في التفسير تدبرتها عين الفنان واختراقه العصور في لحظة واحدة، مثلما يقول آل سعيد في أحد كتبه: "ليس المهم أن أرسم محتوى ما، ولا أن أجدد في شكل ما، إنما المهم أن أكون إنسانا حرا حينما أرسم وأرسم. وحينئذ سأستحضر في لحظة واحدة دهورا بأكملها، وستكون شاهدة على عملي البسيط لطخة من الألوان وخط من الخطوط".
(مجلة "نزوى"، عُمان، العدد 39، شتاء 2006 )