حوارات مفتوحة مع شاكر حسن آل سعيد
غاب عنا قبل أن يغيب. غاب في غمار العنف العراقي المظلم. غاب في صمته الثقيل، مثل علامة في شق، في جدار، في إحدى لوحاته. غاب في رحلته نحو المطلق (كما كان يحب القول)، على أن الأثر المتبقي، أثر الضربة الفنية في فضاء الرؤية، يفيد عنه، وعما يتعدى الحضور نفسه.
غاب لكنه أبقى من الأعمال، من الطروحات، من الأثر العميق في فن عديدين، عراقيين وغير عراقيين، ما يبقي الحوار الحي والمتجدد معه. وهو ما كشف عنه، قبل رحيله، معرضه التكريمي في بينالي الشارقة الأخير، في ربيع العام 2003، إذ جذب إليه العديدين، من عرب وأجانب، من ضيوف البينالي، عدا أن طروحاته الفنية وإنجازاته تستثير النقاشات، ومنها أطروحات جامعية، في غير معهد دراسي.
يكتمل بغيابه، بعد جواد سليم وفائق حسن، مثلث التأسيس في الفن العراقي الحديث. وهو يتميز عن قرينيه - وهما أستاذاه المدرسيان في آن - بأن شغل مساحة أوسع منهما، بين غياب جواد سليم المبكر، وقنوع فائق حسن بنزعته المدرسانية. شغل آل سعيد مشهد الفن العراقي منذ مطالع الستينات، سواء في أعماله أو طروحاته، أو حتى في مسلكيته الصارمة: فقد حرك غير نقاش، ولم يتردد عن مواكبة نقدية وتعريفية لجيل الفنانين الشباب، الذين تتلمذوا عليه بغير معنى، في غير صالة درس ومحترف وكتاب ودراسة. عدا أنه كتب أفضل الفصول وأدقها في تأريخ الفن العراقي الحديث.
شاكر حسن آل سعيد بوابة لازمة، رحبة، متعددة المداخل إلى الفن العراقي الحديث، فضلاً عن دراساته في الخط العربي أو الأسطورة الرافدينية، وعن تجليات المكابدة الصوفية في التعبير الفكري وقبل التشكيلي. ذلك أن آل سعيد تولع بالتصوير إلى حدود الاختفاء فيه، وإن كان في ممارسته له سعى دوماً إلى سند ثقافي، وأحياناً ديني، لتسويغه وللإقدام المتزايد عليه. وهو في ذلك استنجد بالحلاج كما بفوكو، بالواسطي كما ببول كلي؛ كما اعتمد على أكثر من منهج وطريقة لدرس الفن، فلم تقتصر على قراءة اللوحة فنياً، بل تعدتها إلى علم الأوفاق وغيرها. ذلك أنه كان يرى إلى اللوحة بوصفها إمكاناً وتجلياً لحقيقة تسبقها وتتعداها.
أنشر فيما يلي وقائع حوار لم يكتمل مع آل سعيد، ذلك أن المقصود منه كان يتعدى التعرف على مراحل حياته الفنية، ويتناول التوقف النقدي عند فنه ومواقفه. جرت وقائع الحوار في باريس في مطالع الثمانينات (حصلت الجلسة الثالثة من الحوار، حسب ما هو مدون في أوراقي الخاصة، في 16/3/1981)، ولم تتح لي لقاءاتي اللاحقة معه، سواء في بيروت، أو في عمان استكماله. وهو حوار يستكشف معالم خافية في سيرته، عدا أنه يسلط الضوء قوياً على تشكلات مشهد الفن العراقي المعاصر بين الأربعينات والثمانينات.
كما أنشر، في مسعى لاستكمال هذا الحوار، وثيقة قيمة، هي آخر إسهامات آل سعيد النظرية، وأعدها في لقاء-معرض في «رابطة الفنانين التشكيليين الاردنيين»، في 7/9/1996، وهي بعنوان: «البعد الواحد: فكر وممارسة في شكله الوثائقي».
- (شربل داغر) من أين لك أن تبدأ إذا شرعت في رسم مسار لسيرتك الفنية؟
* (شاكر حسن آل سعيد) لا يمكن الحديث عن شيء محدد، بعينه، وإنما يمكن الحديث عن بعض المؤثرات التي ظلت راسخة في ذهني، كما يبدو، وساهمت في أطروحاتي الفنية فيما بعد على اختلاف المراحل التي مررت بها. وهذا لا يعني وجود تنبؤات، وإنما يعني وجود حوافز بعينها، ظلت راسخة بدورها، وكان من شأنها أن تدفعني إلى الرسم باستمرار.
لا أزال أحتفظ، منذ طفولتي المبكرة وحتى اليوم، بشرائح بصرية يبدو أنني لا أستطيع نسيانها. فمنذ الرابعة من عمري أحتفظ بصورة منظر لنهر صغير يقع عند الحدود العراقية الشرقية في مدينة بدرة، وكنت أطالع فيه سمكات ملونة. وكذلك منظر بعض الأحراش ذات اللون الأخضر التي سرعان ما ظهرت منذ الستينات، على ما أتذكر، في رسومي بشكل مسحات أفقية فوق مسطحات جدارية. وإن أنسى فلا أنسى موضوعاً شيقاً رسمته في الخمسينات على »ثيمة« (موضوع) ما أستطيع أن أسميه بعالم الطيور: رسمت وقتها (من دون أن أكون قد قرأت بعدُ لفريد الدين العطار كتاب «شجرة الطيور») طيراً بلون أحمر، وكنت قد بلورت - كما يبدو في هذه اللوحة - بعض ذكرياتي الطفولية، وذلك حينما احترقت في يدي، في أحد الأيام، لعبة تمثل أوزة ذات منقار أحمر.
وهكذا ترى أن هناك حوافز بصرية، لا بد أنها أطلقت يدي في أحد الأيام منذ سنواتي الستة، وأنا في «الحلة» في المدرسة الابتدائية. كنا نرسم، نحن الأطفال، خلال الدرس ونقلد أحياناً أشكال السفن الشراعية الراسية على ضفاف الفرات، والتي كان بمستطاعنا أن نطل عليها من شباك الصف. كنا نحاول أن نصنع من قبعات رؤوسنا زوارق نمررها على أديم الرحلة. وفي أحد الأيام وسواه شاءت الصدفة أن يزور المدرسة مسؤول كبير في المدينة (ولعلي أتصوره كذلك لأنني كنت طفلاً)، وسرعان ما توقف إلى جانبي مخاطباً مدير المدرسة: «هذا (مشيراً إلي) سوف يكون رساماً في المستقبل». بان لكثيرين أنني كنت أرسم بشكل جيد. ولقد كان لهذا التعليق أثر كبير على مسيرتي فيما بعد.
وفي الخمسينات كان خير جمهور وناقد لي، كما يبدو، أمي يرحمها الله. أذكر أنها قالت لي، على سبيل الدعاء والبركة: «ابني، ابني، أريد من الله أن يصير التراب الذي تلسمه ذهباً». وفي أحد الأيام، وأنا أرسم إحدى لوحاتي، وأنا أستعمل التراب لمزجه مع اللون، اكتشفت بعد أن اشترى أحد المتاحف هذه اللوحة مني أن النبؤة تحققت.
محفزات، إذن، وشواهد راسخة في ذهني منذ طفولتي كان لها أثرها في مسيرتي الفنية الراهنة.
- ولكن ماذا عن البدايات الفعلية؟ متى كان ذلك؟
* أستطيع أن أحدد بداية الخمسينات نقطة انطلاق لمسيرتي الفنية، وهي محملة بكل ما كنت أشعر به من مسؤولية والتزام في العمل الفني. كان ذلك بعد أن تمرست، وأنا في «دار المعلمين العليا»، على الرسم بالزيت في العام 1948 تقريباً. وسرعان ما بدأت أدرك أن مصيري أخذ يرتبط بالرسم. إذ أنني، في تلك السنة، كنت لا أزال أنجز دراستي للعلوم الاجتماعية. وسرعان ما قررت الانتساب إلى «معهد الفنون الجميلة» بصورة حاسمة بعد أن فشلت عدة محاولات للانتساب إليه. كنت، بعد العام 1948، قد صممت على إتمام دراستي في المعهد بشكل حاسم. وهكذا درست الرسم فيه، في الوقت الذي كنت أمتهن مهنة التعليم في بعقوبة (45 كلم شمال شرقي بغداد). كنت أضطر للسفر يومياً بالقطار إلى بعقوبة ثم العودة إلى بغداد من أجل إتمام دراستي الفنية: صباحاً في بعقوبة، إذن، ومساء في المعهد، ثم العودة بعد منتصف الليل إلى بعقوبة.
ومن حسن الصدف أن صداقتي بالفنان المرحوم جواد سليم بدأت في هذه الفترة. هكذا اندفعت بحماس، ما أن أتممت دراستي، وقبل هذا التاريخ، وأنا في السنة الجامعية الثالثة، لرفد مهمتي كرسام بمهمتي كمنظر في فن الرسم.
- كيف كانت عليه مناخات بغداد و«المعهد» ثقافياً؟
* كانت بغداد في الأربعينات، ولا سيما بعد ،1948 أشبه بدوامة تلف الإنسان المثقف بجميع نواحيها، أو أنها أشبه ببركان قابل للانفجار قريباً. كنا نحس، نحن شباب الخمسينات، إحساسات مليئة بالرغبة في الحداثة الفكرية والالتزام الإنساني والاجتماعي. وكانت أحداث «وثبة» عام 1948 (الانتفاضة ضد الوجود البريطاني)، ونحن طلبة جامعيين، قد وضعتنا على حافة ذلك الوعي الاجتماعي الذي عبر عن حرية الإنسان العراقي ورغبته في الحياة الكريمة. في تلك السنة تعرفت إلى جبرا إبراهيم جبرا بواسطة بلند الحيدري: كان يسكن شقة في «شارع الرشيد»، وقرأت له ما نظمت من الشعر المنثور، وقد أعجب به كثيراً. كانت تمثل نهايات مراهقتي الفكرية. في ذلك العام حاولت التطوع للمشاركة في حرب فلسطين. وبعض زملائي حاربوا بالفعل قبلنا، وفوجئنا، عبد الوهاب البياتي وأنا، بأنهم ما كانوا محتاجين لتطوعنا. أذكر أن تلك الأعوام كانت تغلو بالحماس والوعي.
كنا نذهب كل مساء إلى مقهى اعتدنا ارتياده، «مقهى ياسين»، مع فريد الله ويردي (الموسيقي)، وبلند الحيدري وحسين مردان (الشاعر)، وعبد المجيد الونداوي (الصحافي)، وكان ينضم إلينا أحياناً كاظم جواد، وفي بعض الأوقات بدر شاكر السياب، فيما كان يواظب على الحضور طالب الكيلاني ونهاد وفؤاد التكرلي... وكانت شلتنا تلتئم في ذلك المقهى بين السادسة والثامنة مساء. كنا نتناقش باستمرار، ويصل النقاش أحياناً إلى حد الخصومة، ونعكس همومنا الفنية والاجتماعية. أذكر أن بلند الحيدري، مثلاً، كان يقرأ علينا قصائده من »خفقة طين«، ويتلقى النقد اللاذع منا وخصوصاً من الشاعر مردان، الذي كان حاضر النكتة.
في هذا الجو تبلورت لدي فكرة تحمل مسؤولية التعبير الحديث في فن الرسم من خلال رؤية جمالية، على غرار ما تحقق وقتها في فن الشعر. إذ كنت أجد في محاولات الحيدري والبياتي والسياب بداية لرؤية جديدة، سرعان ما جعلت الفكرة تختمر لدي لمفاتحة جواد سليم في أمر تأسيس جماعة فنية جديدة.
- وماذا عن مناخات «المعهد»؟
* في «المعهد» كان فائق حسن قد انفرد بزعامته كرئيس لقسم الرسم، وكان يتحاشى الاصطدام بمن لا يتفق وإياه في الطرح الفني. وفي أحد الأيام، وبعد أن شاهدني أرسم بتأثيرات من ماتيس، اعترضني - وهو أستاذي - بشيء من سوء الفهم، وطلب مني عدم الخروج على قواعد الرسم. أوضحت له وقتها ضرورة هذا الخروج. وكان من فرط حساسيته أن انقطع عن إرشادي في الرسم كعادته.
كان جو «المعهد» قد تبلور مع وجود ثلاثة أقسام للمعرفة الفنية: قسم الفنون الموسيقية، قسم الفنون التمثيلية، وقسم الفنون التشكيلية. هذا النوع من المعرفة الفنية أتاح الفرصة لنا كطلاب لأن نتواشج بين إحساسنا التشكيلي وأحساسينا الفنية الأخرى. فالمعهد، من خلال بنيته، كان له عظيم الأثر على ثقافتنا التشكيلية. وبالطبع صادف وقتئذ أن أصبح من عمداء «المعهد» من كان يهتم بالخلفية الثقافية للطالب، وهو عزيز سامي، الذي كان قد شجعني كثيراً على إلقاء محاضرات في «المعهد»، وخاصة فيما يتعلق بيحيى الواسطي.
مواد الدراسة كانت تتضمن تاريخ الفن (جواد سليم وعطا صبري)، الرسم بالزيت والتخطيط (فائق حسن)، المنظور (اسماعيل الشيخلي)، وعلم التشريح ودروس في التصميم والإنشاء التصويري. كانت هذه المواد تدرس على أساس مدرسي. ولكن يبدو أن الهيئة التدريسية - وجلهم ممن درسوا في المعاهد الأوروبية - كانوا على يقين من أن الصيغة المدرسية الأكاديمية نفسها ليست ثابتة على الدوام. ففائق حسن، إلى حد ما، كان يطلب منا أن نرسم بشيء من التحرر، وذلك باعتماد الأسلوب الانطباعي. وهذا ما فعله الأساتذة الآخرون.
وكنا نشعر، نحن الطلاب، بأننا نتصرف كعائلة واحدة، وما كنا نفكر بفروقات بيننا، لا ثقافية ولا بشرية ولا طبقية. فالأساتذة يتصرفون كأصدقاء معنا، وكذلك الطلاب فيما بينهم. وكانت النقاشات تدور باستمرار خلال الدروس وخارجها.
- ولكن ما كان يتوافر لطالب الفن من مواد وأدوات وكتب تعينه في التعلم والتمرس الفنيين؟
* كانت بغداد في هذه الفترة مهيأة لأن تزودنا بثقافة فنية طيبة. فمواد الرسم كانت متوافرة وميسرة لنا، إذ اعتدنا شراء المواد الزيتية والأنواع الأخرى من مخازن معروفة في «شارع الرشيد» ببغداد. أما المجلات فقد كان هناك مجلة »ستديو« (الانكليزية)، فضلاً عن وجود مكتبة فنية غزيرة في «المعهد»، عدا أن صداقاتنا مع أساتذنا أتاحت لنا قراءة ما لديهم من كتب. بل ان اندفاعنا في حينه، وقبله، صوب الثقافة الفنية العامة مكننا من أن نوفر ونحصل لبعض الكليات المصادر الفنية المهمة واللازمة. ففي «دار المعلمين» مثلاً توافرت لي كتب عديدة عن الفن الحديث (فان كوخ، سيزان، رينوار، وحتى بيكاسو...)، من دون أن أفهم بعضها تماماً، مثل معرفتي المشوشة ببيكاسو وقتها. وفي 47 و1948، حين اشتريت بعض المطبوعات وعرضتها على المعاون الإداري لدار المعلمين (وكان أيضاً رئيس «جمعية الفنون» في الدار)، وطلبت منه الموافقة عليها، قال لي: «هل أنت تفهم بيكاسو لنشتري كتباً عنه؟»، أجبته: «لا، ولكن ذلك لا يعني أنه غير مهم، وقد أقرأ عنه ذات يوم».
- وكيف تعين تأسيس «جماعة بغداد للفن الحديث»؟
* ظهرت «الجماعة» بين العام 1950 والعام 1951، وكنت لا أزال وقتها في «المعهد»، وكان جواد سليم بمثابة الأب الروحي لي ولبعض الطلبة، وكان يمتاز بشخصية إنسانية رائعة. وقد نقل إلينا - في جملة ما نقله إلينا - مدى اهتمامه بالتراث الحضاري والفني. ويخيل إلي الآن أنه باهتمامه بفن الواسطي كان يحقق أحلاماً وآمالاً عقدها بعض المسؤولين من المفكرين والأساتذة. فلقد حدثني الأستاذ عبد الكريم محمود، وهو ممن درَّسوا جواد سليم منذ أن كان طالباً في المرحلة الثانوية، انه اكتشف فيه عبقرية متفتحة كان يغذيها هو بالعودة إلى التراث. ومن المعروف أيضاً أن المربي الكبير ساطع الحصري، إبان مكوثه في العراق في الثلاثينات وحتى العام 1941، كان قد استثمر قابليات بعض الفنانين العراقيين، ومنهم جواد سليم، في استلهام التراث الحضاري. وذلك بعد أن استخدمهم كموظفين في صيانة الآثار في المتحف العراقي، وكان مديراً له. بل طلب من بعضهم إعادة تصوير رسوم الواسطي من جديد. وكان هذا درساً قيماً حمله إلينا جواد سليم في الخمسينات. على أنني من جانبي اكتشفت، بعد إتمامي لدراستي في العلوم الاجتماعية، أن بمستطاع الفنان العراقي التعبير عن الروح الاجتماعية في العمل الفني، وذلك من خلال العودة إلى التراث، ولا سيما التراث الحضاري للعصور القديمة والعصور الإسلامية. هكذا اختمرت - على ما اعتقد - فكرة تأسيس جماعة فنية جديدة في أذهاننا، جواد سليم وأنا ورسام آخر هو زميلي محمد الحسني، ومع جبرا أيضاً (وقد كان على صلة بجواد نفسه وبمحمود صبري وبغيره من الفنانين).
إلا أن بعض العقبات في البداية حالت دون ظهور حماعتنا: من ذلك، مثلآً، أن جواد سليم كان لا يزال في جماعة «الرواد» مع فائق حسن؛ وما لبث أن عقد العزم في العام 1950 على تأسيس «جماعة بغداد للفن الحديث»، على الرغم من استمراره في «الرواد» حتى العام 1953 .
خططنا، منذ البداية، هو وأنا، على أن نهتم بالعمل الفني ليس باعتباره موقفاً للفنان وحسب، بل باعتباره أيضاً موقفاً للجمهور الفني. وهكذا توليت من جانبي كتابة البيان الأول تحت شعار: «التعبير عن الطابع المحلي في الفن مع استخدام الأساليب والتقنيات الحديثة»، وتولى هو من جانبه توعية الجمهور بالفن الحديث، كما هو من وجهة نظر الفنان العربي. أي أننا كنا نريد أن نوضح للفنان العراقي عموماً، ولأنفسنا كجماعة فنية خصوصاً، أن استلهامنا للتراث في الفن هو المنطلق الأساسي للوصول إلى الرؤية الحضارية في العمل الفني وبأساليب معاصرة. كما اتضح للجمهور أيضاً أن بإمكان الفنان العراقي أن يهيء له جمهوراً لا يتذوق ما هو مستورد فنياً من الفكر الغربي، بل يستطيع تذوقَ أعمال حديثة أنجزها فنانون عراقيون أو عرب.
وهكذا جوبهنا، منذ البداية، بموقفين: من جهة بحماس منقطع النظير من قبل شباب مثقفين، ومن جهة ثانية بمعارضة شديدة وصلت حد السباب والشتيمة من قبل مثقفين آخرين. كان هؤلاء يطالبوننا بالرسم الواضح، وكنا نحاول أن نقول لهم إن الموضوع وعدمه ليسا سوى وسيلة للوصول إلى الحقيقة الفنية، وما على المشاهد إلا أن يتبينها بحرية. وقد دامت »المعركة«، إذا صح التعبير، خمس سنوات، وكان البعض يتصور أن كل ما نحققه سوريالي النزعة. إذ كانوا يطلقون اسم السوريالية على كل ما هو حديث من دون تمييز بين المدارس والمصطلحات.
- ولكن لماذا الجماعة؟
* فكرة الجماعة عميقة الجذور في مجال التنظيم الفكري والاجتماعي في العراق. فالأصول البعيدة للجماعات الفنية تعود إلى العصور العباسية المتأخرة: جماعة إخوان الصفاء، ونقابات الحرفيين وغيرها. أي أن هناك أشكالاً للتجمع الفكري والمهني في تاريخ العراق أثرت ربما، وبشكل لاواعٍ بالطبع، على الفنان العراقي في الخمسينات. فبعد أن تعرف المندوبون الأوائل لدراسة الفن في أوروبا (1930)، وفيها، على فضل الجماعات في تطور الفكر الفني والعمل الفني، شرعوا بعد عودتهم إلى بغداد في الأربعينات في إنشاء الجماعات والتمرس بها. هذا ما بدأ به، في البداية، فائق حسن حين دعا بعض أصدقائه لرسم المناظر الطبيعية في ضواحي بغداد، في الهواء الطق، وأطلق عليهم اسم «البدائيين».
مثل هذه التجمعات كان يرفدها أيضاً الرسامون البولونيون في العراق (بعد أن حلوا فيها في الحرب العالمية الثانية) الذين كانوا يرسمون مناظر الطبيعة. كل هذه التقاليد، بالإضافة إلى طبيعة العمل السياسي، شكلت أمثلة يقينية للفنان العراقي بضرورة العمل الجماعي.
ان ظهور الجماعات الفنية في بغداد، ابتداء بـ«جماعة بغداد»، يحمل في صلبه رؤية وموقف الفنان الملتزم بالتعبير الحضاري في عمله الفني. ان هذه الصيغة الإبداعية من خلال الرؤية الفنية في الدول النامية لا بد لها أن تنهل من الرؤية الجماعية لا الفردية. لأن التفكير الفردي للفنان يظل من تقاليد أوروبا، وما اللجوء إلى التجمعات سوى تحصيل حاصل للتعبير عن وضوح الرؤية الفردية. ولنقل بصيغة أخرى إن الرؤية الفردية تسبق الرؤية الجماعية في أوروبا، لأن الهدف في العمل الفني هو تحقيق ذاتية الفنان. وما تسنى للفكر الأوروبي قبول أو تبني فكرة الجماعة إلا بعد أن أدرك أن العمل الفني ينهل من مناهله الحضارية البعيدة، قبل أن ينهل من الفن الكلاسيكي، الأب الشرعي للفن الأوروبي.
حينما تنكر الفنان الأوروبي لرؤيته الحضارية الخاصة بدأ بهضم فكرة الجماعة. فجماعة «الوحشيين» لم يكونوا يحققون الفكر الأوروبي الحضاري في أعمالهم بل الفكر البدائي. كما ان التكعيبين ما ظهروا كجماعة في البداية لطرح مقولة فنية، كما هو معروف الآن عن التكعيبية. وقد يشذ عن ذلك السوياليون الذي يظلون ظاهرة شرق- أقصوية أكثر منها أوروبية. أما بالنسبة لمبدأ الجماعة الفنية في العراق، وربما في مصر، فإن المنطلق الأساسي يبقى في استلهام الحضارة في العمل الفني، وتصبح بذلك ذاتية التعبير في المقام الثاني. لهذا السبب بالذات نجد أن التجمعات الفنية في العراق ومصر كانت عديدة، وقصيرة العمر أيضاً لأنها تحمل بذور التناقض وعدم الوضوح الفني الكافي عند الفنان الذي ظل متذبذباً بين الحداثة والأصل.
- ولكن ماذا عن تفاعلات الفنانين مع الشعراء غداة الحرب العالمية الثانية؟
* التجربة التي طرحها الشاعر العربي المعاصر كانت فريدة في نوعها، ولما تنتهي بعد كما يبدو في أرجاء الوطن العربي. ويقول الشعراء عن تجربتهم هذه أن لديهم أساساً متواصلاً في مجال التقنية. وهذا صحيح إلى حد بعيد، وذلك لأن الحضارة العربية على العموم هي حضارة لغوية-كلامية ازدهرت خلال العصور المتكاملة منذ ظهور ملحمة غلغامش والشعر الجاهلي وصولاً إلى ذروة المتنبي وتجليات الموشح وغيرها مع أحمد شوقي ومعروف الرصافي ومحمد مهدي الجواهري... هذا النسق المتكامل في التطور الرؤيوي والأسلوبي للشعر العربي مهد السبيل إلى حد كبير لشعراء الخمسينات في أن يقولوا كلمتهم الحاسمة وأن يحطموا الأساس القديم للشعر، ويعلنوا المسيرة الجديدة. وفي اعتقادي أن ما حدث بالنسبة لفن الرسم كان تطوراً مماثلاً، ولكنه لا يزال مجهولاً عند معظم الفنانين. فهم تصوروا بدايتهم مقطوعة عن ماضيهم، وهذا غير أكيد إلى حد بعيد. لأننا لو تتبعنا تمرحل الرؤية التشكيلية والتقنية والأساليب في العراق لوجدنا أن ثمة مرحلة قصيرة عانى منها الفنان التشكيلي (وآقصد به رسام الصور المزخرفة والمزخرف) شيئاً من التداعي، وذلك بعد اجتياح المغول والتتار لوادي الرافدين، على أنه سرعان ما استعاد الرسام والمزخرف والخطاط بفضل المراحل المتعاقبة، ورغم ظهور ثقافات فكرية غير عربية (عثمانية)، نشاطه في العمل الفني واستمرت السلسلة بالتطور حتى نهاية القرن الثامن عشر. فنحن، مثلاً، نجد أن بعض الرسامين العراقيين أثبتوا وجودهم الفني كرسامي منمنمات وذوي مقدرات تشكيلية متنوعة، وتمرحلوا في الوصول بالأسلوب التشكيلي إلى نقطة تحول قريبة من الأسلوب الأوروبي الذي بدأ يمثل دوره منذ بداية القرن العشرين في الفن العراقي بوضوح. فنيازي مولوي بغدادي، مثلاً، رسام تشهد له مكتبة المخطوطات في بغداد بالقابلية الفنية المتناهية كخطاط ومزخرف ورسام في ان واحد (في النصف الثاني من القرن الثامن عشر). وكان يعبر، بتكامل قابلياته، كما أعتقد، عن شخصية الفنان العراقي، التي هي في شكل من الأشكال انعكاس لطبيعة الطقس المحيط بالعراق. وكذلك بالنسبة لرسامي بدايات القرن العشرين الذين تثقفوا بثقافة عثمانية مشبعة برؤية أوروبية في الفن ورسموا رسوماً على درجة عالية من التعبير الفني المتكامل، وأخص منهم عبد القادر الرسام. فهو وإن كان يبدو سائراً في مجال الرؤية الطبيعية في العمل الفني إلا أنه بلور في رسومه الروح الصوفية والتقنية ذات العلاقة برسوم المنمنمات. أذكر، على سبيل المثال، أن تقنيته كانت تقتضي عمل عدة نماذج على الطبيعة يحاول تجميعها فيما بعد في المرسم. وهذه مسألة معروفة لدى رسامي المنمنمات في القرن التاسع عشر.
فلما ظهر جيل معلمي المدارس الفنية من الرسامين في الثلاثينات من القرن العشرين (عبد الكريم محمود، شوكت الخفاف، محمد خضر...) بدأوا بتجاوز هذه المرحلة، وراحوا يعودون طلابهم على الرسم من الطبيعة مباشرة. وكذلك فعل جيل المبعوثين الأوائل إذ اتقنوا هذه الطريقة بشكل علمي مدرسي، كفائق حسن وعطا صبري وحافظ الدروبي وغيرهم. فلما حلت بداية الخمسينات، وكانت فترة الحرب العالمية الثانية قد مكنت الفنان العراقي من التمرس بالفن الانطباعي ثم بالأساليب الأوروبية الأخرى (الوحشية، التعبيرية...)، وجد الفنانون الطريق ممهدة لقفزة فنية في العمل الفني، وذلك باستلهام التراث.
- غير أن الحديث عن الجماعة يتعين خصوصاً في منحى جماعي في الفن، لا في نزوع فردي: فهل يناسب هذا هوية الفنان الحديث؟
* نحن نميز بين الرؤية الفنية العامة للجماعة وبين الرؤية الذاتية لكل منا. فرؤيتنا العامة في الجماعة كانت خطوطاً عامة حاولنا من خلالها اكتشاف علاقتنا بالتراث، وبالتالي استمداد القوى الحضارية من الماضي التراثي للانطلاق نحو المستقبل. في حين أن انفراد كل منا برؤيته الذاتية يعني، مثلاً، أن جواد سليم كان يعبر عن شخصيته الإنسانية والثقافية بواسطة القيم التشكيلية التي يكتشفها، وبنفس المعنى كنت أنا كذلك. من هنا حاول جواد سليم، في اعتقادي، أن يكون أكثر تماساً مع الروح الحضارية السومرية، وفيما بعد الإسلامية، في فنه. فقد رسم مثلاً بين العام 1953 والعام 1955 أروع لوحاته التي تمخضت عن اكتشافه كل من المربع والدائرة ومجزوءاتهما في العمل الفني. ويطول معنى ذلك عند التحليل، ولكننا نستطيع أن نؤكد أن لوحته «أطفال يلعبون» كانت ذروة ما بلغه في هذا الخصوص. أما أنا فقد مررت مروراً سريعاً باستلهام الفن السومري ثم البابلي (لوحة «شخصان» و«الفلاحون والقمر»). ثم انهمكت في التعبير عن الروح الشعبية في الفن، في موضوعات مختلفة، كما في مجموعة «ألف ليلة وليلة» وغيرها... فكنت في خوضي لهذا الموضوع رائداً في الكشف عن أهمية الفولكلور ومدى استلهامه في الفن المعاصر بالعراق.
كما ان هذا التمييز ما بيننا، في مصادر العمل الفني، يمكن له أن يعيد اختلافنا في طبيعة مواقفنا الإنسانية والاجتماعية. وأستطيع بالطبع التمادي في الحديث عن نفسي، فأقول بأنني كنت أشعر دوماً بأن الموضوع الذي أرسمه هو الحياة العامة للموجودات. فكان معنى الإنسان يرتبط على الدوام بسواه. ولعل هذا ما حبب لي أن أجد في الأسطورة بغيتي. لأن الفولكلور الذي طالما امتزج بالأساطير يقيِّم الإنسان تقييماً فوق-بشري. فلنقل إنني كنت على الدوام أحاول اكتشاف العلاقة بين الإنسان والحيوان والنبات والجماد، كما أوضحت ذلك في مقالة في العام 1956. هذه العلاقة حاولت التعبير عنها في رسومي الاجتماعية بالذات حين تناولت مواضيع مثل الفلاحين ومواكبهم والمتظاهرين والنساء المحجبات وما إلى ذلك. في حين أن رسومي ذات البحث الشعبي كانت تتوخى مناقشة المعنى الإنساني من حيث فنائه في الموجودات الأخرى كبطل ملحمي. ومن هنا مثلاً استطعت أن أبيح لنفسي تغيير المعنى الإنساني من هذا المنظور فأرسم، على سبيل المثال، زين العابدين، وهو شخصية أسطورية نصف دينية معروفة، باعتباره آخر أبناء الحسين بن علي من الأحياء، فلم أصفه وصفاً طبيعياً، تقريرياً، تأريخياً، بل حاولت أن أرسمه كإنسان مقيد يبلغ أكثر من سبعين سنة. هكذا فإن باب الفولكلور والأسطورة والموضوع الشعبي كان مفتوحاً لي لكي أكتشف كثيراً من القيم الإنسانية التي سوف تؤدي للتعبير عن الروح الجماعية كاستلهام للطابع الحضاري في الفن.
- الأسطورة، التعبير المحلي، البحث عن عمق مرجعي، رمزي، دلالي... هذه علامات توجهٍ ثقافي يوحد بين الشعر والرسم في خياراته الجمالية.
* لا أملك أي تفسير نظري أو اجتماعي معين لذلك، بقدر ما أخمن من يقظة الروح الإنسانية في العراق بعد الحرب العالمية الثانية، ومدى اكتشاف الإنسان الرافديني لذاته الحضارية، ولحقيقة إنسانيته القومية في ذات الوقت. ان هذا الجذب المستمر بين قوتين يشير، من جهة، إلى انتماء الفنان الحضاري وإلى عمق المحيط، وإلى اكتشاف الواقع المحيط به باعتباره إنساناً مدركاً لعالميته الثقافية، من جهة ثانية. أعتقد أن هذا الحوار بين الموقفين لدى كل واحد منا كان بمثابة المولد الذاتي للإبداع فينا. فليس غريباً أن تكون فترة الخمسينات فترة زاخمة بالتوتر وبالرغبة في الإبداع بعد أجيال طويلة من الانعزال والتخلف الثقافيين وعدم اكتشاف الهوية الحضارية. كان طبيعياً لجيل الخمسينات أن بستطيعوا أن يكونوا على حافة العالم الجديد الذي كانوا يحاولون أن يعيشوه كمزيج من الحياة اليومية والحياة الحضارية-التاريخية.
أما ظواهر هذا الموقف العام فلا بد أنها كانت تتمثل في حماسنا لتقارب الأفكار فيما بيننا ولتكوين طموحات إبداعية. ان العامل الخفي يبقى في يقظة الروح الإنسانية المفاجئة في منتصف القرن (الماضي) باعتبارها انعكاساً طبيعياً لمدى استمرار الشخصية الحضارية عبر الموقف الفني. يكون تفسيرنا عند هذا الحد غيبياً من منطلق سيكولوجي (نفسي) ربما، أو بارابسيكولوجي. وهناك نظرات حديثة تعزو وراثة الصفات الحضارية وتفسير التطور الحضاري إلى مثل هذا الأساس.
- ولكن لماذا في العراق تحديداً؟ أليست هذه صفات نزوعية صوب الاستقلال، وفي غير تجربة عربية، ومنها في الفن؟
* العراق بلد يتمتع بصفات تميزه عن غيره من الأقطار العربية، وقد تحرمه بعض المزايا أيضاً. فلموقع المغرب بالنسبة لفرنسا مثلاً أثر واضح في التأكيد على الخصوصية الزخرفية في الفن التشكيلي (محمد المليحي خصوصاً)... انه موقف مغربي دفاعي ومتحصن. ولموقع تونس أيضاً أثر في تلكوء بعض الاتجاهات في الفن التونسي إذ تبقى في موقع الفنتازيا والرسم ذي التقنية الحِرَفية. في حين يظل لطبيعة الحياة الاجتماعية في مصر أثر آخر في اتجاههم نحو الروح الشعبية، وهي امتدت من الفكر الفرعوني إلى فنونهم. أما في العراق فالذي أعتقده أن لتأثير المناخ - خاصة المناخ شبه الصحراوي والانتقال السريع والحدي بين درجات الحرارة وما إلى ذلك من قيم أخرى، كوقوع العراق على حافة منطقتين متجاورتين، أي آسيا وأفريقيا، فضلاً عن وجود تراث حضاري اكتشفه الفنانون منذ مدة قريبة نسبياً - هذه كلها عوامل محفزة على يقظة الفنان المستمرة، من أجل أن يكون مبدعاً ومتنوعاً. ومع ذلك فان انفراد العراق، بظهور شعراء مبدعين، يكاد أن يشكل تقليداً في العراق. فيقال مثلاً: يولد الشعر في العراق قبل الأقطار العربية الأخرى، بدليل أن المتنبي وأبا تمام وغيرهما لا يزالون من قيم الشعر العربي الكبرى. كما اتضح كذلك اهتمام المفكرين منذ الثلاثينات بترشيد الفنانين نحو التراث، ما شكل حافزاً مهماً للفنان العراقي من أجل الإبداع، فضلاً عن أن فترة الخمسينات برهنت على أن غليان الجو الاجتماعي والسياسي، بسبب تناقضات كبيرة، كان أقوى وأعنف في العراق منه في غيره، بدليل النضال ضد الوجود الانكليزي، ونجاح »الجبهة الوطنية« في إسقاط أكثر من حكومة.
الفنان العربي قد يكون دؤوباً في عمله، والتونسي حِرفياً في عمله، والمغربي مهتماً بالتقنية والأسلوب نظراً لرصيده الفكري العريض بحكم قربه من وسط أوروبا، واللبناني لديه نوع من التجريبية في العمل الفني نظراً لكون بيروت نقطة التقاء بين حضارتين، أما في العراق فأعتقد بأن الطبيعة الإنسانية المشروطة بطبيعة المحيط جعلت الفنان متقلب الأهواء، أي دائم الحيوية. وهذا فضلاً عن اكتشاف الآثار في بدايات هذا القرن (القرن العشرين) مما أكد اهتمام الفنان بالجانب الحضاري من العمل الفني.
- ولكن كيف لك أن تحدد تجليات هذا الأسلوب ومفرداته التشكيلية؟
* معرض «جماعة بغداد» الأول (1951) كان معرضاً تمهيدياً وله صفة انتخابية، تجانست فيه عدة اعتبارات، أهمها: تأكيد الروح المحلية في العمل الفني، إلى جانب ممارسة الأسلوب الحديث في الرسم. أي أن هذه القيم ظهرت جنباً إلى جنب أكثر من امتزاجها تقنياً. ففي هذا المعرض كان جواد سليم على شيء من التأثر ببيكاسو، وأنا ببول كلي، في حين أن معرضينا الشخصيين في 1953، جواد وأنا، أظهرا مدى امتزاج كل القيم عبر الأسلوب الفني.
كانت اللوحة في المعرض الأول تبدو غير متمازجة من حيث القيم التي يتناولها الفنان: اهتمامات الأسلبة الحديثة، واقتباس عناصر تراثية في ذات الوقت. ان لهذه الظاهرة سبباً هو أن فترة الأربعينات كانت فترة غنية بممارسات أسلوبية ذات هوية أوروبية، خاصة ما حققته «جماعة الرواد» (بقيادة فائق حسن)، إذ أنهم أدخلوا مفهوم اللوحة الانطباعية والوحشية والتعبيرية إلى الأذهان. فمن الطبيعي، إذن، أن تبدو مهمة «جماعة بغداد» استمراراً لهذه الاعتبارات باعتبارها هي الحالة الطبيعية وقتها؛ والشيء الجديد هو اكتشاف الهوية الشخصية للوحة مع «جماعة بغداد». وما اكتملت هذه الهوية إلا في منتصف الخمسينات.
- قبل «جماعة بغداد» أتى الرسم بأسلوب غربي ومن دون هوية شخصية، فيما تحققت معكم الهوية الحضارية دون الشخصية: هل يمكن اختصار، بل قبول مثل هذا التفسير؟
* تحقق هذا في منتصف الخمسينات، وفي بداية الستينات، حين حاول فنانون آخرون في «جماعة بغداد» الأخذ بمبدأ استلهام التراث. حتى أن فائق حسن واسماعيل الشيخلي ومحمود صبري أكدوا على هذه الرؤية على الرغم من انتمائهم لـ«جماعة الرواد». وظهر كذلك ضياء العزاوي، بثقافته الأركيولوجية (الآثارية)، محاولاً التأكيد على اقتباس التراث بشكل أكثر تاريخية. كما ظهر كاظم حيدر مؤكداً على الرح الملحمية للعمل الفني، خاصة في المواضيع الأسطورية والشعبية.
حينما أدرك الفنان العراقي أن استلهام التراث بات مسألة طبيعية انتهت مهمة «جماعة بغداد»، على ما يبدو. ولكن تبلورت في ذات الوقت القيم والأساليب لعدد من الفنانين، المنتسبين إلى هذه الجماعة، ولا سيما عند جواد سليم.
- ولكن لنعدْ إلي تجربتك الخاصة، إلى بدايات الاحتراف.
* معنى الاحتراف عندي لا يقتصر على مفهومه الاقتصادي بل على معنى انقطاعي للرسم كميدان للكشف عن هويتي الإنسانية والثقافية. وأعتقد بأن الاحتراف بهذا المعنى، وبالنسبة لظروفي، كان يلازمني منذ أن بدأت العمل في «جماعة بغداد»، وكنت وقتها أمتهن التدريس، وأشعر أن لدينا مهمة هامة في الفن. أما عن تكامل أسلوبي الفني فهو بدوره لا يخضع لما أستطيع أن أصرح به أنا شخصياً. إذ أن قناعتي بهذا التكامل ليست لها نهاية ولا بداية. فالمسألة عندي لا تتعلق بالتمييز بين مرحلة مدرسية وأخرى احترافية. إلا أنني أستطيع القول إن النصف الثاني من الخمسينات منحني تجارب جديدة في العمل الفني بمستوى عالمي، وتقني كذلك، بعد أن قضيت هذه المدة في باريس، واطلعت على الكثير من الأمور التي وسَّعت من رؤيتي الفنية. في باريس تبين لي، مثلاً، في مجال التقنية، أن »التعبيرية« قابلة للاقتراب من النزعة «التاشية» (tashisme ). وكان لوجود أعمال فنية تراثية أثره في هضم دراستي للتقنية التراثية، الرافدينية أو المصرية.
في اختصار إن ما اتجهت صوبه، ضمن رؤية «جماعة بغداد»، بلغ، كما يبدو، نهايته في أن أتوصل إلى ما أصبح فيما بعد بداية لمرحلة جديدة. وقد اكتشفت منذ عودتي إلى بغداد، في بداية الستينات، أن تأكيدي على بعض العناصر التراثية سيؤلف مطلعاً جديداً لرؤية أخرى أكثر التصاقاً بالطرح التقني. وهو ما تبلور في ما بعد في تجمع «البعد الواحد». ففي الوقت الذي كنت فيه أنوِّع اهتماماتي في التعبير عن قيمة التكرار والتماثل والتعبير الخطي في الفن باستلهام الحروف، اكتشفت أن الاهتمام بالخط العامودي أصبح بمثابة ملتقى لكل هذه القيم. وهذا ما ظهر في لوحتي «عائلة فلاحية» وفي «الفلاحون والقمر»، التي رسمتها في باريس في العام 1958 .
- من 1955 حتى 1959 في باريس: ماذا عن فنك فيها، بين موضوعات وتعابير تشكيلية؟
* في بداية الخمسينات رسمت مواضيع عامة ذات صلة بالحياة وبالدين أحياناً، مثل لوحات «امرأة وطفلان»، أو «شخصان»، أو «البراق» وغيرها. في 1957 رسمت مواضيع شعبية على الأكثر، وكانت تقنيتي تعتمد على رسم المسطحات اللونية المحددة بخطوط خارجية.
أما في باريس فقد بدأت أؤكد على المواضيع الإنسانية والاجتماعية، وتخليت عن تحديد المسطحات لذاتها مؤكداً انتفاء الحدود بين اللون واللون، بل بدأت بالتخلي عن ذاتية العمل الفني، أو عن خصوصية اللوحة على الأقل، لأنني أخذت أمزج الصيغة اللونية بالتراب وبأشياء أستعيرها من المحيط، كما أدخلت الحرف بشكل أكثر قيمة في أعمالي.
بالطبع كانت مصادري في هذا البحث ليست التراث الحضاري المتوافر في باريس وحسب، بل التقنيات المتنوعة التي اطلعتني عليها متاحف باريس وصالاتها، فضلاً عن أن دراستي في «البوزار» مع البروفسور ليجو - وكان من رواد الواقعية الشعرية - زادت اهتمامي بحساسية اللمسة اللونية فباتت أكثر وضوحاً.
- لو تقوم بمقارنة فنية بين أسلوبك وأسلوب جواد سليم وغيركما في »جماعة بغداد«، كما ترى إليهم في هذه الفترة؟
* لم يتخذ جواد سليم الموضوع الفني لذاته وإنما للبوح بما يريد قوله. أما أنا فحاولت التعبير عن هوية الموضوع المرتبط بالشخوص. فيما اتجه التحول عند محمد غني حكمت صوب مناقشة الإنسان اللصيق بالتراث بعد أن أخذ بنحت النساء المحجبات، على سبيل المثال. كانت هناك إلى حد ما موضوعات مشتركة، فيما انفرد كل فنان برؤية محددة تحكمت باختيار الموضوع ومعنى الالتزام به.
فجواد سليم كان يحاول الخروج من إطار التعبيرية في الأسلوب إلى نطاق التجريدية البحتة، ومحمد غني كان على شيء من التناقض المتكامل، إذا صح التعبير، بين الموضوع والتقنية. أما في تجربتي الفنية فقد كان الموضوع لديَّ المنطلق للتعرف على القيم الجمالية والتعبيرية للعالم الإنساني والمحيطي المرسوم. وقد ظللت، كما يبدو، متمسكاً على الرغم من تنوع التقنية باستخدام مفردات محيطية مترابطة كالقمر والبيت والسماء والإنسان في أعمالي، وكذلك الحرف.
- كيف لك، ضمن هذا الفهم، أن تتحقق من بروز الحرف العربي في التصوير العربي الحديث؟
* أعتقد، بالنسبة إلى العراق، أن وقائع العام 1952 أظهرت بأن الفنانة مديحة عمر كانت من أوائل المهتمين باستخدام الحرف كمفردة تشكيلية، على أن جميل حمودي يرى أنه البادىء باستلهام الحرف في العمل الفني، وكان قد تخرج في العام 1946 وسافر إلى باريس. وقد اطلعت على أعمال له في باريس، مؤرخة في نهاية الأربعينات، وتدل على اهتمامه باقتباس الحرف. المهم هو أننا، في العام 1950، نجد في الحرف عنصراً من عناصر التعبير عن التراث في الفن. أما جواد سليم فأعتقد أنه كان مهتماً بالحرف منذ العام 1940 تحديداً، ولكن في صورة عرضية. فلوحته «لورنا» كانت تحتوي على اسم «لورنا» مكتوباً على اللوحة إزاء كلمة «لندن»، مع أن اللوحة بالأساس ذات صيغة انطباعية على الأكثر. نستدل من هذا، إذن، بأن ممارسة الحرف في الرسم كانت معروفة في العراق منذ نهاية الأربعينات.
أما في الأقطار العربية الأخرى فلم يسعفني الحظ في أن أتبين بدايات التعبير الحروفي في الفن، فيما يشير بعض النقاد إلى أن الاهتمام بالحرف بدأ مع العراق وفي تواريخ متقاربة عربياً.
- متى ولماذا الحرف في عملك الفني؟
* استعملته في عام 1953 على الأرجح كمفردة تشكيلية حاولت أن أوظفها بمعنى الشكل الطبيعي. فقد رسمت فيها لوحات كان الحرف فيها يؤدي معنى يد أو أنف أو ثدي... وفي باريس بحثت هذا الموضوع بشكل أكثر صلة بالتعبير الزخرفي. في بغداد، بعد عودتي إليها، تسنى لي العمل على بعض التجارب الفنية، على استخدام الحرف في الرسم باعتباره من وسائل اللوحة التعبيرية. وأذكر أن معرضي في العام 1962 في بغداد احتوى على موضوعات ذات تكوينات حروفية، ومنها وفق طريقة «المونوتايب» أو «اللينوتايب» (وهما نوعان في الفن الغرافيكي).
- ولكن ما كان الغرض من استعمال الحرف في هذه البدايات الفنية؟
* كان غرض استعمال الحرف في هذه المرحلة يتراوح بين أن يمارس وظيفة شكلية في بناء اللوحة، وأن يقف موقفاً وسطاً بين الفن الزخرفي والرسم الطبيعي. فلوحتي »ثلاث نساء«، وهي مرسومة بألوان زرقاء وسوداء ووردية، يظهر فيها الحرف بمثابة الخطوط الخارجية للملامح البشرية، من جهة، كما يظهر أيضاً ككلمة مدونة تؤلف طبقة علوية للأشكال المرسومة، بل ان بعض الحروف كان يتكرر بصورة فيها شيء من التعبير المنظوري... والخلاصة أنني بدأت بتطوير مفهوم الحرف باعتباره انتماء لخصوصية اللوحة ذات الموضوع الإنساني. ولا أذكر أنني اتخذته وسيلة للرمز عن الطبيعة أو لاستكمال رسمها. وكانت هذه فترة سريعة لم أؤكدها تماماً، لأنني سرعان ما تحولت عنها إلى مناقشة الحرف لذاته في اللوحة. ولكن، كما قلت، اكتفيت بمدلوله الحروفي من دون اللجوء إلى منظومات متكاملة للكلمات. فقد حاولت مثلاً أن أكتب حرفين مفرغين من معنيهما بمجرد توظيفهما التجريدي في العمل الفني. وهذا قادني بدوره فيما بعد إلى اكتشاف خصوصية الحرف من حيث كونه خطاً أو استطالة شكلية. كنت حتي هذا التاريخ لا أرفض التعبير بالشكل الطبيعي تماماً فكان موقع الحرف في رسومي يتراوح بين أن يظل تحديداً لبعض الأشكال الإنسانية وأن يصبح شكلاً مجرداً. أعتقد أن هذه الفترة (من 1958 حتى 1966) كانت فترة انتقائية، فيظهر الحرف مجرداً مرة، وطبيعياً مرة، وذلك حتى ظهور «البيان التأملي» في العام 1966، حيث أصبحت للحرف هوية تجريدية بحتة في اللوحة. ومنذ هذا التاريخ بدأت بمعاملة الحرف كعنصر من عناصر وصفي الشهودي للعالم.
فقد حاولت أن أرسم وقتئذ العالم، لا كما أراه رؤية عينية وحسب، بل كما أحس به وأنا في اتجاهي نحو المطلق. وكنت أيضاً وقتئذ قد أوغلت في دراساتي الصوفية. وبدأت، بعد ذلك، أعامل الحرف كمجرد سمة لاشكلية فتذوب هويته اللغوية في موقعي الشهودي كمتأمل. ولم تكن قد ظهرت بعد أهمية الجدار في رسومي، فظل الحرف بعيداً عن معناه حتى العام 1973. كانت هذه الفترة (1955-1973) موظفة، كما يبدو، للتعبير عن موقفي التأملي.
- وكيف تعين النقلة الماثلة في ما قاله «البيان التأملي»؟
* هو وجهة نظر في وصف العالم، لا باعتباره عالماً وجودياً، بل باعتباره عالماً شهودياً. أي أنه وصف حيادي للعلاقة التي تنشأ بين الجزء والكل، بين الذات الإنسانية والذات الكلية. وقد تسني لي وقتها أن أقارن بين معنى العالم المرئي ومعناه اللامرئي، فاستخدمت العدد الكسري للتعبير عن ذلك. فقلت إذا كان الرسم الطبيعي يعتمد على الأبعاد الثلاثة في الوقت الذي يتم فيه هذا الرسم على سطح ذي بعدين، وهو السطح التصويري، فإن ما يعبر به الفنان هو العدد الكسري 3/2، أي أن الفنان يحمِّل السطح التصويري فوق طاقته حين يضيف إليه البعد الثالث بواسطة المنظور الجوي. فاستخدام الفنان للمنظور استخدام طارىء، إذن، وليس من صميم العمل التصويري نفسه، فضلاً عن أن التعبير عن هذا العالم التصويري يبقى وهمياً، أي غير حقيقي.
أما الرسم المجرد، الذي يكتفي بتحوير الأشكال الطبيعية إلى أشكال ذات بعدين وحسب- وهو ما أوغل غوغان في الكشف عنه بعد فن المنمنمات في العصور الإسلامية الوسطى- فهو ما يعبر عن المعادلة الكسرية 2/2؛ أي أن السطح التصويري يتطابق، هنا، مع الأشكال المرسومة، فكل منهما يتم على بعدين.
لكنني، في رؤيتي التأملية، من حيث أن معنى العالم الشهودي الذي كنت أجد نفسي خلاله متجهاً وقريباً من المطلق، حاولت أن أقلل من ثقل الوجود إزاء السطح التصويري. وهكذا توخيت أن أعبر عن معناه من خلال البعد الواحد فقط، فأضحت عندي المعادلة الكسرية في صيغة 2/1؛ أي أن أحيل العلاقة بيني وبين العالم، عبر السطح التصويري، إلى معنى الخط، أي البعد الواحد. ومن هنا كان من الواضح أن طبيعة الكلمة العربية ذات الحروف المتصلة أصبحت هي المعبر للاتجاه نحو المطلق والتجريد. هنا أضحى للحرف دوره الصميمي في البعد الواحد، ولم يعد الحرف في رسومي يكتسب صفة تجريدية بحتة كشكل طبيعي، أو كلون أوظفه في اللوحة التجريدية، بل أصبح كياناً لمعنى الخط، وكمجرد حضور أزلي للشكل. هكذا بدأت باعتباره غياباً للسطح التصويري. ولكنني في نفس الوقت، بعد أن أدركت هوية الحرف غير المادية (الزاوية لا تؤلف شكلاً هندسياً مغلقاً، مثلاً، بل تتألف من تقاطع خطين، كما ان ظهور المثلث كسطح ذي بعدين يتم بتقاطع ثلاثة خطوط)، شرعت في مناقشة دور الخط التقني من خلال شهودي للوجود. فقد رسمت، مثلاً، لوحة بعنوان «ألف نون»، في الوقت الذي كنت أرمز إلى منظر طبيعي.
هكذا أخذت قيمة الخط الفلسفية تنمو من خلال رؤيتي الفنية، حتى أنني اكتشفت من خلال ذلك أن رسمي إياه بواسطة التدرج اللوني يستطيع أن يحل مشكلة تقنية كبيرة، هي ضرورة الجمع بين البعد الواحد كتقنية والبعدين كسطح تصويري. وهي مسألة تبدو متناقضة لأول وهلة، إلا أنها ليست كذلك: لعلي استعرت في هذا السياق معنى حالة الصحو بعد السكر في المصطلح الصوفي، وهي رؤية الجنيدي البغدادي في التصوف.
في نهاية هذه الفترة حاولت أن أبحث عن كيان الحرف كخط ذي بعد واحد، بغض النظر عن دوره اللغوي (أي بمساهمته في تكوين كلمة مقرؤة ذات معنى)، بل حاولت أن أفصد طاقاته ومعانيه كحرف مستقل لذاته، فلم أجد سوى طبيعة اتجاهه أساساً للتعبير عن معناه.
بالطبع كانت مديحة عمر تناولت هذه المسألة في محاولاتها، ولكن بشكل ميتافيزيقي وربما سوريالي إلى حد ما... في العام 1970 تقريباً عرضت في معرض «تأملات ومعارج» موتيفات أفقية وعامودية، كان القصد منها أن أبحث عن أشكال الحروف العربية، وهي تصنف على الأكثر بين هذين الإيقاعين. من ذلك أيضاً لوحة »معراج« التي لا يمتلك الحرف، ولا النقطة، فيها أي وجود شكلي لأنها كانت تتم من خلال عملية التدرج اللوني. لكن الحرف بمعناه العامودي كان يرمز من بعيد إلى معنى حرف »ألف«، وهو في نفس الوقت العدد واحد: ان انعدام الحدود بين العدد والحرف كان يأخذ مجراه في هذه اللوحة.
وفي لوحتي «تأمل رقم واحد» رسمت ثلاثة خطوط أفقية هي في الواقع بمثابة تلاشي معنى حرف الباء في المحيط لذاته، وذلك لأن هذه الخطوط تعني أيضاً ثلاثة آفاق، والأفق، كما هو معروف، ملتقى السماء بالأرض. ان كيان الحرف عندي، إذن، لم يعد مرتبطاً بهويته اللغوية، أو لنقل إنه بدأ يكتسب هوية حروف كونية.
- ماذا عن علاقة الحرف بالصوفية؟ وماذا عن علاقة الإنسان بالفنان فيك؟
* في عام 61-1962، لا أذكر بالضبط متى بدأ ذلك، طرأ لدي نوع من التحول صوب الممارسة الدينية، بعد فترة تحضر، أو تهيوء، لاكتساب إيماني من جديد، وأنا في باريس. وقد اتضح لدي أنه من الضروري أن أحقق ما أؤمن به بواسطة سلوكي الإنساني. وكانت مسألة التناقض بين الفكر والتطبيق، في حياة الإنسان عموماً، وعندي، غير مقنعة لدي. ففي باريس، اتضح لدي أن الفكر الوجودي لا يستطيع تبرير نفسه، ولم أستطع تحمل مسؤولية اختيار مواقفي الإنسانية. إذ وجدت أن ثمة قوى خارجة عن إرادتي تتحكم بمصيري بشكل مذهل وغير منطقي بالنسبة لي. وحينما أفلت هذا الزمام الإنساني من يدي حدث الصدع في ذاتي الإنسانية، واضطررت، مثلاً، أن أنقطع عن التدخين والانغماس في الحياة المادية حفاظاً على صحتي البدنية. كما وجدتني أجابه تحديات التقاليد المتحجرة في العالم الغربي بمواقف إنسانية بحتة، اكتشفت أنها قريبة جداً من تقاليدي الشرقية. على كل حال ان انتصاري على ذاتي، كما يبدو، بتجاوزي لمشكلة ما اعتدت عليه من طقوس أو من مراسيم دنيوية، فتح أمامي الطريق لاكتشاف علاقتي مع المطلق. كانت تلك، كما يبدو، البدايات الأولى لولادتي الروحية الجديدة. لقد اكتشفت، إذن، عقيدتي من جديد.
في العام 1961، كما أذكر، سألني قريب: «أنت لم تعد غريباً على الدين، ولكن لماذا لا تمارس المناسك؟». كان السؤال منطقياً ويحل مشكلة التناقض بين الفكر والتطبيق في فكرنا الشرقي: هكذا أصبحت متديناً. إلا أنني احتفظت بحريتي الإنسانية في الاختيار بعد تجاوزي لهذا البرزخ، فوجدت في التصوف ما أستطيع به أن أحتفظ بكل خطوط مواصلاتي الخلفية بوجودي الإنساني الدنيوي، أي بالحفاظ على حريتي وتوظيفها في التوجه نحو المطلق. وفي العام 1961 بالذات كتبت كتابي «الحرية في الفن»، وأعمل على كتابة بحوث تكمل هذا الكتاب، وموضوعها دراسة معنى الإمكان الذي يسبق الوجود في الفكر التشكيلي.
درست، في غضون هذه السنوات التي سبقت ظهور «البيان التأملي»، الحسين بن منصور الحلاج وأبا حامد الغزالي والسهروردي وغيرهم، فأدهشني أن أجد في العمل الفني مجالاً للتعبير عن حريتي الإنسانية، وبشروط قابلياتي التشكيلية بما أستطيع أن أسميه ترجمة للكثير من المواقف الصوفية، أو لأقل إنني طلبت المدد وفُتح لي في أن أكون صوفياً في عملي الفني. لا بمعنى أن أمارس العمل الفني كمنسك للتعبد، بل في أن أحتفظ بذكر الله عبر عملي الفني، ولكن بمنطق العمل نفسه. لقد وجدت، على سبيل المثال، أن اختزال الكلمة إلى حرف، ثم إلى نقطة يدوران في فلك نظرية الحلاج، فيما أسميه مبدأ اختزال المعرفة. وهو ما توضحه مقولته التي تبدأ بعبارته: «علم كل شيء في القرآن، وعلم القرآن في الأحرف التي في أوائل السور، وعلم الأحرف في لام ألف، وعلم لام ألف في ألف، وعلم الألف في النقطة...».
في العام 1962 كتبت كتابي «دراسات تأملية»، وحاولت أن أتناول فيه بعض الشخصيات الدينية والأسطورية، كما بحثت مشكلة الزمان في الفن، وما إلى ذلك. المهم أنني حاولت أن أجد المناخ الثقافي لما كنت بصدده في مسألة الرؤية الفنية التأملية. وفي جميع الأحوال، فإن ظهور منظوري الإنساني الجديد كان يأخذ بعين الاعتبار، في هذه الفترة، معنى اكتمال الجزء بالكل. وبدأت أفهم أن هناك حواراً أساسياً يتم بين الإنسان والعالم، وأن الإنسان جزء من هذا العالم، ولا بد له كفنان أن يأخذ بعين الاعتبار وحدة العمل الفني بين الفنان والمشاهد، وبين الفنان والخامة، وبالتالي بين الفنان والعمل الفني والمشاهد. على هذا الأساس بدأت أنظر بوضوح إلى مكانة الفنان بوصفه خالقاً للعمل الفني، فأجد في هذا القول ضرباً من الرومنسية، إذ أن الفنان لا يعدو أن يكون، في جميع الأحوال، بعداً من ثلاثة أبعاد أساسية. فثمة وحدة متكاملة بين الفنان والعمل والجمهور. هنا أدركت بكل يقين أن ممارستي التقنية ستكون على صواب إذا قللت فيها من دوري كمصمم، وذلك حين أشرك العالم المحيط بي في العمل الفني، ومن ضمنه الجمهور. وقد اتضح لي هذا فيما بعد بشكل أكبر، أي دور الصدفة أو قوى الطبيعة في إنجاز العمل الفني وما إلى ذلك من اعتبارات.
- ماذا عن نشأة تجمع «البعد الواحد»؟
* خطر لي، في أواخر العام 1970، أن أفاتح فنانين مهتمين بالحرف العربي في عملهم الفني بشأن تنظيم معرض مشترك، فلقيت تشجيعاً من أكثريتهم. وكان وقتئذ ضياء العزاوي وجميل حمودي على رأس الذين وجدوا في ذلك مشروعاً جديداً لإنجاز معرض فني. لكنني أخذت الأمر على عاتقي في أول الأمر، فاتصلت بفائق حسن وفرج عبو والفنانين المعروفين في هذا الشأن، وحصلت منهم على آراء حول تعاملهم الفني مع الحرف. وقد ارتأينا بعد ذلك تأسيس لجنة تحضيرية للمعرض، فتأسست من: جميل حمودي، محمد غني، عبد الرحمن الكيلاني، رافع الناصري، ضياء العزاوي وأنا. وقد اقترحت عليهم تسمية التجمع »البعد الواحد«، واقترح حمودي العنوان التالي: «الفن يستلهم الحرف»؛ وقُبلت التسميتان باعتبار أنهما يعينان شيئاً واحداً، على الرغم من اختلافهما فكرياً وأسلوبياً. وقد وجدنا في أول الأمر صعوبة في تفسير «البعد الواحد». وهذا ما اضطرني إلى تضمين ذلك في كتاب «البعد الواحد» الأول. وقد تقاسمنا العمل بالطبع فأخذت على عاتقي تأليف الكتاب، ومحمد غني والناصري اهتما بمسؤولية تنظيم المعرض. أما العزاوي فتولى أمر إعداد معرض فوتوغرافي وثائقي عن دور الحرف في الحضارة العربية، فيما انسحب حمودي من المشروع. كما حاولت استكتاب غالبية المشاركين في المعرض، وكان من جملة من كتب رأيه: الموسيقي فريد الله ويردي، الناقدان سهيل سامي نادر وعبد الرحمن طهمازي... وكان لكل من قتيبة الشيخ نوري والعزاوي والكيلاني وأنا دور مهم في كتابة بحوث حول علاقة الحرف بالعمل الفني.
منذ العام 1971 أخذنا نهتم بالتنظير الفني، نحن الجماعة المشتركين في التجمع، وعلى الرغم من اختلاف رؤانا. فانكب قتيبة على كتابة رؤيته بعد عدة سنوات حين أقام معرضه الشخصي، وقد مهد له بكراس تساءل فيه عن معنى الدائرة وإمكانية تحويرها إلى حرف وما إلى ذلك. كما كان ضياء العزاوي، قبل العام 1971، قد شارك مع بعض الرسامين والنحاتين في طرح رأيه في بيان «الرؤية الجديدة» (1968)، واستمر بعد معرضنا في توضيح دوره في استلهام الحرف في فنه. ولقد اجتمعنا لهذا الغرض عدة اجتماعات، وحاولنا فيها تثبيت آرائنا من جديد حول الحرف في شريط مسجل. واهتممت بتجميع هذه المعلومات من مديحة عمر وقتيبة الشيخ نوري ونوري الراوي وغيرهم. وفي العام ،1973 وفي مناسبة انعقاد «البينالي العربي» في بغداد، التقيت بإبراهيم الصلحي (السودان) ومحمود حماد (سوريا) وغيرهما من فنانين مشاركين، بقصد تثبيت آرائهم حول الفن في تسجيلات صوتية، كما تداولنا مع الفنان اسماعيل شموط بشأن تأسيس »رابطة الحروفيين العرب«. وبالفعل تولينا، الصلحي وحماد وأنا، كتابة المسودة الأولى للرابطة، وقرأتها على الفنانين الحروفيين ووقعنا الوثيقة، وهي لا تزال في حوزتي. حتى أنني حاولت، في معرضي المشترك مع نجا المهداوي في تونس (1980)، أن أعيد طرح فكرة «الرابطة»، فنشرت في حينها بياناً في هذا الخصوص. وهكذت ترى أن اهتماماتي بالبعد الواحد مستمرة...
- كيف يمكن وصف التجمع فنياً؟
* بعد إنجاز معرضنا الأول انسحب من التجمع ضياء العزاوي ورافع الناصري وصالح الجميعي، ولم يشتركوا بعد ذلك معنا في أي معرض. كان التجمع يتألف، منذ البداية، من مجموعتين: تؤمن الأولى بأهمية استلهام الحرف العربي بشكل كلام مدون، لا بشكل حروف مفردة لذاتها، ومن هذه المجموعة نجد: محمد علي شاكر، ضياء العزاوي، وقتيبة الشيخ نوري أحياناً وأنا. أما المجموعة الثانية فقد كانت تؤكد على استلهام الحرف لذاته في اللوحة، حيث نجد: جميل حمودي، مديحة عمر، إحسان أدهم، محمد سعيد الصكار، نوري الراوي وغيرهم. على أن الاهتمام بهذا الجانب أو ذاك بصورة منفصلة لم يكن مفصولاً. والمسألة عندي أن المنتمين إلى هذه الجماعة كانوا يحاولون التنظير لرؤيتهم الفنية. فقد التزم، مثلاً، حمودي جانب إخضاع استمرارية الخط للتقنية التشكيلية، وحاولت مديحة عمر أن تفصد الطاقات الداخلية للحرف العربي (ولا سيما بعد اطلاعها على مؤلفات نبيهة عبود، التي كانت من أوائل من كتب حول الخط العربي). أما قتيبة الشيخ نوري فقد التزم التشكيل الهندسي للحرف، محاولاً تبيان العلاقة بينه وبين الأشكال الدائرية والأقواس. وتناول محمد علي شاكر ومحمد سعيد الصكار الحرف العربي من وجهة نظـر تجويدية، فاستخدما خطوط النسخي أو الثلث في رسومهما، وحاول كذلك إحسان أدهم أن يطرح قابليته في استلهام الحرف بذات الطريقة، وثلاثتهم كانوا من الخطاطين المجودين والغرافيكيين في ذات الوقت. وقد عرض محمد غني أعمالاً امتازت بمحاولته في استخراج مفرادت لغوية جديدة تقع بين الزخرفة والكتابة والرسم في آن واحد، مسقطاً ذلك على استخداماته الحروفية في فن النحت البارز. فقد عرض وقتها أعمالاً بهذا المعنى مثل: بسم الله وغيرها. أما رافع الناصري فقد كان مهتماً وقتها بمحاولة البحث عن الإدراك السمعي للنبر الحروفي من خلال محاولاته الغرافيكية في رسم تكوينات حروفية ذات نهايات مدببة. وقد حاول بلند الحيدري، في بعض كتاباته، اكتشاف ذلك في حينها. بينما كان ضياء العزاوي يُقبل على استخداماته اليومية لمعنى الحرف من خلال استحضار الهوية الشعرية والتاريخية للكتابات. أما نوري الراوي فقد حاول بدوره أن يستثمر الحرف العربي من حيث معناه المحيطي الغنائي، فرسمه في سلسلة رسومه المنظرية للبيوت والآفاق وخلافها.
- إلا أنه تجمع ضعيف البنية التنظيمية، من جهة، ومتباعد الأسلوب الفني، من جهة ثانية. ألا يكون لقاء في مناسبة معرض؟ ألم يقع لقاء الفنانين حول الحرف، لا على أسلوب المعالجة؟
* لا يمكن تحديد الجماعة الفنية بنفس مفاهيم الجماعة الاجتماعية أو السياسية تمام التحديد، لأن ما يجمعها هو التقنية والرؤية. وفي اعتقادي أن اجتماع «البعد الواحد»، في صيغته الأولى، هو أقرب إلى التجمع منه إلى الجماعة. وقد حرصت في حينه على أن يظل كذلك لأننا التزمنا، منذ البداية، أبسط الأشكال في هوية المشترك في المعرض، وهو مجرد استلهامه للحرف العربي.
كان التفاوت كبيراً بيننا في مجال التنظير الفني. ولعل هذا ما يقع في جملة الأسباب التي دفعت العزاوي والناصري والجميعي إلى تركنا، علماً بأن التجمع كان في التزامه استلهام الحرف يؤكد على نقطة التقاء أساسية، وهو ما لم يعتد عليه الفنان العراقي، لأن معظم الجماعات الفنية التي نشأت في العراق، على كثرتها في الستينات، كانت تتم وفق اختيارات غير فنية بحتة. ولعل الجماعة الوحيدة التي كانت أكثر تماسكاً من غيرها هي »جماعة بغداد« لأسباب حضارية من حيث الرؤية، ثم جماعة »الرؤية الجديدة« لتوافق مشاربهم الفكرية، ولأنهم من جيل واحد، أكثر من توافقهم الرؤيوي.
ان الهيكل العام لـ»البعد الواحد« يقوم على إعطاء أهمية حاسمة للممارسة الحروفية في فن الرسم، وعلى إيجاد العلاقة بين العالمين اللغوي والتشكيلي. وبما أن ما يؤلف الجانب اللغوي هو استلهام الحرف العربي فقد كان القصد من التجمع الاستمرار بالتظاهرة الثقافية والحضارية في الفن بما يستطيع أن يمنح هذا النوع من التعبير الفني هوية متميزة للفن العربي، خاصة ونحن نؤمن بأن الرسم بالحرف العربي يظل أكثر إمكانية على أن يبدو لغوياً في صورة طبيعية غير مفتعلة لدى غير العرب. لكن تشعب الآراء سبَّب عدم التنسيق في هذا المجال، وهو أمر طبيعي في أي طرح فني جماعي.
- كيف لك أن ترى إلى هذه الانتقالة، في العلاقة مع التراث، بين «جماعة بغداد» وتجمع «البعد الواحد»؟
* كانت «جماعة بغداد» تؤكد على الجانب الحضاري في العمل الفني، وهو ما يفسر اهتماماتها بالطابع المحلي، أو العراقي. أما تجمع »البعد الواحد« فقد اعتمد على الحرف العربي اعتماداً أساسياً في استلهامه للتراث، وأكد بالتالي دوره في الكشف عن إيديولوجية الفن العربي المعاصر. وهذا النوع من »التمرحل« يبدو طبيعياً، ولكن الأهم من ذلك هو أن «البعد الواحد»، الذي يعتمد على الجمع بين الفكر اللغوي الحروفي والفكر الحسي التشكيلي، يأخذ دوره أيضاً من عدة مبادىء حضارية وتقنية أستطيع تلخيصها كما يلي: الأخذ، أولاً، بمبدأ التعاصر أو التزامن، الذي ظهر في الفكر الإنساني في الحضارات القديمة عبر ما يسمى التوصل إلى الشخصية المركبة، من جهة، والوضع الأمثل، من جهة ثانية، وذلك عند الجمع بين اللغة الكتابية والمفردات التشكيلية. الأخذ، ثانياً، بمساعي الدمج، في تجمع «البعد الواحد»، بين الكتابة والزخرفة، والوصول إلى ما يمكن تسميته بالكتابة الزخرفية، وهي محاولة معاصرة في الطرح الفني. الأخذ، ثالثاً، بالإيغال في استلهام الحرف بمعناه التدويني وليس التجويدي، مما وثق العلاقة بين العمل الفني والمحيط، وهو ما تعين في استلهام الأثر الكتابي المتواجد في المحيط عبر اللوحة المرسومة. والتأكيد، رابعاً، على أن موقف الفنان العربي المعاصر، المستلهم للحرف العربي في فنه، يظل موقفاً معبراً عن معنى التعبير عن الأصالة والمعاصرة في الفن، وهو يوافق، على ما يبدو، وجهة نظر فناني العالم الثالث عموماً. كما يؤكد التعبير بـ«البعد الواحد»، من جهة خامسة، معنى تواجد كل من الزمان والمكان في العمل الفني الواحد. فالتعبير الحروفي يظل تعبيراً عن معنى الزمان اللغوي، وهو ما يوازي كذلك معنى الحركة الداخلية للموجودات، في حين أن المكان يظل متحققاً في معنى الوجود المادي للوحة التشكيلية. ان مثل هذا التمييز بين العالمين لم يكن على هذه الحال في »جماعة بغداد« إذ كانت الرؤية تقتضي وقتها الجمع بين الطابع الحضاري في العمل الفني والتقنية الغربية الحديثة. وهذه مسألة أخرى بالطبع. وثمة عنصر آخر بدأ يتضح في »البعد الواحد«، وهو مسألة معنى الواقع اللغوي، إذ أن ارتباط استخدامات الكتابة المحيطية بالعمل الفني وسع مدلول الطرح الواقعي الذي كان مرتبطاً بالأشكال الإنسانية والطبيعية في «جماعة بغداد»، وأصبح مرتبطاً بالأثر والرموز اللغوية والإشارية التي لجأ إليها فنان «البعد الواحد».
("جريدة الفنون"، الكويت، 2005)