التجريب التشكيلي المتوسطي

 

تتناول ورقة العمل حاضر التجريب التشكيلي في الفضاء المتوسطي، من خلال مجموعة من التجارب المتميزة التي عدت إليها من خلال مشاركتي وترؤسي للجنة التحكيم في "بينالي الشارقة الدولي" الأخير (2003)، وهو السادس في دوراتها. ولقد شارك فيها ما يزيد على 118 فناناً من 25 بلداً، منهم كثيرون من البلدان المتوسطية، مثل فرنسا وإيطاليا وإسبانيا ولبنان ومصر وفلسطين وغيرها (رلى حلواني-فلسطين، جلال توفيق-لبنان، فيليب تيرريه-هيرمان-فرنسا، إدواردو تشيليدا-إسبانيا، أنطونيو دافيد-إيطاليا، مدحت شفيق-مصر، رشيد مشعراوي-فلسطين وغيرهم). وهي تشكل بالتالي مناسبة يمكن التحقق فيها من حاضر التجريب، خاصة وأن إدارة البينالي هذه حصرت الدعوة بفنانين تجريبيين، مما أثار بعض الانتقادات عند البعض، والحماس عند البعض الآخر. وهو ما تمثل في ابتعاد هذه الدورة الصريح والعمدي عن فن اللوحة ومتعلقاتها لصالح أعمال تعتمد على الفيديو والحاسوب والفيلم السينمائي والصورة الفوتوغرافية وغيرها. فما يمكن القول؟

التجريب تعريفاً
غير أنه لا يسعني البدء بعرض هذه المسائل ونقاشها من دون الوقوف عند تعريف »التجريب« نفسه؛ وهو ما أجريه ابتداء من معناه القاموسي قبل الفني والجمالي. فالتجريب، بداية، يتأتى (سواء في العربية أو الفرنسية أو الإنكليزية) من "جرَّب تجريبا" (experimental, expérimental )، وهو "الاختبار" و"الامتحان"، والذي يبلغ أيضاً تعريفات أخرى، منها الاختبار بالحواس توصلاً إلى معرفة؛ ومنها العمل غير المسبوق، غير النمطي، أي العمل الخارج على قواعد متبعة والانصراف إلى عمليات أمبيريقية، اختبارية، ومطلوبة بصفتها هذه. وما يستوقف في اللفظ العربي هو صيغة "التفعيل" التي يقوم عليها بناؤه الصرفي، ما يعني فعلاً مزيداً، مفعلاً في العربية، لا تتيحه حيادية اللفظين الفرنسي والانكليزي.
يروق لي استعمال هذا اللفظ في ندوة بحثية، بعد أن تم استبعاد غيره مما يخالطه ويلابسه ويشوشه في آن، مثل الحديث عن مدارس أو أساليب أو نزعات، ومثل القول بما بعد الحداثة، أو "الفن المفهومي" أو "الإنشاءات الفراغية" وغيرها. فعودة الحديث عن "التجريب" عودة فنية وجمالية إلى القول الفلسفي، إلى العمل الفني في عملياته وإجرائياته، بما يوسع النقاش سلفاً ويعمقه، وإن يصله بتعريفات هايدغرية في المقام الأول (كما يتضح كثيراً في حمولات الورقة العلمية المرفقة بالدعوة إلى هذا اللقاء).
ذلك أن إعادة النقاش عن التجريب عودة إلى حيث بدأ النقاش الفني والجمالي منذ العقود الأولى في القرن العشرين، أي إلى ما قبل النزعات والمدارس والأساليب التشكيلية المتأخرة، بما يستوعب هذه وغيرها وسابقاتها، ويطرح نقاشاً أجدر بالمتابعة والعرض والنقد. فالحديث عن "التجريب " لم يكن ممكناً طالما أن للفن تقليداً مكرساً، قواعد مقرة، لا يتم التنافس إلا في إطارها وبها. هذا ما صح في تجريب علاقات مختلفة مع اللون، مع الشكل، مع الصيغة المدرسية التشكيلية. وهو ما أعرضه في ثلاثة توصلات:
- مفارقة اللون لصفته الطبيعية، التعيينية للشيء، للضوء الطبيعي؛
- مفارقة الشكل لتمام صورة ممثلة في الخارج؛
- مفارقة الفنان لأساليب المدرسة التي ينتمي إليها لكي يجعل من معالجته المخصوصة طابعاً خاصاً به، ومن دون غيره.
أكتفي فقط بالتدليل على أمثلة في هذه التجريبات: بات اللون الأخضر، على سبيل المثال، صفة للوجه، كما في التعبيرية الألمانية؛ وبات الشكل الفني، كما في التجربة السوريالية، لا يعود إلى أشكال معروفة ومسبوقة خارج اللوحة بل مجالاً لابتداع أشكال عن علامات غير موجودة؛ وهذا ما أصاب صيغة العمل الفني نفسها، كما عند مارسيل دوشان في "مِبْولته " ، حيث اكتفى الفنان بنسبة عمل غير فني إليه، وحوله بالفعل التملكي هذا إلى عمل خاص به.
لا يمكن فهم هذا التنافس الشديد، ابتداء من معالمه الأولى، إلا في إطار التنافس التداولي حول اللوحة، الذي تعين في السوق والمجموعة وصالة العرض ابتداء من الربع الأخير من القرن التاسع عشر. وهو تنافس طلب أسلحة مزيدة لتباريه، لا تكتفي باللون، أو بالشكل، وبمعالجاتهما المختلفة، وإنما احتاج هذا التنافس إلى أسلحة مزيدة، مثل أسلحة الفكر والفلسفة، سعياً إلى التمايز الفردي الشديد.
وفق هذا المعنى لا يمكن اعتبار التجريب - أياً كان، ومهما قيل عن أسباب قيامه، أو عن لزومها - سوى لحظة مزيدة في التنافس والتمايز هذين. وهي لحظة مفتوحة بالتالي حتى على تجريب التجريب، على المضي بعيداً فيه، على تبديل أسباب نشوئه أو علامات ظهوره وتحققِه.
فمنذ نهايات القرن التاسع عشر - على ما درست في أحد كتبي - دخل العمل التشكيلي في دورة تداولٍ انطلقت منه ولكنها تعدته. بل توصلت هذه الدورة إلى إخفاء حاذق لما هي عليه واقعاً: إخفاء التنافس المالي الشديد الذي بات يسم العمل التشكيلي، ويجعل منه علامة مكفولة القيمة في التبادلات الاجتماعية، ولأول مرة بهذا الحجم والقوة. وهي عملية تاريخية متعددة الأوجه، اقتضت كذلك أو فتحت أبواب التنافس بين الفنانين على أوسع نطاق، ما اتخذ من تميز الأسلوب أو "الماركة" عند كل فنان علامته البينة.
في مثل هذا المسار وَجُب البحث عن أسباب التجريب التشكيلي في صيغه المختلفة، كما وَجُب البحث فيه عن أسباب العلاقات الجديدة بين الفعل المادي والنظر الفكري في صياغة العمل التشكيلي. ذلك أن دارس تاريخ هذه التجريبات التشكيلية المختلفة سيلاحظ تعويل العمل التشكيلي في صورة متزايدة، بل متفاقمة، على النظر الفلسفي، وقبل النظر البصري الصرف، لتعيين الفن. وهو ما أختصره في قول سريع: لم يعد الفن ممكناً من دون تجريب متماد، أي من دون تمايز جلي بين أعمال الفنانين؛ ولم يعد التجريب ممكناً من دون تجديد أسباب قيامه في الفكر، وقبل التبدلات العملانية في إنتاجه.

امتحانات التجريب
قال بيكاسو: (Je ne cherche pas, mais je trouve )، ما معناه: أنا لا أبحث عن شيء بعينه على أنه مخبوء، بل أجد ما أحتفظ به بعد أن أتوصل إليه أثناء العمل نفسه. الفن قيد الإتيان. الفن قائم في ما يجري، في ما يتحصل منه بالخروج على عاداته المتبعة. الفن هو الإبحار عكس التيار، والمشي في الاتجاه المعاكس، وهو القراءة بالمقلوب أو بالطول، وغيرها من الصيغ التي تطلب الفن في سلوكات ومعالجات تخالف الجاري من الاعتيادات والإجرائيات.
هكذا بات تاريخُ الفن المعاصر تاريخَ تجريباته في الغالب؛ وهو ما تعين في المخالفة، والممانعة، والمباغتة، والصدمة وغيرها. إلا أن هذا التاريخ عنى كذلك وجود وجه مخفي في التجريب، وهو التحاق فنانين به، من دون أن يكونوا منتجين له، بل مقلدين وحسب. وهذا يصح في تجارب عديدين من هذا البلد المتوسطي أو ذاك ممن يتبعون "الموضة " حيث تنطلق. واللافت في هذه التجارب الاتباعية هو أنها تطيح بما هو أساس في أي تجريب، أي التجربة نفسها. وهذا وجه من وجوه المثاقفة التبعية، الاستعمالية والاستهلاكية في آن. وهو أمر شديد الحدوث، في صورة متزايدة، بعد أن اتسع نطاق التداول في العالم وزادت سرعة الاتصالات والتأثرات فيه.
إلا أن ما استوقفني في متابعة الأعمال التجريبية تحدد في جملة من النقاط. أولها وأهمها هو اتساع بل بلبلة الحدود بين العمل التشكيلي من جهة، وغيره من الأعمال البصرية، من جهة ثانية. وهو ما أجمله في مجموعة من الأسئلة: ما الذي سمح بإدراج فيلم سينمائي (مثل فيلم الفلسطيني رشيد مشعراوي، الذي فاز بإحدى جوائز البينالي، وفيلم الفرنسي تيرريه-هيرمان) في بينالي تشكيلية؟ ألم يكن بإمكان هذا الفيلم أو ذاك المشاركة في مسابقة سينمائية؟ وماذا عن استعمالات الصورة الفوتوغرافية في هذه البينالي: أما كان لها أن تندرج في مهرجان آرل، على سبيل المثال، أو في شهر التصوير الفوتوغرافي الدولي والسنوي في باريس؟ وماذا عن مجموعة متنوعة من أعمال "الأداء الجسدي" (performance )، التي تقترب من العمل المسرحي أو الإيمائي؟
نقطة ثانية في هذا النقاش، وهي الصلة بين الفلسفي والبصري: استوقفتني في عدد من الأعمال هذه الصلة الجديدة، بل المسبقة المطلوبة للعمل التشكيلي، والتي لا يعدو العمل فيها أن يكون صوة منفذة عن توصل فكري-بصري سابق: عمل لا يتغير بين بلورته وأثناء عمله. وهو في ذلك أشبه بالعمل الزخرفي الذي يصدر عن صيغة مسبقة لا يعدو العمل أن يكون سوى تنفيذ لها وحسب. وهو ما أوقع العمل التشكيلي في »الذُّهانية«، أي مرض الذهنية. وهذا ما يقطع مع تقليدَين في الفن: العمل اليدوي والمادي (وهو مصدر " "poiësis منذ التفلسف الإغريقي)، من جهة، وصدور العمل وطلبُه للانفعال، من جهة ثانية.
نقطة ثالثة في هذا النقاش، وهي أن الأعمال التجريبية تسلك سلوكات متضاربة تجاه الفنان في العمل الفني: فهناك أعمال تخفي الفنان من معالمها الصريحة، وهي أقرب في ذلك إلى الزخرفة من ناحية كونها "غُفْلية" (anonymes ) الطابع؛ وهناك أعمال أخرى (تشدد ورقة العمل المرفقة بالندوة عليها كثيراً) تقوم على توريط الفنان في العمل الفني (هذا ما قام به الفنان محمد كاظم، الذي فاز بإحدى جوائز البينالي) إذ يحضر الفنان في الفيلم، وإن لا يبلغ في تورطه ما بلغته تجربة الفرنسية صوفي كال (Sophie Calle ) في تمثيلها لأناها، حيث أنها تعرض بالصورة خشبة لحركتها، وتجعل من العمل الفني سريراً بالمعنى المادي والمجازي في آن.
لهذا يمكن القول إن تجارب التجريب وامتحاناته التشكيلية قد تطيح في بعضها أسساً مفهومية عديدة، سواء في التجربة نفسها (فبعض أعمالها ليست امتحاناً في الحياة)، أو في إجرائيات التجريب (فبعض أعمالها صيغ منجزة قبل القيام بها)، أو في السند الجمالي المطلوب من التجريب، وهو أن الفن "عمل موقعي"، أو "مناورة حية"، كما أقول في ورقتي هذه.
فهناك في التجارب التجريبية ما يبطل الأساس المفهومي والاختباري لـ"التجربة" و"التجريب"، إذ يتحولان إلى حرفة متجددة، مقطوعة عما يؤسسها في قلق الوجود والفكر المخصوصين. ذلك أن ممارسة الفن، كعمل موقعي، هي أشبه بـ»مناورة حية« (على ما أقول)، فيها كل ما يذكر بالمعركة الفعلية على أنها تمثيل لها (من استعدادات وخطط وتورط وحركات مختلفة للإيقاع بما هو ماثل للعيان). وفي الفن كمناورة تجتمع الخطة بالصدفة، والتصميم باللهو، والذهني بالمتخيل، والفردي المحض بما يتعداه ويشمله مع غيره.
ولقد استعرت لهذا الغرض استعارة عسكرية الطابع، عملاً باستعارات عسكرية سابقة رائجة في اصطلاحات الحداثة الشعرية والتشكيلية، مثل "الطليعة" و"الريادة"، و"التفجير"، أو في مصطلحات الندوة الحالية، في حديثها عن "التجاوز" و"الاختراق". فالفن، على ما أتحقق، "عمل موقعي"، لا يكتفي فيه الفنان بممارسة أو صنع مخصوصين، وإنما ينخرط في صورة مزيدة في ما بدأ في التجربة الرومنسية، من بروز لأنا الفنان في العمل الفني، وانتهى إلى أن يصبح العمل الفني كناية عن الفنان نفسه. ذلك أن ما يميز الكثير من نماذج التجريب التشكيلي الحالية هو هذا التورط الشديد والمعلن والمطلوب لجسد الفنان في عمله، ولكيانه خصوصاً بالمعنى الوجودي.
الفن يبتعد أكثر فأكثر عن الصيغ المسبقة والمنمطة، وما يُخشى منه هو الوقوع من جديد في صيغ تجريبية مسبقة ومنمطة كذلك. إلى هذا، فإن الفن يجعل من الفنان كناية عنه، وما يُخشى منه هو الخلط المتعمد بين تعبير الأنا الموقعي وبين جعلها العمل الفني دعاية لها، لـ»ماركتها« التي باتت "مسجلة": هذا ما سبق إليه مارسيل دوشان غيره من الفنانين، حيث بات تملكُه الرمزي لشيء تحويلاً تشكيلياً، بل سحرياً له؛ وهو ما يميز أعمال وارول أو بورين أو كريستو، حيث يقوم الفن بالترويج للفنان، لاسمه، ويتحول خطاب الفن إلى دعاية له ليس إلا.

(سوسة، 27 و28 تشرين الثاني-نوفمير، 2004)