العين، الفن والفضاء

 

يرد في رواية لجون شتاينبك خبر عن صيني في إحدى المدن الأميركية، مجهول في ما هو عليه، بل غامض بالأحرى في ما يفعله، ولا سيما في صيده اليومي لكميات كبيرة من السمك. هذا ما يدعو أحد الأطفال إلى تعقبه ذات صباح، فيحدث للصبي أن يراه في صورة مختلفة، بل يتحول الصيني إلى عين كبيرة لها حجمه الطبيعي، وفيها أمور ساحرة وغريبة ما يسحر الصبي ويرعبه في آن. وهو ما زاد من قناعة أهل المدينة بأن هذا الصيني هو أكثر غموضاً، بل قيمة مما يظنون، وأنه قد يكون كناية عن الله أو عن الضمير، لس إلا. كيف يحدث أن العين باتت دلالة على الغريب والجميل والمروع، بل على الله وعلى أخص ما يميز الإنسان، وهو ضميره؟
وهو سؤال عن العين يمكن نقله، والتحقق منه في غير لغة، في غير ثقافة، في غير خطاب. ألنا أن نتجول في عين الصيني؟ ماذا يمكن لنا أن نرى؟ كيف لإنسان أن يُختصر بعين؟ ما تحتويه العين لو جرى تقليبها مثل تاريخ مطوي الصفحات؟ ماذا لو جرى التأمل في محفوظات العين على أنها موجوداتها؟ وماذا لو يتم التعامل مع الخطابات عن العين مثل مدونة تخفي أكثر مما تظهر؟
فما يخفى علينا، أو ما لا ننتبه إليه أحياناً هو أن العين، بعد اليد، ومعها، باتت الأساس في غالب ما نفعله وننتجه ونفكر فيه في تموقعنا إزاء الفضاء. وما نغفل عنه أيضاً أن العين هي أكثر من أداة للرؤية، للكتابة، للتقويم، إذ هي حاصل جمعي وفردي عما نختزنه، بل هي أكبر من مكتبة ومن متحف: العين وديعة قيد العمل، وإنتاج قيد التجدد، وحساسية قيد التجربة. وما يغيب عنا أحياناً هو أن اللوحة كما الكتاب حاصلُ العين وأفعالُها، على أن اليد، أو الحاسوب، أداة لإملاءات العين.
لهذا طلبت في هذا القول الافتتاحي السَّفرَ في مدونة للعين، في عدد من نصوصها، في عدد من رؤاها، في ما انبنت عليه، ولا سيما في تعريفها للفن، وفي ما أنشأته العين من علاقة بين ما تراه وتحفظه، بين ما تراه وترسمه، ما أجمعه في هذا السؤال: أللفن علاقة لازمة بالعين، وبأي عين؟ وما صلة العين بالفضاء عبر الفن؟

أطلب، في وقفة أولى، الوقوف عند كتاب «المتحف الخيالي» لاندريه مالرو. وهو كتاب-معلم، ليس في فرنسا وحسب وإنما في خارجها أيضاً، إذ أنه ينقل درسَ المتحف من طريقة الدارسين السابقين إلى معاينة جديدة له، مختلفة.
يتحقق مالرو، في وجه أول جلي، من تغير وظيفة المتحف نفسها، مع انتشار آلات التصوير الفوتوغرافي والاستنساخ، إذ بات كل فرد قادراً على »تملك« بعض مقتنيات المتحف ومحفوظاته ونقلها معه حيثما كان: هذه الفكرة خلاقة، إذ تحققَ مالرو منذ نهابة أربعينات القرن الماضي، قبل اكتشاف الحاسوب نفسه والفيديو وغيرهما، من حقيقة النقلات التكنولوجية التي تصيب الصورة عموماً، والتي بلغت اليوم حدوداً ما كان لمالرو أن يتخيلها، وهي توافرُ متحف اللوفر، على سبيل المثال، بهيئته ومحتوياته، حيثما كان ولأي كان.
يتحقق مالرو، في وجه ثان وإن أقل استقصاء من الوجه السابق، من أن المتحف حوَّل الفن بل أشياء ومصنوعات عديدة، بحيث صنعها مرة ثانية، وحوَّلها عن طبيعتها الأولى: فما كان صورةً دينية بات لوحة، وما كان جزءاً من صورة بات صورة في حد ذاتها، ما فتح السؤال الجذري حول دور المتحف في الفن، وهو السؤال المطروح بشدة في العقدين الأخيرين: من يصنع الفن؟ أهو الفنان أم المتحف؟
ولكن ما يعنيني من هذا الكتاب يتعدى هذين الوجهين ليطاول مسألة تعريف الفن نفسه، ما أدرجه في سؤال بسيط: ما الفن؟ وهو سؤال عن العين واقعاً، أي السؤال: ما الذي اختارته العين على أنه الفن؟ ذلك أن كتاب مالرو يقيم نقداً ضمنياً للعين التصنيفية في التصوير، في ما تختاره وتنتهي إلى التعامل معه، وإلى تكريسه. ولهذه العين التصنيفية ملامح تاريخية في قولها الضمني بأن العين باتت تعامل المسيح المصلوب مثل منحوتة، وغيرها من التماثيل الاعتقادية مثل أعمال فنية شبيهة بأعمال المحترفات التشكيلية.
في مسعى مالرو تناولات نقدية، إذن، إلا أنها لا تبلغ حدود نقد ممارستها نفسها. فما يتعرض له جزئياً، أو في التفاتات سريعة، يمكن القيام به لنقد مسعاه نفسه. فما قام به مالرو في كتابه لا يعدو كونه »المتحف الخيالي« لعين مالرو نفسها، قبل أن يكون متحف الفن العالمي الخيالي. وما يغيب عن عين مالرو هو أنها بدورها عين تصنيفية ذات ملامح تاريخية: ان تفقداً سريعاً، ولكن كافياً، للإنتاجات التي يدرسها مالرو في كتابه الغزير مادةً وصورةً، يفيد أنه توقف واقعاً عند نوع بعينه من التصوير، هو الفن التشبيهي (figuratif )، سواء في الفن الأوروبي أو في غيره، بدليل عدم ذكره للفنانين التجريديين عموماً. وهو ما يفسر، في تناول آخر لهذا الكتاب، تجنبَه لدرس الفن الإسلامي، فيما خلا ذكر طفيف للسجاد منه تحديداً؛ وهو ما يفسر، في الوقت عينه، انكبابه الشديد على فنون أخرى، قديمة، فرعونية أو آسيوية، جعلت من الشبيه، من النظير، أساساً لفنها.
فما يسميه بـ»الفن« جزء من الفن ليس إلا؛ ويكون النقد في ذلك قد أقام أدوات تمييز للفن على أنها أدوات درسه. والفن في ذلك هو فن اللوحة تحديداً، أو الفن القريب منها في طريقته التصويرية، واضعاً سلفاً غيرها خارج الدرس، خارج الفن. هذا ما يدل على أن علاقة العين بالفن مدعاة لتبصر، لمراجعة، لتحقق طالما أن مباشرة العين لما تراه لا تنطلق فيه من تناول بريء، أو بديهي، وإنما تاريخي وتصنيفي بالضرورة.

أطلب وقفة ثانية في هذا العرض التحليلي ابتداءً من كتاب مارلو-بونتي «العين والروح»، وهو كتابه الأخير على ما هو معروف. يستعرض مرلو-بونتي في مقارنة، وإن سريعة، وضعيات العلم والموسيقى والأدب والتصوير والحفر الفني إزاء العالم، ويخلص منها إلى تمييز الفن، التشكيلي ضمناً، وإلى تمييز التصوير حصراً، من دون غيره من فنون التشكيل. إذ أن الفن، أي التصوير، «سيد من دون منازع في تحريكه للعالم»، من دون تقنية، غير العينين (بخلاف العلم، ولا سيما في جانبه الإجرائي)، وغير اليدين، معتمداً وحسب على إفراطه في ما يرى، وفي ما يصور، نَزّاعاً في ذلك «إلى استخراج (ما يشاء) من هذا العالم». هذا ما يقوى عليه الفن التصويري وحده، أي أنه يتنطح لهذه المهمة الجسيمة من دون غيره. وهو يقرن الرؤية بالحركة وحدها، والرؤيةَ بما يشاهده وحسب؛ بل يجعل للفن - كما في اللوحة التشبيهية - «وجهاً وظهراً».
يقوم نص مرلو-بونتي على مضمرات وضمنيات عديدة، ليس أقلها التعويل الفعلي عما جرى خارج النص ويثبته النص بعد حصوله خارجه واقعاً، ويجد أن له عمقاً ماورائياً يسنده ويبنبه، فيما تتأتى بطانته من خارجه، من تداولات المجتمع نفسها. فالفن عنده يصبح التشكيل حصراً، والتشكيلُ التصويرَ تحديداً (والرسم والحفر الفني أحياناً). بل يبلغ الأمر حدود التماهي الشديد بين الفن والتصوير، بل بين التصوير وتصوير بعينه، إذ يصبح التصوير والرسم، كما يقول مرلو-بونتي، «داخل الخارج وخارج الداخل». هكذا يكون للتصوير طبيعة أنطولوجية، لا اعتباطية أو اتفاقية، ولا محصورة بسياسات واستهدافات ثقافية وجمالية.
هكذا يذكر بول كلي أو روبير ديلوني أو السورياليين، ممن خالفوا اللوحة الأوروبية التشبيهية المنزع، إلا أنه لا يتناول التجريد في صورة مباشرة، ولا مسألة الرؤية فيه التي تخالف صراحة ما يذهب إليه من قول، من اندماج للعين في المرئي. يقول مرلو-بونتي: »ماهية ووجود، خيالي وواقعي، مرئي وغير مرئي، التصوير يخلط تصنيفاتنا كلها، ناشراً عالمه الحلمي الذي (يتكون) من ماهيات لحمية، من تشابهات فعالة عن تعبيرات صامتة«: هكذا لا يفارق التعيينُ الأساسَ التشبيهي للتصوير، وهو مبدأ المحاكاة، وإن في صور معدلة، أو وفق حرية في تناول العين لموضوعاتها.
إلا أنه يتحدث عن أشباه الصورة، مثل الأيقونة، والصورة الشبحية، والصورة العقلية والظـل وغيرها مما يبعد التصوير عن التطابق، ومما يجعل من كل نظرية عن التصوير نظرية ماورائية بالضرورة.
ولكن ما كان بديهياً لديكارت ليس لغيره، ولا سيما بعده، وهو أننا لا نصور إلا أشياء موجودة، وأن وجودها يتعين في انبساطها، وهو ما يجعلها قابلة لأن تكون ممثلة في لوحة. وهو ما يوضحه مرلو-بونتي في صورة أقوى معولاً على قول شهير لجياكوميتي: «ما يعنيني في الصور كلها هو التشابه، أي ما هو في حسابي التشابه: أي ما يجعلني أكتشف العالم في صورة مزيدة».
ولا يبتعد مرلو-بونتي في ذلك عن اعتبار التشكيل مصدراً لمعاينة ما، لمعرفة ما، تختلف - بعد أن ابتدأت - عما كانت عليه مع اكتشاف المنظور، ولكن من دون أن تنفصل عنه معرفياً على الأقل. فالفيلسوف لا يلبث، في معرض درسه لتجارب لاحقة في التشكيل، ولا سيما مع فناني العقود الأولى في القرن العشرين الذين رافقهم وعرفهم، أن يتحدث عن العمق، أي عن صيغة منقحة للمنظور. فلا يعود العالم، أو الفضاء، إزاء الفنان، أو قبالته، فهو يقول: «بات العالم حولي (الفنان)، لا أمامي». وهو يستعيد في ذلك وقفة الفنان أمام اللوحة المسندية، التي تقف بدورها إزاء المنظر أو الوجه الذي تصوره؛ وإنما يصبح العالم أو الفضاء محيطاً للفنان، بل مخترقاً له، عبر تداخلات العين بما تراه، وما تراه بعينها كذلك. فهو لا يكتفي بصورة واحدة للفن، ولا بوقفة واحدة للفنان، إزاء الموضوع الفني، إلا أن ما يلاحظه - وهو ما يتخذ عنده شكل الحديث عن اللون، أو عن الضوء - يبقى موصولاً بمعرفةٍ ما يجلبها الفن، وبمرجعية فائقة للفن، تجعله أشبه بأصل أنطولوجي آخر للإنسان. وهو ما أسميته في كتاب لي بـ«العوض عن الوجود»: أصلٌ لا ينقل الوجود، وإنما ينقل الإحساس به، أي التقاطه بالمعنى الحسي - الذي هو التقاط معرفي في حساب الرؤية «الظاهراتية» للفن ولغيره من الموجودات. يقول مرلو-بونتي: «انه المقصود ببعد اللون، (وهو البعد) الذي يخلق بنفسه ولنفسه هويات، واختلافات، ونسيجاً (أو قماشة)، ومادية ما، وشيئاً ما»: اللوحة، إذن، عوضُ الشيء، والفن عوضُ الوجود. هكذا يبقى اللون، خاصة بعد تفكك مسألة الشبه أو المحاكاة نفسها، وقد أصبح الفن، حسب مرلو-بونتي، ونقلاً عن بول كلي، لا «يحاكي المرئي»، بل هو القادر «على الإراءة».
لا يعود التصوير محاكاة، وفقاً للمبدأ الأرسطي الشهير، والذي أخذ به الكثير من الفلاسفة، انطلاقاً من مفهوم المادة-الشكل، وإنما تصبح اللوحة نفسها ذات مادية كافية ومستكفية، إذا جاز القول. باتت اللوحة تكتفي بماديتها التي يحدثها اللون نفسه، على أن اللوحة لم تنقطع في فلسفتها الجمالية عن العين البصرية، إذا جاز القول. هكذا سقط الشبه، كما سقط البعد المنظوري وبات ممكناً بسطُ اللوحة فوق قماشة أو ورقة ذات بعدين. هكذا دخل الفن التجريدي، إذا جاز القول، إلى تعريفات الفن من باب ضيق، موارب، لا من الباب العريض، ولا في صورة صريحة. كيف لا، ومرلو-بونتي يشدد في ختام كتابه على أن «التصوير، حتى التجريدي منه، لا يقوى على إغفال (مسألة) الكائن». طبعاً، ولكن كيف؟

يشدد مرلو-بونتي في ختام كتابه على أن فكرة وجود «تصوير عالمي» لا «يستقيم لها معنى»؛ وهو ما يتبعه بقول آخر بأن «التصوير لا ينهي (أو لا يجهز) على التصوير»، فضلاً عن إقراره بعدم وجود تراتبية بين الحضارات. أيُفهم من القول هذا أنه عاين واقعاً التصوير الغربي، بل قسماً منه وحسب، وأغفل عمداً غيره؟ ماذا لو أحيد بنظري إلى جهة أخرى، إلى »العين« في ألفاظها ودلالاتها العربية؟
العين، في العربية، تفيد غير معنى وتتوسع في غير دلالة، إلا أنني أكتفي بعدد منها، ما يوافق مطلوبي في هذا العرض، في هذه المعاينة (وهي من اشتقاقات «عين»): كيف لا وهي تتوزع - لو طلبت الاختصار - بين أداة البصر، ومصدر الماء، والحرف اللغوي (الحرف المجهور، الذي وجد فيه الفراهيدي ضالته، لكي يبدأ به قاموسه الشهير، «كتاب العين»).
للعين، بدايةً، وظائف يصرية متعددة، إذ أنها «حاسة البصر والرؤية»، و«تكون للإنسان وغيره من الحيوان»، فيما يقصر «لسان العرب» (مادة ع ي ن) معانيها ودلالاتها على الإنسان وحده. هكذا يغلب على هذه المادة اللغوية المعاني والدلالات المتصلة بالبصر، ومنها »المعاينة» بمشتقاتها كلها. وتتفرع من هذه المعاني معان أخرى، مثل: «ذو العين»، وهو «الذي يُبعث ليتجسس الخبر»؛ و«العين» وهي إصابة الإنسان بسوء؛ كما قيل إن العين هي الشمس نفسها. وهو ما يبلغ ألفاظاً مشتقة شديدة التنوع في دلالاتها، مثل: «الاعتيان»، وهو الارتياد؛ و«المُعتان» وهو الذي «يبعثه القوم رائداً»، أي للإتيان بالخبر؛ و«هو ثوب عِينةٍ»، إذا كان «حسناً في مرآى العين».
إلا أن ما يستوقف في معاني «العين» ودلالاتها، هو خلوصها أو تعاليها إلى معان ودلالات مجردة عن الحسية تماماً، من دون أن تقطع صلاتها بالمحسوس، مثل قول العرب بأن العين هي «حقيقة الشيء»، كأن يُقال: «جاء بالأمر من عين صافية، أي من فصه وحقيقته»، و«جاء بالحق عينه، أي خالصاً واضحاً». وهو ما يبلغ حدود التعيين الماهوي: «عينُ الشيء: نفسُه وشخصه وأصله»، و«عين كل شيء: نفسُه وحاضره وشاهده». أتحقق من هذا الجمع بين الحسي والعقلي في أفعال أخرى، مرادفة أو قريبة من العين، وهي أفعال: أبصر، رأى وغيرها؛ إذ أنها بدورها تجمع بين حاسة البصر والعمل العقلي على الأشياء، ما له تأثيرات لاحقة ومتوسعة في مسائل الفلسفة والاجتهاد والماوراء، والفن بالتالي.
ماذا لو أنتقل إلى اللفظ عينه، «رأى»، وغيره كما ذكرت، مثل: أبصر، ونظر وغيرها؟ ماذا لو أنتقل إلى نص، أو «موقف» من «مواقف» النفري، وهو «موقف الحجاب». أسوق المقطع الأول وحسب من هذا الموقف: «أوقفني في الحجاب فرأيته قد احتجب عن طائفة بنفسه واحتجب عن طائفة بخلقه، وقال لي ما بقي حجاب، فرأيتُ العيون كلها تنظر إلى وجهه شاخصة فتراه في كل شيء احتجب به وإذا أطرقت رأته فيها». أتحقق من مراجعة سريعة لهذا المقطع من أن »رأى» يعني الرؤية الباطنية، لا الخارجية. بل أتحقق من أكثر من ذلك وهو أن مبدأ التنزيه الإسلامي (أي عدم إمكان رؤية الله الحسية) مُحافظ عليه، فالحجاب يسقط، على ما يقول النص الصوفي، إلا أن رؤية الله لا تتم إلا »إذا أطرقت« النفوس إلى داخلها.
ماذا لو أنتقل إلى مزوقات (منمنمات) إسلامية معروفة، عند الواسطي أو غيره: قيل الكثير في هذه الصور، ومنه أنها تبتعد عن التجسيم، عن إقامة المنظور، فترد مبسوطة ومسطحة ببعدين وغيرها من الأمور الوصفية التي تتأتى، في حسابي، من رؤية غير مناسبة لهذه الصور الكتابية أساساً. لم يكن الواسطي، ولا غيره من المزوقين المصورين، معنياً بإنتاج صورة ذات إقناع بصري، فيزيائي، فما كان يطلبه - على ما أقترح - يتمثل في عرض واف وصحيح - لا مضلِّل - لما سيراه المشاهد، وبما يفيد عما يقرأ في الكتاب عينه. هكذا نجد في المزوقة أحياناً ما لا تراه العين الوجاهية، بل العين العقلية، إذا جاز القول: فوفق العين الفيزيائية - لو عدت إلى إحدى مزوقات الواسطي لمقامات الحريري - لن يرى المشاهد مجذاف المركب، الذي يقع في جهة خافية على الرؤية، فيما العين العقلية - وهي عين المزوق، قبل عين المشاهد - ترى المجذاف حكماً، ووجب رسمُه بالتالي وإظهارُه للعين. هكذا يتم في المزوقة عرض ما لا يُرى بصرياً بالضرورة في الفضاء، على أنه من حقيقة المشهد الخالصة. بهذا المعنى تحدثتُ عن وجوب استيفاء الصورة لعناصر وكلية ما تعرضه، وعن وجوب صحة رسمها كذلك. وهو ما يمكن التأكد منه بالعودة إلى مزوقات عديدة، للواسطي ولغيره، وتظهر هذا التعيين العقلي للعين في ما تطلبه من المشهد وترسمه منه.
هنا العين ترى، أي تنفذ تصويرياً ما لا تراه بصرياً. وهذه العين إذ ترى بصرياً تكتب، وتصور كما لو أنها تدون. في حال المتصوف، يمكن الحديث عن وجوب رؤية على أنها رؤية عرفانية؛ وفي حال المزوق، يمكن الحديث عن وجوب رؤية أخرى، على أنها برهانية: رؤيتان، إذن، تتجنبان الخداع والأضاليل الناتجة عن الرؤية البصرية، ما جعل الغزالي، على سبيل المثال، يضع هذه في أدنى مراتب المعرفة.
هناك عين كتابية تصور ما لا تراه بالضرورة، وإنما ما تعرفه في صورة لازمة. وهناك عين كلامية (من علم الكلام) تأتي من الماوراء بما لا يعرفه غيرُها، بما لا يصل إليه غيرُها، بما تصل إليه وتبلغه انطلاقاً من مكان »الكشف«. وهما عينان تتوليان بالتالي فضاء الدنيا والآخرة، لو جاز الاختصار.
***

تقول العبارة الانكليزية الشهيرة (What you see is what you see ): «ما تراه هو ما تراه»؛ ليس إلا، لو طلبتُ الزيادة في الإيضاح. وفي هذا القول بداهة غير بديهية، لو طلبتُ المناكفة، بل المناقشة واقعاً. فما يفيده القول يتعين في أن العلاقة بين العين واللوحة (أو العمل الفني عموماً) علاقة مبدوءة لحظةَ قيامها، بما يشتمل عليه ظاهر اللوحة نفسها من علامات وغيرها. اللوحة، إذن، قائمة بنفسها، من دون تعال أو تميز أو سياقات توجبها أو تشير إليها. لوحة مثل معطى بدئي، ظاهرٌ كفاية بما لا يقبل أية إحالة: انها »لحظوية العين«، كما أُطلق عليها.
هذا ما تحققت من حدوثه في كتابات كما في لوحات فرنسية وغيرها، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، إذ باتت اللوحة تطلب في بنائها، في نظم علاماتها وأشكالها، ما تقوم عليه اللقطة المسرحية نفسها: اجتماع الحركة في وسط الخشبة، وفي وسط اللوحة كذلك، بحيث تنعقد العيون كما الحركات حول نقطة في الوسط، هي عينها نقطة الوسط في خط الأفق، كما يقال في بناء اللوحة الكلاسيكية. انها لحظوية ذات سند مشهدي، يتصل بفنون مختلفة، لا بالكتاب وحده، أو بالهيئة البشرية، مثلما كان عليه التصوير الكلاسيكي.
هذه اللحظوية التي للعين لن تفارق التصوير، كما المشهدية عموماً، وهي في أساس ما طلبته ممارسات تصويرية غربية، سواء تشبيهية أو تجريدية. وهو ما يتمثل في الغالب في أننا لا نقوى على رؤية اللوحة، حتى التجريدية، إلا وفق نقطة الوسط هذه، إلا في أحوال قليلة يصح فيها رؤية اللوحة التجريدية في كل اتجاه، أي حتى بالمقلوب.
هذه اللحظوية تلبي احتياجات جديدة، إذن، هي للقاعد في جلسته المسرحية، أو للمتنزه المتنقل بين جدران صالة متحفية، وتبتعد في ذلك من دون أن تنقطع عما كان عليه بناء اللوحة أو المنحوتة الكلاسيكيتين، أي قيامهما على رؤية بصرية، فيزيائية وعقلية، في آن. فقد كان التصوير، في «عصر النهضة»، أداة إدراكية تتعامل مع عجائن اللون كما مع مواد الجسم، مع مواضع سقوط الضوء كما مع دقة رسم ثنيات الستائر في صالون، في كيفيات تفيد عن معرفته؛ وقد كان من لزوم معرفته هذه الانتباهُ أيضاً إلى الالتقاط الضوئي والحركي للمشهد أو للوجه. هكذا أدت هذه الرؤية إلى التقاط الحركة، والظلال، والثنيات، مثل صفحة متموجة من السطور. والعائد إلى أخبار فناني «النهضة» الإيطاليين يتيقن من كون النحات أدرك البناء العضلي في الساعد أو الساق وصورَه بشكل دقيق طبقاً للقول المأثور بأن «التصوير مسألة عقلية» (causa mentale )، من دون شك.
«لحطوية» العين، التي أتحدث عنها، تقع في هذا المسار وتنفصل عنه، إذ هي تبتعد عن التقديم البصري والعقلي للشيء، وتولي الأهمية الأولى في عملها الفني لتوليد اللحظة الجمالية. والفن الانطباعي لن يفهم الفهم المناسب من دون الأخذ بعين الاعتبار باللحظوية الانفعالية، أي الجمالية، التي للعين في تلقيها، سواء من جهة الفنان أم من جهة الناظر إلى اللوحة.
هذه اللحظوية يُعَيِّنها الفنان، إلا أنها مطلوبة من المتفرج، من المتلقي، من الناظر، إلى اللوحة، إلى الأوبرا، إلى العمل المسرحي، وإلى الكثير من العروض المشهدية: لحظوية كثيفة لعينٍ جمعتْ الكثير من المعطيات والمدركات والأحاسيس، وركزتها في نظرة على أنها خلاصة جمالية لتاريخ العين في الفن، ولتاريخ الفن في العين. وهو ما يفسر توسعَ التجارب الجمالية في العقود الأخيرة صوب أعمال تجريبية جديدة، تحيد عن اللوحة المسندية، إلا أنها تحتفظ بالأساس »اللحظوي« في الفن، بل تجعله متفاقماً في هذه الأعمال الفنية المستجدة.
هكذا يمكن الحديث، في أعمال المنشآت أو التنصيبات (installations )، عن إشغال للفضاء، شبيه بالإشغال المسرحي، عدا أنها أعمال تطلبُ اللعبَ، والتمثيل، وإشهار علامات وعلاقات دالة على الإنساني والاجتماعي. كما تقوم هذه التجريبات، ولا سيما في الأداء الجسدي (performance ) على استدعاء العين، على تنقلها في لحظوية ذات نسق سردي، مسرحي، منفصل ومتتابع.
***

لم يتأخر الفن البابلي والآشوري عن تمثيل العين في صورة وجاهية دائمة (ما أطلق عليه البعض تسمية «وضعية المواجهة») حتى في وضعية الإنسان الجانبية؛ كما وجدت التقاليد الآسيوية القديمة حاجة لتمثيل المعرفة العليا بعين ثالثة، هي عين «الشيفا»: ما يعني أن العين ترى دوماً، وفي صورة سليمة، حتى في أصعب الأوضاع. وهو ما يبلغ في الحضارة الفرعونية تعبيراً أعلى، إذ يتم فيها تمثيل «صانع السماء والأرض»، أي الإله، بالعين؛ كذلك فإن صيغ الفعل »صنع« تقوم في رسمها الهيروغليفي على رسم العين نفسها. وهل أتحدث، في هذا السياق، عن »الخمسة«، الشهيرة في المغرب العربي، أو عن »يد فاطمة«، التي ألخصها بأنها عين تراقب، وتحمل يداً تعاقب؟
هذا الإعلاء الشديد للعين بلغ أو عبر عن حاجات مختلفة لدى الإنسان، بين السحري والديني، بين العقلي والبصري، وبين النفعي والجمالي. وهو ما بلغ في تجارب أكثر من غيرها، وفي ممارسات فنية أكثر من غيرها، درجات عليا من طلب الفتنة الانفعالية. فمتابعة العين لتعبيرات وجه في لوحة وجهية هي غير الانفعال المطلوب الذي يدغدغ العين بألعاب اللون وحدها؛ كما ان مشاهدة مسرحية تستدعي من العين معاينة متأنية إلا أنها غير معاينة تشكيلات الجسد في عرض راقص... هذا يعني أنه بات للعين تاريخاً من الاستعمالات والاستجابات والاستثارات المركزة في لحظة عين، في وقفة تستجمع في انفعال يبدو تلقائياً ما كان قد استقر وجري تصنيفه وترتيبه في مخزون العين، التاريخي كما الجمالي. فالأكمه (أي المعدوم البصر)، على ما هو معروف في دراسات طبية واختبارية، إذ يستعيد البصر، قد يرى الحائط من دون أن يجنبه ذلك من الاصطدام به، وقد يرى أشخاصاً يعرفهم سابقاً، لكنه لا يتعرف إليهم إلا بعد سماع أصواتهم أو بعد ملامستهم، ما يعني أن للعين ذاكرة لازمة تباشر بها المرئيات، بما فيها مرئيات الفن البصري.
هكذا لا تكون العين ما نرى به بل ما نستقبل به؛ وهي ليست بدئية بل مسبوقة ومبنية تاريخياً وقيمياً. فالعين أبجديتنا عند قراءة أي لوحة، أي عمل فني؛ وهي ما نكتب به كتاباً، أو لوحة، أو مشهداً؛ وهي ما يرينا أنفسنا ويطل بنا كما النافذة إلى فضاء.
قال مونيه بأنه كان يتمنى لو أنه ولد أعمى على أن يستعيد فجأة بصره، لكي يقوى على التصوير من دون أن يعرف حقيقة الأشياء التي كان له أن يصورها: كان يريد الأشياء في شكلها، في علاماتها، من دون حمولاتها المحددة. يريدها لوناً وشكلاً، من دون شيء آخر، مثلما للعين البريئة أن تراها. ذلك أن مونيه يعرف بأنه لا توجد عين بريئة، بدئية، بل عين مسبوقة دوماً. عين مبرمجة، مثلما يمكن أن يقال بلغة الحاسوب الإلكترونية، اليوم.
يتحدث مونيه عن عين الفنان، ويمكن قول الشيء نفسه عن عين المتلقي. فهي عين «مبرمجة» بدورها، ولكن بسرعة أبطأ، إذا جاز القول. فما يراه الفنان على عجل، في اختصار، في طرق مرور سريع، قد يتطلب من المتلقي وقتاً أطول، وقد لا يحسن التعرف على الطرق المختصرة، أو قد لا يعرفها أساساً. ذلك أن العين ليست أداة النظر وحسب، بل تعين الجهاز الاجتماعي - وهو تاريخي بالضرورة - لهذا كما لذاك، الذي يتم به رؤية الأشياء، بما فيها أشياء الفن خصوصاً، كما تلقيها. وهو ما يقوله جاك لاكان بأن العين تساهم في خلق الذات الناظرة والمنظور إليها (la création du sujet ). ويمكن قوله في الفضاء نفسه، حيث أنه لا ينفصل عما تتلقاه العين، وعما تعرضه كذلك. فالفضاء يعين، فيما يعين، سياق الصدور والاستقبال للعمل الفني، بين إنتاج وتداول وتقويم، وبما يؤدي إلى إعادة صدوره واستقباله من جديد. هكذا لا تكون العين فردية إلا بمقادير اجتماعية واقعاً، أي تاريخية حكماً.
***

 

هذه العين متعبة في أيامنا، من فرطِ ما يعرض عليها ويثيرها. عين مثقلة لدرجة أن الإدهاش بات مطلوباً للفتِ نظرها، لصدمتها الجمالية. هذا ما أسميه بعهد الصورة المتفاقمة... وهو ما أجمعه في حديثي المتتابع عن «لحظوية» العين التي باتت تطلب من الفن (ومن صنوف الإعلان والإبلاغات التواصلية) رسالة مكثفة، بلمح البصر.
هذا الكلام مدعاة للتفكير، عند الفنان كما عند المتلقي، عند الناقد والدارس كما عند صانع الحياة الثقافية. مدعاة للتفكير في إرثنا الجمالي والبصري، كما في قيمنا وسبل عيشنا وتذوقنا الحالية. أنولي الصورة حقها أم لا تزال الحكاية - البنت الفقيرة والمتبقية من ثقافة نقلية - فاعلة في تحريك ثقافة الملايين في بلادنا؟ أتساءل ذلك أن من يتابع برامج التلفزبونات العربية ومسلسلاتها - وهو مثل ليس إلا - يمكن أن يغمض عيناه من دون أن يفوته شيء من السردية الصورية الماثلة له. يمكنني أن أسوق أمثلة عديدة عما أقوله، وتحتاج على أية حال إلي قراءة متأنية؛ أي إلي قراءة العين الاجتماعية في ما تتقبله من صور، وكيفية تقبلها له، والتحقق من السلوكات التي تصاحب ذلك. وهو ما أجمله في هذا السؤال: هل تماشي ذائقة الصورة في هذه البلاد لحظوية العين والفن بالتالي، التي أشرت إليها؟ أيستطيع الفن إيجاد قنوات له تعادي أو تتجنب أو تحور «اللحظوية» هذه، التي باتت في أساس تصورات الفن أينما كان؟
أثير أسئلة وحسب عن علاقات جديدة باتت حاصلة أو ممكنة بين العقلي والصوري، ذلك أن الصنع الفني قد يتبدل فيما لا تتبدل »لحظوية« العين. وهو ما يمكن تسميته بالمشهدية (أو الفرجة، إذا شئتم) أساساً للنظر التشكيلي. وهو ما ننتبه إليه لو راجعنا عدداً من الأعمال والسلوكات التي تستدعي النظر في عملها واستهدافاتها: هذا ما يصح في المسرحية، في الفيلم بأنواعه المختلفة، في أنواع العروض كلها من إيمائية وغنائية وراقصة وغيرها... وهذا ما يصح منذ عقود قليلة في أعمال تشكيلية باتت تطلب في صورة صريحة مشهدية (أو فرجة) ما في بنائها التشكيلي.
العين تتبدل، إلا أنها - وهذا ما عرفته في تاريخها الطويل - تغتسل فيما تنظر، وتتجدد فيما تقلِّب صورها المتداولة. ذلك أن العين هي طرفنا الأبعد، الرائد السابق لحركاتنا وأفعالنا، بما فيها الفن نفسه.
(ألقيت كمحاضرة في "بيت الحكمة"، بتونس، في 25 تشرين الثاني-نوفمبر 2005، كدرس افتتاحي لطلبة الدراسات العليا في "المعههد العالي للفنون الجميلة" في مدينة تونس، ثم نشرت في مجلة "نزوى"، مسقط، عدد 45، 2006).

مصادر :
- André Malraux : Le musée imaginaire, Gallimard, Paris, 1962.
- Merleau-Ponty : L'oeil et l'esprit, Gallimard, Paris, 1964.
- الشواهد تباعاً من كتاب مرلو-بونتي: (ص 15)، (ص 23)، (ص 35)، (ص 59)، (ص 67)، (ص 87).

- محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري: «كتاب المواقف، ويليه كتاب المخاطبات»، تحقيق: أرثر يوحنا أربري، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1934، نسخة عن الطبعة الأولى، مكتبة المثنى، بغداد، ص 76 .