الفن العربي بين المحترف والفضاء

 

درج الفنانون والنقاد، ممن يساهمون في عقد الندوات العربية وبلورة موضوعاتها، على اختيار موضوعات للندوات، لصيقة للغاية بهمومهم الداخلية، سواء أكانت تقع في صلب الممارسة الفنية أو في صلب قضاياها الفكرية والجمالية والفنية. وهم قلما يجنحون بالتالي صوب خيارات أخرى، مثل خيار وضعِ الفن في غيره، في أوسع منه، وهو العمران. وهو موضوع قلما اهتم به الفنانون والنقاد العرب، مع أنه يقع في صميم الفن على أنه واقع بدوره، حسب ابن خلدون، في "الاجتماع البشري". وإذا كان لي أن أختار دليل رحلة في هذه العجالة فلن أجد أفضل من ابن خلدون نفسه، الذي عالج بدوره بعض معالم هذا الموضوع، في سياقه القديم، وهو ما يتعين خصوصاً في تشديده على "العمران الحضري" وموجباته، وعلى "صناعة البناء"، ما سأعود إليه بعد قليل.

المدينة : بناء دفاعي
ينسب ابن خلدون بناء المدن والأمصار إلى عهد "متأخر"، أي لاحق على عهد البداوة، بل يجعل من بنائها سمة لدخولها وانتفاعها من "عوائد الترف والدعة". ولا يخفف من قوله حديثَه عن أن بناء المدن يلبي في وظائفه الإنسانية "الاعتصام" و"التحصن بجدرانها"، ما يعطي المدينة الإسلامية (وغيرها أيضاً) بناء منغلقاً على نفسها، عدا أنه يغلب الجانب الدفاعي على غيره فيها. وهو أول ما يلفت الانتباه في معاينة أحوال العمران الحضري العربي الحالي، أي ابتعاده عن بناء المدينة الخلدونية. فالمدينة العربية في بعضها جديدة، مغايرة لهذا النمط، وفي بعضها الآخر تذكر بالبناء الخلدوني، ولكن بعد أن تم تحويره وتغييره. والمراقب لأحوال المدن العربية القديمة منها، ولا سيما التي حافظت على مخططها التصميمي العام القديم (مثل فاس وغيرها)، يتحقق من أنها كانت تجتمع دفاعياً واجتماعياً على بنائها، "اعتصاماً" و"تحصناً"، من دون أن يعني هذا التكوم حول الداخل انتفاء الفن. فالفن، بصناعاته المتعددة من تصميم وزخرفة وغيرها، يتعين في جمالية الداخل، لا الظاهر ولا البارز. فسور المدينة مثل جدران المسكن يخفيان جمالات الداخل. وهو ما يجد دلالته وصورته الأجلى في "قصر الحمراء" الأندلسي، حيث أن واجهاته الخارجية لا تنبىء بما يحتويه هذا القصر من جمالات. والمتجول في المدينة الأخرى، أي قرطبة، يتحقق كذلك، بمجرد دخوله إلى البيوت من تمحور بنائها، وتركز جمالاتها في داخل البيت، لا في ظاهره.
إلا أن العمران الحضري العربي تبدل، انطلاقاً من العهد الاستعماري، ولم تدرس كفاية معالم التغير الذي أصاب هذا العمران في هذا العهد وبعده. والدارس لأحوال دخول أو حلول القوات الاستعمارية في بلادنا، أو في أحوال بنائها لبعض المدن (كما هي حال مدينة الجزائر، على سبيل المثال، مع فرنسا) ينتبه إلى أن السلطات الاستعمارية سعت، في أول ما سعت، إلى كسر مناعة "التحصن" هذا بأن أطاحت بـ"بوابات" المدينة القديمة، مما سهل عمليات الدخول إليها، ومنها عمليات المراقبة الأمنية-الاجتماعية الدائمة لها (وهي التفاتة نجد مثلها الآخر، في فرنسا، في تخطيط هوسمان لجادات باريس وشوارعها، بعد عامية باريس في العام 1840، إذ لبى هذا التخطيط إمكان التدخل الحاسم لقوات الأمن في جادات وشوارع عريضة لقمع أي شغب أو تمرد، بما يبطل إمكان التحصن فيها). بل يمكن الدارس الوقوف لدرس عينة لافتة في عمليات التغير الحضري هذه، وهو درس "الشرفة" (أو "البلكون") التي باتت لازمة في التصور الجديد (أي الاستعماري) لبناء بعض المسكن العربي. وهو تبديل لم يفز بمستحقات دوره كلها، إذ أن الساكن العربي قلما يعتاد، بل لم يعتد بعد على الجلوس في هذه الشرفات؛ وينتبه المراقب إلى أن أسراباً من السكان يختارون التنزه أو تمضية وقت الراحة في ساحات أو حدائق عامة، أو على جادة بحرية، أكثر من شرفاتهم نفسها.
تغير المشهد الحضري العربي في العهد الاستعماري، وهو لم يحظ بعد بدرس كاف ومستقص له، ذلك أن بناء المدينة عموماً، والبيت خصوصاً، تغير أو تحور، بما لا يناسب دوماً التعريف الاجتماعي للساكن نفسه، ولطلباته من السكن، لنفسه ومع غيره. بل يمكن أحياناً ملاحظة تفاوت أو تباين بين البناء (في المدينة، في الحي، في العمارة، في الشقة) وما يستوجبه من علاقات اجتماعية بين الأفراد، وبين ما هي عليه أحوال هؤلاء السكان من اعتقادات وسلوكات.
لهذا يمكن القول بأن مراقبة أحوال العمران الحضري العربي تحتاج إلى مقاربات ومعاينات مختلفة ومتعددة، منها ما يتوقف عند تاريخية بنائها، أو تغير أشكالها العمرانية، ومنها مراقبة المعالجات النحتية والجمالية، أو معاينة أحوال اجتماعية ونفسية في علاقات المبنى أو الشقة بساكنها أو سكانها، وغير ذلك من المعالجات التي لا تقتصر بالتالي على مقاربة فنية أو تشكيلية ضيقة لعلاقات الفن بالعمران.

تشويه الفضاء المديني
عقبة بن نافع رسم بعصاه (على ما تقول المرويات التاريخية) "خطة" القيروان، أي رسمها المعماري العام. هذا ما لا يقوى على فعله اليوم حتى الحكام، إلا في ما ندر، بدليل أن القرن العشرين شهد ولادة مدينتين في خرائط تصاميم المهندسين، وهما: شانديغار في الهند، وبرازيليا في البرازيل. وهذا ما نعرفه على نطاق محدود في نشأة "المدن الجديدة" (كما تسمى في الفرنسية)، وفي بعض مدن الخليج العربي.
فيما خلا ذلك، تتسع المدينة، تتوسع، تتضخم، تنقسم على نفسها، بدليل أننا بتنا نتكلم عن "المدن العملاقة" (مثل القاهرة تخصيصاً في البلدان العربية). ويمكن القول بالتالي إن المدن باتت سابقة في كل حال على أي »تدخل« فيها. ويصبح الحديث عن علاقة الفن بالمدينة غير ممكن إلا في إطار "التدخل" في بناء قائم، ما يعطيه صفة "التدخل الموضعي" بالتالي.
غير أن درس هذه العلاقة يستدعي، بداية، الوقوف عند شيء من تاريخية البناء في المدينة العربية، بعد اللحظة الإسلامية القديمة، ما ينقسم واقعاً في لحظتين: اللحظة الاستعمارية واللحظة الاستقلالية. فماذا عن اللحظة الأولى؟
لا يسعني في عجالتي هذه الوقوف عند هذه اللحظة، وهي متشعبة، عدا أنها - وهذا هو الأهم في هذا العرض التحليلي- قلبت المشهد العمراني في المدن العربية. فما يمكن التحقق منه هو أن المدينة العربية، كما نجدها في أوصاف وتعيينات ابن خلدون على سبيل المثال، أو في كلام عدد من الرحالة العرب والمسلمين القدامى، اختلفت وتبدلت، سواء في طبيعة مخططها التصميمي العام، أو في تصميمها الداخلي، أو في أنماط عمائرها، أو في مواد بنائها، ما يستدعي معالجات عديدة ومتشعبة، لها أن تتبين، على سبيل المثال، ما هو مخطط في صورة على قدر من التنسيق (كما في مدينة الجزائر)، أو في صورة غير نسقية، كما في مدن عربية أخرى. إلا أن ما يسم هذه التغيرات، أياً كانت، يبقى في أن المدن العربية أدرجت في شبكة تحتية من الطرق والمواصلات، ما جعلها تلتقي في طرق العالم، كما كانت عليه في نهايات القرن التاسع عشر. وهي تغيرات بلغت، على سبيل المثال، بمدينة مثل بيروت حدود المئة ألف نسمة وأزيد في العام 1910، بعد أن كانت تُعد في العام 1830 عشرة آلاف نسمة. وهو ما نعرفه في صورة أكبر مع الدار البيضاء التي لم تكن سوى مدينة صغيرة في مطالع القرن العشرين، مقتصرة على أكواخ بعض الصيادين، وباتت اليوم مدينة "متضخمة"، بل الأولى في المغرب.
للدارس أن يتوقف طويلاً أمام البناء الحضري العربي، ذلك أنه تبدل تبدلات عميقة، في مستوياته كلها. وما يغلب على هذا التغير أنه عرف، مع اللحظة الاستعمارية وخصوصاً في اللحظة الاستقلالية، نمواً كبيراً اندرج في النمو التلقائي، أي غير المخطط. وهو ما أوجبته قلة إدراك الحكومات، مركزية أو في بناها الإدارية المختلفة، في التخطيط المدني، فضلاً عن خضوع المدن العربية نفسها إلى إملاءات وإكراهات من الضغط السكاني، بإلحاحاته الاقتصادية المتتابعة والمستمرة. فإذا كان تخطيط بعض "المدن الجديدة"، كما في فرنسا، نشأ بناء لحاجات اقتصادية، قوامها طلب الحكومة المركزية أو المناطقية تحسين وتطوير جهة ما من بنائها الحضري (فتقدم على بناء "مدينة جديدة" في فضاء حضري فقير أو مهمش، فتنعشه بالمعنى الاقصادي قبل العمراني)، فإن المدن العربية، في العهد الاستقلالي وما بعده، رضخت لضغوطات، ولم تنجح الإدارات، لا في استباقها، ولا في "توجيهها"، أي معالجتها، ولا في تدارك نتائجها في الغالب. هكذا نشهد في السنوات الأخيرة تحسيناً وعناية في تخطيط وهيئة مدينة مثل الدار البيضاء، إلا أنه يبقى - على قيمته - مستلحقاً، ولا يشمل إجمالي المدينة، مع ضواحيها الفقيرة والمعدمة. وهو ما يمكن قوله في عمل السكان أنفسهم على أبنيتهم، وعلى خياراتهم فيها، حيث أتت "كارثية" في عدد من أوجهها، تفتقر إلى المعرفة والإدراك، اللذين لم تحسن حكومة أو جهة أو مجموعة من المجتمع الأهلي في تداركه: فقد جرى في لبنان، على سبيل المثال، وفي غيره أيضاً، ابتداء من الستينات، استبدال مواد البناء التقليدية بمواد جديدة (ما يسمى "الخفان" في لبنان، وهو حجر باطوني مصبوب ومفرغ في بعض جوانبه الداخلية)، وهو لا يناسب بحال المدن والقرى اللبنانية، ولا سيما الجبلية منها، إذ تحتفظ هذه المادة البنائىة بسخونة الخارج في الصيف (فيصعب العيش في داخلها)، ولا تقي الداخل من برودة الجو الخارجي في الشتاء (فتجعل الداخل بارداً).
مشاكل متراكمة بالتالي انتهت في أحوال عديدة إلى تشويه الفضاء المديني العربي، وهو ما يبدو في أوجع صوره في فاس التاريخية: جميلة المدن المغاربية العريقة تنوء بثقل ماضيها، فلا تنجح مشاريع تطويرها (ومنها مشروعات الأونيسكو نفسها)، في تمكينها من أن تستعيد بهاء الماضي ولا في أن تكون »عصرية« في آن (أي أن تتوافر فيها الشبكات التحتية للمدن الحديثة)، فضلاً عن أن القادرين من أبنائها، أي مالكي القدرة على تحسينها، وفي نطاقاتهم الفردية، يهجرونها فيخلونها لضعيفي القدرة، فيما يقيم القادرون أنفسهم في الغالب مبانيهم »الحديثة« خارج المدينة، في توسيع لها، غير مدروس وغير جميل كذلك، عدا أنه يتعاكس مع نمط المدينة المعماري التقليدي. هكذا "تَرَّيَّفَت" بعض المدن العربية بدل أن "تتمدن" أو "تتحضر"، عدا أن مدناً جميلة فيها وعريقة تشوهت بدل أن يزداد رونقها (كما نعرف ذلك في مدن أوروبية باتت أشبه بمتاحف مفتوحة في الهواء الطلق من دون أن تكون قد غيرت من طبيعتها السكانية، حيث ظلت مأهولة وذات بنى وأساليب "حديثة" في العيش).

الجدران بمثابة اللوحة
لهذا يمكن القول بأن وعي الفنان التشكيلي بأحوال مدينته أتى سباقاً، في أحوال عديدة، على تحسس الحكام لمثل هذه الحاجة: الحاجة المعمارية العامة، مثل الهيئة الفنية للمدينة أو للحي، أو للعمارة. بل نعرف من سِير بعض المدن العربية، كما في أصيلة في المغرب، أن فنانين من أبنائها سعوا إلى تحسينها، بل عرفوا أن أفعل الطرق لتحسينها هو تسلم القرار البلدي فيها. وهو ما انتهى إلى فعله أمين العاصمة السابق في جدة، المهندس سعيد فارسي، إذ وضع خطة في الثمانينات لتجميل الشاطىء أو الجادة البحرية فيها، قضى بنصب "أشكال جمالية" فيها (كما يسمونها، وهي منحوتات عملاقة تحديداً، وتعود في بعضها إلى كبار النحاتين والفنانين في العالم، مثل: سيزار، هنري مور وفازاريللي وغيرهم). وهذا ما ننتبه إليه في سياسات ومهرجانات حالية في غير مدينة عربية، مثل راشانا وعاليه وجبيل في لبنان، أو الجديدة في المغرب وغيرها.
غير أن هذا الوعي "المبكر" (إذا كان مبكراً فعلاً) عنى في أحوال عديدة عناية الفنان بمهنته، بوصولها إلى غيره، بالترويج لها، قبل أن تكون عناية بالشاغل العمراني الحضري عموماً. وهو ما يستوقفني في ما فعله فنانون مغاربة في أواسط الستينات في "ساحة جامع الفناء" في مراكش، إذ أقدم حينها فنانون (فريد بلكاهية، محمد المليحي، محمد شبعة وغيرهم) على عرض أعمالهم التشكيلية على جوانب الساحة: قيل الكثير في هذه التظاهرة (التي تبعتها تجارب أخرى وصلت إلى فكرة "موسم أصيلة" نفسه، وإلى جعل جدران المدينة الشاطئية قماشات للتصوير لدى الفنانين المذكورين أنفسهم ولغيرهم أيضاً)، إلا أنها تبقى علامة على طلب الفنان الوصول إلى جمهور لا يرتاد صالة العرض الجديدة في عاداته وسلوكاته الناشئة.
إنه شكل مطلوب يهدف إلى "ذيوع الفن المعطل" (كما أطلقت عليه في كتابي "اللوحة العربية بين سياق وأفق"). وهو ما قامت به جهات وهيئات في العهود الاستقلالية، بناء لحسابات وتقديرات غير التي حركت إدخال الفن موضعياً في المدينة العربية، في العهد الاستعماري.
هذا ما تكفلت به حكومات عديدة في العهود الاستعمارية، سواء في بيروت أو القاهرة أو بغداد أو غيرها. ذلك أن التخطيط الاستعماري، في منشأه التصميمي، يقوم على علاقة بين الجادة (أو الشارع) والميدان العمومي (أو الساحة). وهو ميدان عمومي يتعين في وظيفة دالة على نظام البناء، وعلى حركة السير، ما يتخذ شكلَ بناء نصبي أو نحتي في الأكثر. فغالب الأعمال النصبية والنحتية في المدن العربية يعود إلى العهد الاستعماري، أما الإضافات المتأخرة عليها فقليلة وتعود في قديمها كما في جديدها إلى ما أسميه بـ"الاستلهام الرمزي"، أي إلى إعادة توظيف المخزون الثقافي والرمزي، القديم أو العربي أو المعاصر، في أشكال نصبية: تجربة بغداد هي الأوسع في هذا المجال العربي. وهذا العمل التدخلي المباشر في رسم مقام للفن، موضعي تحديداًَ (أي في بعض الأمكنة من دون غيرها)، تستعيده، اليوم، بلديات وجهات محلية، سواء في لبنان، أو في المغرب، أو في السعودية وغيرها.
إلا أن المدينة العربية تبدو في ذلك مثل فضاء عرض، بديلٍ عن صالة العرض ومشجع في الوقت نفسه على ارتيادها. وتفتقر المدينة بالتالي إلى عمليات درس وعمل تجعل المخطِّط المدني يلتقي من جديد مع المعماري، وهما مع الفنان نفسه، فضلاً عن المؤرخ (الذي يعاين تاريخ المدينة وسكانها)، وعالم الاجتماع (الذي يعاين أحوال السكان وعلاقتهم بالسكنى) وغيرهم من المعنيين بأحوال العمران عموماً. وما يجب قوله في هذا السياق هو أن معالجات التشكيليين في العمائر الحديثة تتناول الشكل واللون منها (كما في تجربة »كوم غراب« في ضاحية القاهرة)، فيما تحتاج العمارة إلى معالجات تبرز الحجم، من جهة، والوظائف الفردية والمشتركة في العمارة، من جهة ثانية. إلى هذا فإن معالجات الفنانين هذه تبقى فردية الأسلوب في الغالب، فيما تحتاج العمائر إلى مناقشات ومعايير تتصل بالجماعة (أي بالحي، أو المحلة، أو بالمدينة نفسها). وهو ما يتعين في جدل معماري وفني ورمزي يتعدى الفرد، أياً كانت صلته بالجماعة (وهو ما تقوم به بلديات أوروبية عديدة، إذ تدعو السكان، فضلاً عن ممثليهم المنتخبين، إلى ندوات للنقاش العمومي حول الخيارات التخطيطية والمعمارية والفنية وغيرها لمدينتهم أو لحيهم).
إن تنشيط الفن في المدينة يتعدى العمل "البيداغوجي" (التربوي) ليشمل، قبل ذلك، العمل الاقتصادي نفسه، ولا سيما في إنتاج الفن والحرف، من إنتاج اللباس إلى أنواع المأكل والمشروب والأثاث وغيره من مظاهر الزينة والرفاهية. فما لا ينتبه إليه الدرس في الغالب هو حقيقة الانقلاب الذي جرى في القرن التاسع عشر، في المدينة العربية، تخطيطاً وسكنى، بموجباته الاقتصادية والفنية والجمالية، في المهن والأعمال والسلوكات. ففي مدى هذا القرن انقلبت معايير الذوق، وتبدلت مؤشرات القيمة (بمعانيها كلها)، بحيث بات ما كان محل استحسان مذموماً بل منحطاً، وبات »الفرنجي برنجي«، كما تقول العبارة الدارجة في عربية اليوم، أي مرغوباً ومقدراً. وهو ما تقوله عبارة عربية أخرى، حيث بات لفظ »أنتيكة«، المتأتي من اللفظ الفرنسي أو الانكليزي (antique )، ويعني "العريق"، دالاً على القديم البالي، فيما بات اللفظ "البازاري" (نسبة إلى "البازار")، الذي كان يعين إنتاجات متميزة طوال قرون وقرون، دالاً على المصنوع التالف والعديم النفع والجمال.
بات الأجنبي الوافد، في هذه الانتقالة، علامة، لا على التمدن وحسب، وإنما أيضاً على الصنع المجوَّد والجمال والترقي. وخلال عقود قليلة في مدى هذا القرن تحول مئات الآلاف من الصناع في النطاق العثماني إلى عمال معدومي القيمة والرتبة والأهلية. وهو ما بلغ في مطالع القرن العشرين حدوداً لا رجعة منها، مع تغير الداخل العربي (من أثاث ورياش وغيرها)، ومع تبدل ظاهر الهيئة الإنسانية (أي "الشارة"، كما تقول العربية القديمة، المتعينة في "هيئة ولباس حسن"): حلت "البرنيطة" محل الطربوش، وتكفل البنطلون والتنورة والفستان وغيرها بالجسد المحلي. وهو ما يكتب عنه إبراهيم اليازجي، في مطلع العام 1900 في مجلته "الضياء"، إذ يفيد أن العربي بات لا يقوى على تسمية معالم البيت العربي، إذ أصبح مختلفاً عما كان عليه، بموجوداته ومصنوعاته وأثاثه وزينته ونجوده وغيرها.

ثقافة السكنى
تغير إذن ما كان يسميه ابن خلدون بـ"ثمرات المُلك"، وهي عنده: المباني والمساكن والملابس وغيرها: "يستمتعون بأحوال الدنيا ويؤثرون الراحة على المتاعب ويتأنقون في أحوال الملابس والمطاعم والآنية والفرش ما استطاعوا ويألفون ذلك ويورثونه من بعدهم من أجيالهم".
يتعدى، إذن، نقاشُ الفن والعمران النقاشَ الاختصاصي الضيق، ويتصل بالتالي بنقاش ما هو في أساس هذا وذاك، أي المُلك حسب ابن خلدون، أو السياسة، حسب لغة اليوم. فللحكومة، للبلدية، ولغيرها من بنى الإدارة، دور حاسم في العمران، فلا يقتصر الأمر - كما هو عليه الحال راهناً - على الشأن الاحترافي، الضيق، بل يتعداه ليشمل إجمالي العمران الحضري، بما يحسن الفضاء المديني ويجمِّله، ويجعله موافقاً لحياة "الدعة" والتنعم، وبما ينمي الذائقة لدى الأفراد، تنشئة وترويجاً وتنظيماً.
هذا ما يمكن تناوله في فحص علاقة الحاكم بالمحكوم، أي في فحص ما يحدد السياسة وأسس التمثيل وطرقه في الجماعة وبين الأفراد. فهي علاقة تقع في صلب أي خيار، سواء أكان مفروضاً أم مختاراً. فلا يكفي أن نعنى، كما هو عليه اليوم في الندوات الاختصاصية، ولا سيما بين التشكيليين العرب، بثقافة العين، بل بثقافة السكنى أيضاً، أو بآداب الدعة والرفاهية. وهي عناية لا تتأتى من دون طرح علاقة الفن بالسياسة، وعلاقة المواطن بالفضاء الذي يعيش فيه. فإذا اختلت العلاقة هذه، ولم تصدر عن علاقات "تمثيل" و"تكليف" بين الحاكم والمحكوم، فأن أي خيار عمراني منقوص بالضرورة، وفاقد الأساس خصوصاً. نعلم طبعاً أن الحاكمين القدامى "خططوا" من دون مراجعة الرعية، واكتفوا في الغالب بمراجعة أهل المهنة المختصين، كما يصف ذلك ابن خلدون في قوله: "وربما يرجع الحكام إلى نظر هؤلاء فيما هم أبصرُ به من أحوال البناء". إلا أن أحوال اليوم تغيرت، وبات الطلب على المناقشة العمومية شرطاً واجباً في الجماعة، وبين الأفراد، وفي الفن والسياسة على العموم.
هكذا تبدو المدينة العربية، في بعضها على الأقل، عصية على الحاكم، لا يقوى على الدخول إليها، ولا على التحكم بها، قبل أن يكون صاحب خطة عمرانية فيها، أو لتحسينها. فمناطق وجهات من هذه المدن تبقى مثل مناطق "مشاعية"، خارجة على الدولة، وخارجة بالتالي على أي تخطيط. وهو ما يمكن قوله في فهم آخر عن المناطق التي تتحكم بها الدولة، والخاضعة لسيطرتها، ذلك أنها تبقى رهنَ عملِ اختصاصيين وبيروقراطيين في توجهاتها المعمارية العامة، مبعدة - لأسباب سياسية وتشاورية في الأساس - ما يمكن أن يفتح أي نقاش حول مشروعية استلامها للسلطة، وإدارتها للسياسة في المجتمع، وحول حسن دفاعها عن "منفعة الجمهور" (لا عن فئات ضيقة في إطار الانتفاع الريعي من استلام السلطة وإدارتها).
تبقى المدينة كفضاء للعيش المرضي عنه والهانىء أفقاً بعيد المنال، بل تبدو المدينة العربية مدارة، قبل الحاكم، بسلطة "نص" اعتقادي يسمح لصاحب المحل التجاري في شارع في القاهرة أن يبسط سجادة الصلاة على الرصيف الذي للمارة، فيتدبر أمره مع ربه ويُبقي باب رزقه "مفتوحاً"، وفي آن. وهي استعمالية نفعية مشددة لسلطة "النص"، تبقينا خارج أنفسنا، نعيش بين الخشية والانتفاع، بين التبرير والخوف. هكذا لا تكون المدينة فضاء، للأفراد وفيما بينهم، أي مشتركاً، بل فضاء عمومياً يتحكم به من يقوى على التحكم بالجماعة، وعلى التحدث باسمها، مجتمعة من دون اجتماع، مثل كتل مبهمة، لا مثل أفراد مختلفين ومتعاونين.

(ورقة عمل في ندوة حول "الفن والعمران"، في الشابة، تونس، 2005)