فاروق يوسف : لصداقة تعمر بيتها

لست متأكداً من أن أنطون الأسمر لا يزال موجوداً على الأراضي الأسوجية. كل ما أعرفه أن هاتفه النقال لم يعد يرد حين أطلبه. كان الرجل نوعاً خالصاً من وصفة لا يمكن أن تحقق بمعزل عنه. ندرته جعلتني أكتشف فيه فناناً لا تعبر عنه الصفة التي اختارها: مطرباً. صوته المخرب دمر جزءاً من حساسيتي إزاءه, غير أن ذلك الصوت لم يقف بيني وبين أنطوان, إنساناً حساساً. انطون هو الكائن الرقيق الذي مشى معي مئات الكيلومترات من غير أن يتساءل: متى نصل؟ كان لديه دائماً ما يقوله لي: لبنان المسيحي. وكان لدي دائماً ما أقوله له: العراق الذي لا يعرفه. ذائقته الجمالية كانت تضعه قرب النبع دائماً: محمد عبد الوهاب, وديع الصافي, ملحم بركات, نصري شمس الدين، أم كلثوم , فيروز, ومعبودتنا التونسية المشتركة (ذكرى) قبل أن تقتل, مصرياً. ذات مرة وبينما كنا نمشي من غير بوصلة رأينا نفقاً مظلماً هو الطريق الوحيد الذي يجب أن نجتازه إن أردنا الاستمرار أماماً أو نعود خائبين, خائفين. التفت إلى أنطون فرأيته وقد وضع يده على أذنه. كم كان الآذان بصوته جميلاً, كان يقول: الله وأكبر, ليستحضر روح بلال في عتمة هذه الغابة. مسيحي ينادي: أشهد أن لا اله الا الله. أشهد أن محمداً رسو ل الله احتضنته, وفي عيني دموع فاضت بيسر. اخترقنا النفق باطمئنان وصرنا في أرض أخرى. كان معي أنطوان آخر, أنطوان الذي كنت أتوقعه, مثلما أراه الآن وهو غائب عني . ذلك اللبناني العنيد الذي كان يذكرني دائماً بصديقي المعمد بشاعريته شربل داغر.
كل ما كتبته عن شربل داغر كان من شعره وعن أفكاره الجمالية, ولكن ماذا عنه؟ شربل في الحقيقة هو صديق المطلق مني, فهو الذي جلب لي نهاية السبعينات من القرن الماضي كتاب رينبه شار الصادر عن دار غاليمار بالفرنسية والذي طلبته منه وهو يعرف أنني لا أقرأ بالفرنسية. لقد أكد لي من خلال هبته النادرة تلك أنه يرى إلى الشعر فعلاً بصرياً يذهب إلى الروح مباشرة من غير أية ترجمة لغوية. أستعيد شربل الآن كما لو أنه نوع من الواقعة المتخيلة التي اخترقت حياتي في لحظة إلهام لتستقر في مكان خفي منها, مكان لا يزال ممتلئاً بأفكار طازجة ومتحركة عن الصداقة. منذ البدء وهبني شربل صورة عن المثقف اللذائذي المتوازن. كانت حياته مزيجاً من رغبات آنية هي مصدر كل اكتشافاته اللامعة، ومن خطة غامضة الاسترسال في البحث عن أسباب كل ذلك اللمعان. كانت لديه صرامته الخاصة, فكان أقرب إلى التطرف منه إلى الاعتدال. غير أن تطرفه كان أشبه بالساعة الرملية, لكل ذرة رمل فيها معنى كوني يفارقها. لقد اقتطع الدرس الاكاديمي جزءاً كبيراً من وقته, فما بين الدراسة الجامعية في الشعر والجماليات في السبعينات والتي أنجزها في باريس, يوم كان مقيما" هناك, وبين كتبه المتخصصة بالبحث عن قواعد البلاغة البصرية لدى العرب والتي أنجزها في التسعينا ت, حين بدأ إقامته مجدداً في بيروت, كشف داغر عن روح المثابرة والصبر والبحث والجلد. وهي صفات اكتشفتها فيه منذ لقائنا الاول يوم كان الشاعر فيه هو الراعي لكل صفة مقبلة عليه. حتى التسعينات ظل شربل داغر شاعراً مرجئاً, يسيل الشعر من بين أصابعه ليصب في نثر, ارتفعت به لغته المتوترة إلى مصاف التجارب النثرية اللبنانية الكبرى، كما هو الحال مع مارون عبود, على سبيل المثال. طراز لبناني من النثر لم يكتشف العرب المعاصرون أسراره إلا فيما ندر. شربل في حياته هو الشخص ذاته الذي تنبىء عنه جهوده الأدبية الصافية والنزيهة والنافعة. يمكنني الزعم أن نتاجه الأدبي هو مرآة للبنية الأخلاقية التي تحرص دائماً على أن يقوي أسسها. عرفته منذ ربع قرن, أكثر قليلاً. كيف مر الزمن سريعاً, ولم نقل لبعضنا البعض كل ما نريده قوله. صوته يمر بي أحياناً ليعيدني إلى الصورة التقطناها مرتين. الصورة عينها والمساقة بين المحاولتين عشرون سنة. الوقفة نفسها ولكن الزمن تغير. ونحن, ألم نتغير؟ لم يكن الزمن أكثر مكراً منا. أنظر إلى الصورتين في محاولة لالتقاط الكلمات التي كنا نقولها يومها, فأدرك أن من في الصورتين ليس أنا تماماً, وليس تماماً هو. وحتى حين أقارن بين الصورتين فإن الأربعة الماثلين أمامي لا يتشابهون. هناك ما انمحى وما اضيف, ما شف وما عتم, ما خفي وما ظهر. لا على مستوى الشكل وحده, بل على مستوى الايحاء أيضاً. في الصورة الأقدم هناك مرح واستخفاف وإقبال وطيش ورغبة في المشاجرة أو الصراخ العبثي، أما الصورة الأخرى فإنها تربك الناظر إليها بثقل المشهد الذي تستدعيه, كما لو أنه ركام من الأسئلة. الحكمة السرية التي لم تتأخر على شربل طعنتني أنا الآخر بحزنها. في كل المدن التي التقينا فيها كنت أشعر بأنا مأخوذين, مسحورين بوعد أن نكون معاً في تلك اللحظة لا سواها. ذات مرة وبينما كنت في البحرين فاجأني صوته من خلال الهاتف يقول : كنت في الكويت, فسمعت أنك هنا, فاخترت أن أسافر عن طريق البحرين, لنكون معاً بضع ساعات, وسأسافر غداً إلى بيروت. تلك الصدفة تكشف عن حساسية شربل الجمالية النادرة التي هي في الأساس حساسية أخلاقية, وجعلته أشبه بالكائن النظري في عصر صارت واقعيته العملية عبارة عن سلم مهترىء تصنعه خطوات الانتهازيين والمنافقين المعلقة بالهواء. هو الخالق عبارات غير أن لغته تستمد براءتها ونقاءها من بئر سرية, مهجورة اسمها: الصداقة. نأى هذا الصانع الموهوب في العقدين الأخيرين عن أسلوب العيش الذي يتركه مكشوفاً (فلم يعد يكتب في الصحافة إلا فيما ندر) وغاص عميقاً في البحث عن حجر جمالي كريم, لم تكن صدفة أن يكون ذلك الحجر مصدراً لشعر غزير. عاد شربل في السنوات الأخيرة إلى الشعر, مثل يتيم يستعيد إرثاً, قضى العمر في انتظار أن يلمس طرفاً منه فاذا به كله بين يديه. في صداقته هناك عبارات عابرة يقولها شربل تلقائياً, لو أنني كتبتها لحلقت الكلمات بعيداً عن هذه الصفحة ولما بقي صالحاً للقراءة منها شيء. في الضيعة ولد وإلى الضيعة يعود كل صيف مثل ناسك. لقد رأيت بيته الحجري هناك وأدركت أن شربل قد سبق شيخوخته بالنسيان الذي يليق بها ليحثها على أن تستخرج حياتها من نضارة تنسب إليها, فالشاب الأبدي الذي هو شربل داغر لن يستسلم للذكرى.
(فاروق يوسف: "مائدة من هواء"، دار أمل للنشر التوزيع، صفاقس-تونس، 2008، صص 83-86.)