"لقائي" الثالث بصموئيل بيكيت

نفتقد الشمس في باريس حتى في عزّ الصيف. لم يبقَ لنا غير أن نتتبّع أخبارها، التي تسري كالإشاعة بين البيوت الكالحة. الباريسيون يخرجون للقائها في الربيع أو في مطلع الصيف من مخابئهم إلى المقاهي، يستلقون فوق الكراسي، حتى أنّ النساء يمدّدن أرجهلن على كراسي إضافية، طلباً للأشعة الخجولة والطرية.
أمّا أنا فأتمشّى. ربّما، لأنّ مشهدهم يذكّرني – مع الاعتذار - بحيوان صغير، كنّا نسمّيه "القبّوط" في قريتي. كنّا نلتقي به فوق الصخور، تشدّنا إليه ألوانه الخضراء الباهرة و... حبّ الأذى طبعاً. كان يقفز فوق الصخرة، أو منها إلى غيرها، هرباً من تحرّشاتنا، إلى أن أخبرنا أحدهم أنّه يتبع أشعة الشمس دائماً ويتنقّل معها وفق إيقاع الأشعة.
لليوم الثاني على التوالي ألتقي بالشمس في الصباح، مثل رغيف ناري في فضاء أبيض، ترتفع بعيداً أمام عيوننا المذهولة مثل بالون العيد. كانت السماء صافية، والبرد لاذعاً، حين قرّرت المشي بعد ظهر اليوم التالي. أحنّ إلى "بولفار أراغو" في فصلي الخريف والشتاء. كنت أسكن هنا قبل خمس سنوات، لا تنقضي سنة إلاّ وأكون قد تنزّهت في البولفار لعدّة مرّات.
الخريف يناسب باريس، وهذا البولفار أيضاً: عريض، وعلى جانبيه الأشجار الكثيفة. الورق يتساقط بطيئاً، يتلوّن بطيئاً، بحيث نستطيع أن نتعرّف على درجاته اللونية يوماً بعد يوم. باريس مثل الخريف تتساقط، ما عادت تظلّلنا كفاية، حتى أنّها تميل إلى الإصفرار مثل الصور الفوتوغرافية القديمة. باريس تجنح صوب الأسى الشفيف مثل قلبي. ما عدت أقوى على الصراخ؛ ما عاد يعنيني التشكّي، ينز جرحي بصمت، حتى أنّني أنساه، حتى أنّني أرتبك أمام شاشة التلفزيون عند نشرة الأخبار المسائية، مذعوراً، مستفيقاً، كمن يقفز من مقعد النوم في حالة سينمائية، لا يعرف إذا كان ما رآه جرى على الشاشة أم لا.
اليوم أمشي، إذن. اعتدت على هذه الوحشة، على هذه الأشجار الجرداء في هذا البولفار الطويل. ما يثيرني في عملية المشي هذه هو الشعور بالمواجهة. لا أوراق تحت الأشجار المتتابعة لكي أدفعها بنزق وقوة وفن، يحسدني عليها (لاعب كرة القدم، ميشال) بلاتيني نفسه. الأشجار تتعالق وتتشكّل مثل تخطيطات حروفية في لوحة زرقاء، حيث فقدت الحروف مرموزاتها لتصيد أشكالاً وحسب.
لا أوراق، لا خشخشة الأوراق، فقط صوت أقدامي مثل الجنود الراجفين في ليل الانقلابات، ثم صوت أحدهم يعلو بالسباب والشتائم. إنّه الشرطي، على بعد عشرة أمتار منّي، فيما يقترب مني صموئيل بيكيت.
نعم، إنّه هو. ألتقيه للمرة الثالثة. "التقيته" بين هلالين. غيري يتوفق أكثر منّي. هناك صحفي عربي "محظوظ" فعلاً، التقى بيكيت عدّة مرات، فيما لم يتوصّل إلى ذلك أيّ صحفي فرنسي (أو غيره). الصحفي العربي يلتقيه في غرف معتمة، في فنادق مغمورة، تتبدّل من مقابلة إلى أخرى. هذا هو السرّ، دون أن يعرف أحد أين المفتاح.
أمرّ بجانبه، كما تمرّ بشجرة لا تبالي. تبدّل أوراقَها، تبدّل ألوانها، دون أن تبالي. لا يمرّ بجانبي فهو لا يراني أبداً. وهذا، للمرّة الثالثة.
في المرّة الأولى وجدته أمامي في الطابق الثاني من مقهى "كلوني" منكبّاً على قراءة جريدة "ليبراسيون". كانت تبعد طاولتي حوالي خمسة أمتار عن طاولته، لكنّني توصّلت إلى معرفة الجريدة، لأنّ شكلها مختلف عن غيره من اليوميات الفرنسية. خرجت من المقهى، وكان ما يزال منكبّاً على جريدته. لا فائدة من الاقتراب، لا فائدة من التمرين الذي تعلّمته أثناء دراسة مادة الفلسفة في المرحلة الثانوية بصيدا: كان الأستاذ يدرّسنا أهمية "النظر" في التأثير على "الآخر"، وكان يقول لنا، طمعاً بتقريب الفكرة إلى أذهاننا، على ما أظنّ، إنّه يكفي أن نثبت نظرنا على أحدهم من الخلف، لكي يلتفت إلينا بعد ثوان معدودة. في "بوسطات" الدورة-البرج اختبرت فعالية التمرين أكثر من مرّة بنجاح منقطع النظير. لم أنجح مع بيكيت، ربّما لأنّه لم يكن يدير ظهره لي. في المرة الثانية رأيته يخرج من المقهى، بقامته الرمادية العالية والنحيفة، وبوجهه الحادّ الملامح. انشغلت يومها، بدل أن أركّز نظراتي على وجهه، على عيونه، بحذائه الغريب، الذي رأيت مثله لأول مرّة ولآخر مّرة قبل عشرين سنة في أقدام جدّتي المرحومة خلال فصل الشتاء.
* ماذا جرى لك؟ لماذا كنت تشتمه؟
- تصوّر أنّه كان يمشي في وسط البولفار بين خطّي السيارات!
* هل تعرف من هو؟
- لا، أبداً. ما همَّ!
* إنّه صموئيل بيكيت.
- وماذا في الأمر! من هو صموئيل بيكيت؟ إنّه مجنون دون شكّ.
التفتّ إلى الخلف، كان بيكيت قد ابتعد عنّي. تبيّنته قليلاً في المدى الأجرد، لمعطفه الرمادي ربّما، إلى أن اندسّ مثل الغصن في هذه الأشجار المتتابعة.
التقيت بالشرطي هذه المرّة، ونسيت بيكيت. ألم أقل لكم أنّني لست حاذقاً في المقابلات الصحفية.
إلى "اللقاء" يا سيّد بيكيت.

(جريدة "الحياة"، لندن، بعد وفاة بيكيت).