أستاذي محمد أركون
أربعة اطلق عليهم في سيرتي تسمية "الأستاذ"، واحد منهم، بل اهمهم من دون شك، هو: محمد أركون. وأعترف انه الوحيد الذي لا احسن دوما، سواء في المحادثة او في المكالمة الهاتفية، ان اخاطبه في صورة منتظمة ومتتابعة بصيغة المخاطب المفرد التي تسمح بها الفرنسية بين الاصدقاء والمعارف، رغم انه قال لي بعد مناقشة أطروحتي الاولى معه (1982) - والتي كانت تحت إشرافه - بضرورة عدم استعمال صيغة المخاطب الجمعي المطلوبة بين استاذ وطالب، معه بعد الآن، "ذلك اننا اصبحنا زملاء"، حسب قوله.
زميلان، صديقان: طبعا، ولكن من دون ان انسى او ان اغيب استاذيته، ذلك ان اركون لم يدرّسني، بل فتح لي افقا. فأنا، واقعا، لم اتابع دروسه في "السوربون الثالثة"، اذ انها كانت مخصصة لدرس التراث الاسلامي، فيما كنت منهمكا بدراسة الشعر الحديث، سواء في دبلوم الدراسات المعمقة او في الدكتوراه، بل تعلمت منه ما هو اكثر من ذلك: الصرامة المنهجية.
هذا ما اقوله اليوم، ولكن بعد ان امضيت في تلك السنوات (1976-1982) ساعات وساعات مؤلمة، بعد خروجي من مكتبه في الطابق الرابع في "بناية سنسييه"، استمع فيها الى تنبيهاته، او اتحقق من شطبه لمواد ومواد مما كتبت، وبقلمه الاحمر. وكان يزيد من المي شعور عظيم بالخسارة (المعطوفة على خسارة لبنان)، ووقوفي ضعيفا بعدّة هزيلة في برد باريس. اذ بدا لي حينها ان علي الوقوف في الصف المدرسي من جديد، مثلما كنت اتعلّمه في باريس امام اي شباك تذاكر، وان علي ان اتعلّم الابجدية من جديد، لا ما تقوله اللغة وحسب.
لم انقطع منذ تلك السنوات عن اللقاء به، عن التحاور معه، من دون ان اعلم، في سنوات تعارفنا الاولى، ما في سيرتينا من قربى سواء في مواجعها او في استهدافاتها: إحقاق الحق بالعلم.
هل لمؤلفات المفكر سيرة ذاتية؟ ولاسمه العلم نسب عائلي او قومي نتبين فيه، في ما يتعدى المقولات والمفاهيم والطروحات، والنزوعات والميول والتطلعات؟ جاك دريدا حاول شيئا قريبا من هذا، وحمل النص، وترابط جمله، ما يخفيه ويؤكده، وما يعلن عنه ويتحاشاه: النص بوصفه مسودة شخصية، بالاضافة الى كونه مدونة وعي. اذ ان الفيلسوف لا يحمل الكلام مقاصده فحسب، بل يلعب به ايضا ويتحايل عليه ويقترب منه عبر التشبيه من دون ان يبلغه بالضرورة ويوهم عبر الاستعارة بتعيينه.
اذا عدنا الى كتابات محمد اركون، نجد صعوبة في تبين حبكات النسيج هذا: كتابة صارمة، ولو انها تشي احيانا بجانبها "البيداغوجي" كما لو ان اركون يستعيد في مدى الورقة خطاب الاستاذ والمرشد في غرف جامعة "السوربون الثالثة" في الطابق الرابع، كما ان دراساته تبدو احيانا اشبه بـ "خطط منهجية".
قلما نعثر في محاولاته الصحافية، وفي دروسه ومحاضراته الجامعية، وفي كتبه الوفيرة، على ما يشير الى شخصه، الى حوادث حصلت معه، حتى ان كتبه تخلو من "الاهداءات"، عدا كتاب "نقد العقل الاسلامي"! ولا تخلو هذه الكتابة مع ذلك، من تبرم وضيق، ويبث اركون هذا التبرم في غير كتاب من كتبه او حين يكيل التهم لـ "ايديولوجية الكفاح"، حسب تعبيره.
انه شيء من "تبر" الكتابة، ويمكننا ان نلقى "نتوءات" اخرى تخرج الكلام من سويّته الظاهرة، كأن يسبغ على هذه الفكرة قيمة زائدة، فيما هي قيد الامتحان التاريخي، اي محل نزاع. الا ان هذا الميل يبقى خفيا في كتابته، لا بل نادر الظهور، فأركون، بخلاف الكثرة الكاثرة من مؤرخي الفكر الاسلامي ودارسيه، لم يجعل "العقل الاسلامي" صيغا فكرية، منها ما هو عقلاني وغير عقلاني، بل جعله ملكة نقدية، "عقلا عاقلا" لكل ما اوتي من ثمار العقل: لا يقدم تفسيره للتراث، ولا يختار حيّزه فيه، بل يخضعه لنقد العقل في شرطيه، التاريخي والمعرفي، اي اننا لا نجد "مفكرا" بل ذاتا مفكرة، تتفحص ما تقول، وتُعمل الفكر فيه.
نتبين، هنا او هناك، تبرّمه او "اعتداده" او "فخاره" الجزائري وميله "البيداغوجي" او صرامته الشكلية احيانا، الا اننا لا نقوى على تبين وجه اركون في ما يقوله: علينا ان نغوص اعمق، في صدف الحياة وخياراتها، لكي نلحظ المسارب المختلفة التي انعقدت، والوجهة التي اتخذتها. ماذا لو نتوجه بالسؤال الى اركون نفسه؟
لا يجد اركون صعوبة في تبين المسار الذي ادى بالطفل المولود في تاوريرت - ميمون في منطقة "القبيلي" الكبرى للالتحاق بثانوية وهران قبل ان يقرر التخصص في دراسة العربية في جامعة الجزائر (العاصمة) بين 1950 و.1954 وهو اذ يستعيد تلك السنوات، لا سيما سنوات النهوض الوطني ضد الاستعمار، لا يقص اخبارا، ولا يسرد حكايات، بل يتبين ما في وضعه الشخصي من محددات وميول. يتنبه في اول اشارة الى سنوات المراهقة والدراسة، الى غرابة ظرفه: كان طالبا داخليا في الثانوية، الى جانب خمسة جزائريين آخرين، من اصل 300 طالب فرنسي. الا انها كانت "غربة مزدوجة": غربة عن الفرنسي وغربة عن الجزائري ايضا، "فقد كنت اتكلم العربية بصعوبة، عدا كوني تعلمتها في الشارع، لا في بيئتي الاصلية، البربرية".
كان يكفيه اللعب مع رفاقه في الملعب ومع آخرين عند عودته الى القرية، لكي يتأكد من الشقة الواقعة بينه وبين من يحيط به فوق ارضه! في هذه السنوات، سنوات التفتح والتكون، كما تقول العبارة الفرنسية حرفيا، اي ان يغلب الاكتساب والتعلم والتكيف على ميل النفس وفطرتها ونزوعاتها. كان عليه ان يفهم، ان يجعل مسافة بينه وبين العيش، بدل ان يكون موجودا في صورة سوية وهانئة، وهو ما مكنه من العيش المختلف، في امكنة ذات سمات وعلامات ومرجعيات متباينة، وما جعله يتبين تضارب الثقافات ونسبيتها ايضا. وكانت تكفيه العودة الى تاوريرت - ميمون، الى جبال "جرجرة" الى زاوية خاله الحاج العربي، حيث كان يؤدي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويتابع شروحاته الدينية، لكي يعيش من دون ان يُعمل الذهن في التعلم، ولكي تستبد به حرارة الانفعال، خصوصا لدى سماع التراويح.
في هذه السنوات انتبه اركون الى اختلافه المزدوج عن اقرانه، لاسيما عن الفرنسيين، والى ما يسميه لاحقا بوضعه "الاقلوي": "كان علي ان اتعلم مفارقات تاريخ فرنسا وطرائفه، بالاضافة الى اساسياته، مكتفيا بنبذات قصيرة ومبهمة عن تاريخ الجزائر. لا بل كان عليّ ان اتعلم، ان اجد في ما اتعلم، في اعلامه وشخوصه، رموزا وقيما... اي كان عليّ ان اتخلى عما انا عليه امام بوابة الثانوية، مستعطيا، اذا جاز القول، على مائدة التاريخ! كان لاسماء: موليير وفولتير ولويس الرابع عشر رنين خاص، والق باهر، فيما كنت لا اجد في الكتب، ولا في المحادثات، ما يدلني او ما يجيب عن اسئلتي. وكان الاسلام، في ما يقولون "كمّاً من السحر"...".
لن تتحسن حاله في الجامعة، بعد انتقاله اليها من وهران: لم تكن جامعة الجزائر ضعيفة المستوى، بل كانت تضاهي السوربون، "الا انني لم اكن اجد في ما يعلمونني سببا لاعتزاز ولفخار، وهو ما كنت ابحث عنه، بالاضافة الى فضولي العلمي". لم يكن خيار دراسة العربية طلبا لاندماج، لاختلاف، وفيه شيء من مقاومة للاستلاب الثقافي المعمم والمتيسر. كان يتابع دروسه بانتظام، الا انه كان عصاميا، اذا جاز القول. كان عليه ان يحصل بنفسه ما يمكّنه من تصحيح نظرته الى الثقافة "المنبوذة" من جهة، والى الاخرى "الممجدة" من جهة اخرى. فالتاريخ المغاربي، الذي درسه على البروفسور روجيه لي تورنو، لم يكن سوى "سلسلة من الاحداث المتعاقبة، تنشغل فيه السلالات الحاكمة بالتآمر على بعضها البعض، من دون اي تاريخ اجتماعي".
كان عليه ان يقرأ في كتب اخرى، ان يبحث عن مجلات، صادرة في القاهرة او بيروت، وان يجد فيها تبلورا، وربما اجابة، عن الاسئلة التي كانت تشغله. وكم كان يفرح اذ يقع على مقالة مثل مقالة شكيب ارسلان: "لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟". او اخرى لقاسم امين عن تحرر المرأة العربية "كانت المقالات هذه تحفز من حماستي، على الرغم من اصلاحيتها البينة: كيف لا، وقد كنت قرأت في سنوات مراهقتي عن صالون السيدة بومبادور!".
اعتاد اذن اركون على الانتقال، وعلى العيش في ميادين مختلفة، ما وسّع من فضوله العلمي والانساني، وما جعله لا يهنأ بما يقدم اليه، ساعيا الى البحث عما يجاوره، وعما تقع عليه عيناه من دون ان يلتفت اليه.
لا يكتفي بما يُعطى له، خصوصا بعد ان انتبه الى ان التعليم الاستشراقي "جامد" و"محنّط"، لا يماشي ركب العلم في فرنسا نفسها. هذا ما انتهى الى كتابته في مقدمة اطروحته لنيل شهادة الدكتوراه، "وما اثار حينها غضب اساتذتي". كيف لا، وقد لاحظ، بعد حلوله في باريس، ان جدران جامعة "السوربون" سميكة للغاية، لا تصل ابدا بين ما يقوله المحاضر المستشرق واستاذ محاضر في الغرفة الملاصقة! "كان مشهد الاستشراق مزريا، ودراسته ضحلة، وغائبة تماما عن مجادلات العصر، وعن التجديد المنهجي في ادوات العلوم الانسانية". كان المستشرقون شارل بيلا وريجيس بلاشير وروبير برنشفيك وهنري لاوست يتابعون ما افتتحه سيلفستر دو ساسي قبل نيف ومئة وخمسين سنة في فقه اللغة، وفي كتابة تاريخ "وقائعي، مجزأ، من دون نظرة تفكيرية جامعة"، فيما كان ينتبه اركون، لا بل تستوقفه اعمال كلود ليفي - شتراوس في "بنى القرابة"، وفرنان بروديل في "المتوسط والعالم المتوسطي"، ولوسيان فيفر في مجلته "الحوليات"، او الكتب الدينية "دين رابليه: او مشكلة عدم الايمان في القرن السادس عشر" وكتاب آخر عن مارتن لوثر: "بانفتاحي على هذه العوامل الجديدة، قطعت تماما مع عالم الاستشراق المغلق، لم يشجعني احد منهم على دراسة ليفي شتراوس من اجل فهم مجتمعاتنا العربية"! كان يتابع دروسه في السوربون، مثلما اعتادت قدماه على ارتياد محاضرات القسم السادس من "المدرسة العملية للدراسات العليا"، الذي كان بروديل يشرف عليه. والى جانب هؤلاء يذكر اركون استاذا آخر، غبريال لوبرا، استاذ مادة القانون الكنسي الذي اسس في 1953 مجلة "ارشيف السوسيولوجيا الدينية"، وعمد الى تطبيق قواعد علم الاجتماع لفهم الظاهرات الدينية.
يتعلم، يكتشف، ولن اشبه بالاستاذ في زي الطالب، طالما انه يتبين السبل بنفسه ويختارها، ما جعله يرى الى النقطة البعيدة التي انطلق منها والى الآفاق الشاسعة التي اتسعت امامه: "كنت متمردا، من دون ان ارضى بما حصل، لا بل كنت غاضبا في جميع الاحوال". اذ انه كان يتحقق، كلما تقدم في سبل المعرفة، من سعة الهوة بين عالم القناعات البليدة والراسخة وعالم العقل الذي يعمل من اجله ويصبو اليه، كما لو ان عليه ان يجتاز قرونا في سنوات معدودة! الى ان وقع ذات يوم على ابي حيان التوحيدي، "اخي الروحي والثقافي، المهمش في الدولة البويهية"، وعلى الاخ الآخر "الاعمى - البصير"، سليمان المنطقي، اللذين خففا من حدة غربته المتمادية وكأني به يخاطبهما في المقدمة، التي الحقها بكتابه الشهير، "الفكر العربي"، في طبعته الرابعة في :1991 "جميع المثقفين العرب يبحثون عن مساحات حرة، ولو كانت ضيقة ومؤقتة يحملون في نفوسهم شروط تاريخ شديد الوجع، وهم يعرفون ان الخلاص غير وشيك(...). هذا المثقف العربي لا يفهمه اهله في غالب الاحيان، مهمش، او منبوذ، او مدفوع الى "الاندماج" في المساحات الحرة التي يبحث عنها في الغرب. لهذه الاسباب مجتمعة، يصبح المثقف، على غرار كبار الفنانين، امتحانا لوجود الحرية في العالم، طالما بقي وفيا لوظيفته النقدية". المثقف مثل الفنان يقتحم الممنوع في الفكر لكي يصبح قابلا للتفكير، وخاضعا لملكة العقل العادلة.
يجد في ابي حيان القربى والسلوى، وانصهار الفكر في الابداع، مثل الشروط الصعبة لممارسة الحرية في الدول العاتية. الا ان ما استرعى انتباهه في تآليف التوحيدي ولا سيما في "الهوامل والشوامل"، هذه النزعة الفلسفية المعروفة في ايامنا هذه بـ"النزعة الأنسية"، والت يخصص لها اولى دراساته الفكرية المنشورة في مجلة "دراسات اسلامية" المرموقة.
لن يحيد اركون عن تواصله الفكري، لا بل الروحي هذا، بعد اليوم. لن يحيد عنه، حتى حين يقرر خلاف ذلك. ففي ،1957 بعد حصوله على شهادة الجدارة، توجه اركون الى مكتب جاك بيرك، لتسجيل اطروحة الدكتوراه وهي بحث في الممارسة الدينية في "القبيلي"البربرية: "ان في ودي، على غرار مؤرخي الظاهرات الدينية الجدد، ان اتبين الممارسة الدينية وتعبيراتها في منطقة غير عربية واسلامية سابقا، اي الخروج بصورة جديدة عن الاسلام، صورة ميدانية، على خلاف طرق الاستشراق ومناهجها التي تكتفي بالعودة الى الكتب". الا ان امنية اركون لم تتحقق اذ ان لاكوست، المندوب السامي الفرنسي في الجزائر، اعلن الحرب على المقاتلين الجزائريين في قواعدهم في جبال "جرجرة"، حيث كان على اركون ان يحقق مهمته الميدانية... وهكذا انتهى ذات يوم، بعد نصيحة بلاشير له، الى تسجيل موضوع آخر، عن الفيلسوف ابن مسكويه في "تهذيب الاخلاق": "ما عنى لي في هذه الاطروحة هو تبديل الصورة الخاطئة، الاستشراقية تحديدا، عن الفلسفة وامكان التفلسف في الاسلام، وعن وجود نزعة انسية فيه. كما عنى لي ايضا ايلاء اهتمام بهذا المؤلف النادر، الذي لم نعرف مثيلا له او تطويرا منذ القرن العاشر". ولكن كيف ينظر اركون نفسه الى مساره الدراسي - الثقافي، لا بل الشخصي؟
"ارتحت دائما وشعرت بصلات القربى مع الاقليات. وهو شاغل انتروبولوجي تعلمته في صراعي الشخصي لتعلم ثقافة غير ثقافتي. قادني هذا الى معرفة ثقافات اخرى، بعد ان فقدت ثقافتي مكانتها، وهمشها التاريخ والثقافات الاخرى. مقتضيات صراعي اذن قادتني الى منهجيات وقواعد تكشف زيف كتابة التاريخ، تاريخ المغرب العربي، سواء في كتب التاريخ اللاتيني او العربي او الفرنسي، بعد ان ابعدت هذه الكتابة، لا بل اهملت المجموعات الانسانية الاقدم استقرارا في هذه المنطقة. فهناك تاريخ للمغرب العربي لم يكتب بعد، هو تاريخ هذه المجموعات العريقة التي اصبحت ثانوية لصالح لغات وثقافات باتت الاولى، ولصالح سلطات سياسية اكثر تبلورا، السلطة الرومانية مع المسيحية، والسلطة العربية مع الاسلام والسلطة الفرنسية مع العقل الامبريالي المختبئ خلف عقل "الانوار".
الميادين القابلة للتفكير تتسع وتعرض حين نجد لزاما علينا شق الطريق انطلاقا من كوننا خاضعين واقلويين. ان مقولات "المفكر فيه" و"اللامفكر فيه" و"المستحيل التفكير فيه"، التي تنهض عليها اشكالية مؤلفاتي، تجد اصولها في مساري: الاقلوي الخاضع والمجبر دائما على تعيين نفسه ازاء العادات والظروف الموضوعة من قبل العقل المهيمن. من هنا نشأ مشروعي لنقد العقل الاسلامي: فهدفي لا يقوم على اضعاف هذا العقل، الذي بقي بعيدا قرونا عن المعارك الفلسفية الكبرى التي جرت في اوروبا، بل على اخراج هذا العقل من سياجه الذي انغلق عليه، ودفعه الى خوض المعارك الدائرة في جميع المجتمعات. وانا اليوم، حين اعايش الحروب وقضية رشدي وسائر الجدالات الدائرة حول الاسلام الموسوم بـ"الاصولي"، اجدني من جديد في وضعية المهمش والمكبوت، المجبر على تبرير نفسه وعلى اسماع صوته وعلى انتزاع الاعتراف به ما استطاع اليه سبيلا امام قوة العقل المهيمن".
الطالب اركون انتهى استاذا، لا بل خرّج آلاف الطلاب بين جامعة ليون الثانية وجامعة باريس الثالثة في السوربون، بالاضافة الى كونه استاذا زائرا في غير جامعة في العالم، من المعهد الفاتيكاني للدراسات العربية في روما الى جامعة برنستون الاميركية، تضاف الى مؤلفاته الغزيرة في تاريخ الفكر الاسلامي، باللغات العربية والفرنسية والانكليزية. فماذا يقول طالب الامس عن اجيال المتعلمين من العرب اليوم؟
"عندما اتوجه بالكلام الى الشباب العرب، اتحقق، في شيء من الحسرة، من كونهم غير ميالين الى الفضول العلمي والثقافي، ما يؤجل قيامنا بنقد اجمالي لتاريخ المجتمعات العربية، ولأطر التفكير الناشطة فيها والناتجة عن التطور التاريخي الحاصل منذ القرن السادس عشر. الى هذا فإنني اتحقق من انحراف الفكر العربي صوب الهوى الايديولوجي بتأثير من عوامل داخلية وخارجية، منذ تكون نظام "الدولة - الامة - الحزب" في البلدان العربية بين الخمسينات والستينات من هذا القرن. وما نعيشه حاليا من تراجع للممارسة النقدية في بلداننا، لم تعرفه ابدا حاضرتنا العربية - الاسلامية في القرنين الثالث والرابع للهجرة. هكذا فإن المسألة الدينية، التي اصبحت ملحة في وجودنا اليومي، باتت مثقلة بعدد من الضواغط ما يجعلها في عداد "اللامفكر فيه" في مجتمعاتنا. ما زلت اذكر مناقشاتنا في فترة الشباب، مع زملائي المغاربيين، وكانت تتبلور حول قضايا ومهام ثقافية اشد وضوحا وتبلورا مما هي عليه الآن في هذه المعايير الثقافية "الشعبوية" الرائجة، ذات النظرات الغائمة والكلمات الجياشة والمواقف العنيفة...".
في كلامه شيء من الخيبة مما آلت اليه "دولة العقل" اينما كان، ولاسيما في البلدان العربية. غربة التوحيدي متمادية اذن! لم يكتب اركون تاريخ المغرب العربي "المنسي" او "المطمور" الا ان شاغله، الناشئ عن اصله "الاقلوي" دفعه الى مخاطبة الاكثرية، عربيا وغربيا، ساعيا الى ابلاغ صراخ الشكوى، محتكما الى العقل، لا الى العقل في استعمالاته الجارية، وفي قيمه الاستنسابية، بل اليه بوصفه ملكة نقدية تقوم على مسافة بيّنة، مسافة التبعيد والنظر، من التاريخ والخطابات، وفق مقتضيات المعرفة والحرية، كما لو انه يراهن، في نهاية المطاف، على قدرة العقل، في اقامة مناهجه وفي التزامه شروط الدقة العلمية، في الانصاف، في إحقاق الحق، في دفع المهانة عن المغلوب، وفي تعيين حيزه المستعاد في حوار الثقافات.
(جريدة "النهار"، بيروت، 29 آذار-مارس 2002).