وداع سنغور أو تجديد اللقاء به
كنت انهي كتاباً عن الرئيس السنغالي ليوبولد سيدار سنغفور عندما بلغني خبر وفاته، وهو كتابي الثاني عنه، وبعد لقاءات عديدة جمعتني به، ترقى في أبعدها إلى عشرين سنة بالتمام والكمال. إلا أنني تحققت، في استرجاع لذاكرتي، من أنه غاب عني منذ وقت بعيد، قبل أن أعرفه أساسا. غاب وراء نظاراته السميكة، وجلدته المعتمة، واستقامة رقبته على كتفيه التي تجعله قلما ينظر إلى أعلى أو أسفل، بل أمامه وحسب. غاب بعد أن أخذه الشعر، بل خطفه من أمام عيون غيري، قبلي.
وهو لم يغب واقعاً عني في لقاءاتي معه، بل كنت أمني النفس دوماً بمعرفة أشد له، لما تضج به هذه النفس من اعتمالات وشجون، من دون أن يبلغني منها سوى هذه الوقفة المهيبة، وهذا النبل الإنساني العالي والمرتفع في آن.
في المرة الثانية أو الثالثة، كنت على موعد صحفي معه في طنجة. تأخر عن الموعد الموعود، إلا أن عاملة الهاتف أبلغتني قبل ميقات الموعد بتأخره، على مأدبة غداء رسمية، كما وصلت دراجة نارية رسمية إلى الفندق تبلغني بوصوله القريب. يومها لم أتحقق كثيراً من انضباطية سنغفور اللطيفة لأنني كنت مشغولاً بأمور عديدة وملحة، وضاغطة مثل رطوبة طنجة الشديدة، وأنا متمنطق بربطة عنق تضيق على خناقي، من دون أن أقوى على التخلص منها قبل نهاية الموعد الصحفي نفسه. وزادت منغصاتي، يومها، إذ كان علي الاستعانة بمصور فوتوغرافي من المدينة، اكتشفت قبل دقائق من المقابلة بأنه يدير محلاً للتصوير غير بعيد عن الفندق، وكان عليه بين دقيقة وأخرى أن يعود إلى محله، بل كان علي، أنا، أن أتفقده في محله بين دقيقة وأخرى. فبات اللقاء بسنغور أشبه بالضائقة، لا بالصيد الجميل والثمين، وبات علي أن أتخلص من هذه المهمة، الثقيلة بالتالي، فكيف إذا تعطلت آلة التسجيل من أن باشرت بالمقابلة نفسها!
يومها، مد سنغور يده الحانية إلي، وأتبعها بجملة للتخفيف من جزعي، فانتبهت إلى لمعان مضيء خلف نظاراته وإلى سنغور وهو ينطق جملته ببطء شديد، متوقفاً عند مخارج الأصوات كلها، بعناية حانية ومترفة في آن بكل حرف من حروفها.
لم يتخلف عن موعد في لقاءاتي العديدة معه، بل توقعت تخلفه عن أحدها، عندما وصلت إلى الرباط قبله، لتهيئة اجتماع الهيئة التنفيذية للمنتدى الثقافي العربي-الأفريقي مع أمين عام المنتدى الوزير محمد بن عيسى، بعد أن بلغتنا الأخبار بأن ابنه قضى... انتحاراً. يومها وزير الدولة المغربي مولاي أحمد العلوي خفف من روعنا، الوزير بن عيسى وأنا، وأجابنا: سنغور لا يتخلف عن موعد. فعلاً، لم يتخلف سنغفور عن الموعد، إلا أنني قضيت معه اجتماعات الهيئة التنفيذية على مدى يومين - بعد أن تم تكليفي بمهام الأمانة العامة للهيئة التنفيذية – من دون أن أقوى على النظر إلى عينيه.
إلا أنني نظرت إلى عينيه طويلاً في مرة أخرى، في مطعم قرب "الصخيرات" في ضاحية الرباط، بل انتبهت إلى لمعانها الشديد، عندما شرع الوزير العلوي في الغداء في رواية أخبار تنافسهما معاً - وهما طالبان في "السوربون" - على خطب ود طالبة برازيلية مشيقة، فكان أن خسرها الاثنان.
غاب ستغفور عني من دون أن يختفي تماماُ من حياتي، إذ أنني أمضيت معه لقاءات متجددة أخرى، عبر الأوراق، عبر الشعر، الذي يجمعنا ويبقى بعدنا. إلا أن هذا الأمر ليس بالهين، وقد واجهتني صعوبات جمة في عمليات ترجمته، طبقاً لما تعنيه "الترجمة"، لو عدت إلى معانيها المشتقة من اللاتينية. ففي الأصول أجد التعريف التالي، وهو أن الترجمة تقوم على "الذهاب بالشيء إلى أبعد، على تمريره، على (تدبير) اجتيازه". ذلك أن الترجمة ليست بالعملية الهينة، وإنما الصعبة التي تتطلب مقادير من العمل، قد لا تكون كافية من منتهاها.
هذا ما عرفنه في ترجمة سنغور خصوصاً، إذ كان لي أن أواجه معضلات العبور بين لغة وأخرى، ليس بين الفرنسية والعربية وحسب، وإنما بين فرنسية قديمة في بعض مفرداتها، وأفريقية خصوصية في بعضها الآخر، معطوفة على استعمالات مبتكرة في بناء العبارة، مستندة إلى تجارب السوريالية في عمليات الإسناد الحرة والمبتكرة.
ففي قصائد سنغور أقع على سجلات من المفردات المكونة - لو أجمعها – لـ"تاريخ طبيعي" لأفريقيا، إذ تتضمن القصائد في مفرداتها سجلاً عن نباتات أفريقيا والسنغال، ومعادنها، وحيواناتها وغيرها. وهو ما وقعت عليه في المفردات الأخرى كذلك، إذ عدت في بعض الأحيان إلى أكثر من قاموس "تاريخي" للغة الفرنسية، أو إلى قواميس عن التراكيب القديمة، أو إلى استعمالات وتراكيب لاتينية، أو إلى ألفاظ مستقاة من لغات سنغالية مختلفة، ولا سيما من "الولووف" كي أتوصل إلى ترجمتها، غير أنني لم أنجح، في بعض الأحيان، في العثور على بعض هذه "الفرائد اللغوية" مما جعلني امتنع في عدد قليل منها عن ترجمة بعض المقاطع. بل وقعت في أحيان عديدة على تراكيب شديدة "الحذلقة" تبعاً لأثر بين مستقى من التجارب السوريالية، على ما تحققت، ولا سيما في جعل الصفة قبل الموصوف، أو في تبعيد صلات التشابه التي تبنى عليها الاستعارة. وتأتت الصعوبة في أحيان أخرى، غالبة، من إيقاعية المبنى التركيبي، حيث إن سنغور يحذف في أحيان كثيرة أدوات التنقيط الدالة على علاقات الترابط، علاقات المعنى بالتالي، في الجملة، ما يبلبلها، ما يجعلها "زائغة" في صورة عمدية، كان يقيم المعنى في تردد مشع ومحير في آن. ذلك أن سنغور طلب من الجملة إيقاعها، المتلاحق، المتعالق، وفي النفس أحياناً. إلى هذا، ضمن سنغور قصائده ألفاظاً عديدة من لغات السنغال الشفوية، فأجريت ترجمتها مباشرة، مستنداً إلى هوامش سنغفور نفسها في الطبعة الفرنسية التي عدت إليها.
غير أن صعوبة قصيدة سنغور تتأتى، قبل ذلك كله، من الحذف الشديد الذي تبنى عليه، ومن التجريدية التي تنتهي إليها بالتالي بعد أن تتم ترقيتها، وفق هذه العملية، من ملموسيتها الشديدة. فقصيدة سنغور ملموسة، حسية، تقوم على تناول حسي للعالم والأشياء والكائنات. إلا أن هذا التناول يفقد أحياناً، بفعل الحذف الشديد، بعض ما كان يحيل إليه أو يعنيه، فيصعب "وصول" المعنى، فكيف "تمريره" و"اجتيازه" من لغة إلى أخرى! قصيدة صعبة الوصول بالتالي، ما يجعل عمليات الترجمة محفوفة بالمخاطر الكتابية الجميلة، بل محفزة أيضاً.
وهكذا يكون الوداع تجديداً للقاء.
(مجلة "نزوى"، مسقط، 2004).