فاروق يوسف : شربل داغر الذاهب إلى الشعر بخيال الرسام
”أليس من الحيطة النسيان طلباً للكتابة؟“
هوذا شربل داغر، ليس هو تماماً وليس ظله الذي يمشي على الأرض، بل شبيهه الذي يتأمله، أو صنيعه الذي يمعن في إغرائه، أو بداهته التي تفر منه. هو الممعن في التأويل والتفسير والمداهمة والمفاجأة من غير أن تفوته لحظة جمال عابرة ليضمها إلى مقتنياته الشعرية، كما ارتكبتها الطبيعة. وهو في الوقت نفسه الكائن الذي تظهره انشغالاته الفكرية بصرامة وعي شقي بمادته من غير أن تتخطى قرينه، ذلك العابر الذي ينظر بتهكم إلى أبعاد ذلك الهرم الذي تشكله النظريات المصممة وفق منطق رياضي لا يخطئ طريقه إلى الموسيقى، وهي تسيل من يديه إلى الورقة. هل قلت الورقة؟ كان علي أن أستدرك، فالعلاقة بين الاثنين صارت أشد التباساً بدخول الحاسوب وسيطاً غير محايد. أحياناً يقيم الاثنان على صفحة واحدة، وغالباً ما يفترقان لتأخذ اللعنة طريقها إلى امتزاج ظليهما المسرعين وكأنهما لصان التقيا صدفة في منعطف مكيدة: لا يلتفت أحدهما إلى الآخر إلا على سبيل درء الشبهات. هل الشاعر هو أحدهما أم كلاهما؟ أم هو آخر ينظر إليهما وقد أخذه التعجب؟
ذلك الوجه. وجه لطيش الشاعر أم لحكمة رجل الفكر؟ أللندم الذي ترعاه بناياتها قصيدة مؤجلة أم للجرأة التي اعترضت طريق المفكر لتقوده بين شعاب وعرة ما كان أحد قد وطأها بقدميه من قبل؟ فحين يتساءل داغر بحيرة من أضاع عنوان بيته: ”من يكتب من؟“، فإنه يلقي بنا في قلب المتاهة التي يقتفي بين دروبها أثر الكائن الذي عاش حياته في وقت سابق، وأيضاً الكائن الذي يتبع خطواته مقتفياً أثره في وقت لاحق. ثنائية تتوزع ما بين الشاعر وقصيدته، ما بين الأنا والآخر، ما بين الكلمة والورقة. ففي المستوى الافتراضي الأول يقف الشاعر والأنا، وفي المستوى الافتراضي الثاني تقف القصيدة والآخر والورقة. تبدأ المتاهة من سؤال حائر يقول: من يستدعي الآخر؟ هل الشاعر يستدعي القصيدة أم القصيدة تستدعي الشاعر؟ هل الأنا تستدعي الآخر أم الآخر يستدعي الأنا؟ هل الكلمة تستدعي الورقة أم الورقة تستدعي الكلمة؟
شربل داغر – وهو رجل بداهة مضاد – يفصح من خلال متاهته هذه عن عري المعرفة وهي تواجه كثافة الشعر. يقول: ”كما لو أن أحداً غيري كتبها“؛ يقصد القصيدة. وفي مكان آخر يتساءل ما إذا كان يعمل مرتزقاً عند شخص آخر أو اسم بالأحرى، هو... شربل داغر. وفي مناسبة أخرى يقول: "يبدو النص غريباً في ناظري، مكتوباً من غيري، وموجهاً لي ولغيري في آن“. وفي خضم هذه اللعبة التي تبدو حقيقية لما يخالطها من أسى وعذاب آسر، يبدو الصنيع الشعري ابن لذته المشرف على الضياع، وسليل غزوات لم يباركها التاريخ. فالصانع لا يدري حقاً: هل كانت أصابعه تمحو، تحفر أم تتحسس طريقها في عتمة البياض؟
الغواية تصل بداغر إلى درجة إغراء نصه بالتمرد عليه، حين نراه وهو يدفع النص إلى الانتساب إلى ذاته ومفارقة ذات الشاعر. إنه يقول: ”ألقي بعض الكلمات التي تنتظرني فوق الصفحة، وأقعد تحتها، تحت مظلة تقيني من ملل الانتظار، من انتظار لا يكفيه كوني جلست أمام الحاسوب. إذ أنني في ذلك أكون قد رميت الصنارة في مجهول المياه، طالباً من سمك الصدفة أن يجعلني صياداً. ألم أقل: ما همني، يقودني الأعمى إلى بيتي؟"
إذن، القصيدة تكتب نفسها لتقف في انتظار الشاعر الذي تشبهه. ليس الإلهام كفيلاً بتفسير هذا الاشتباك المبهم. ربما تكون الخبرة، وهي مصدر ثقة، غير أن تأويلها العملي يفسد النيات الطيبة. لذلك فأنا أعتقد أن هناك نوعاً من المؤامرة الخفية هو ما يجعل التواطؤ بين الشاعر والقصيدة أمراً ممكناً، بل ومغرياً. دسيسة تجري تفاصيلها في الخفاء. حلم يستعيد وقائعه بمعزل عن إرادة الحالم. لذلك يقرأ الشاعر قصيدته وكأنه لم يكتبها، مثلما يروي الحالم حلمه وكأنه لم يحلمه. أليس من حقنا أن نقوِّله متماهين مع معادلة غيابه: أنا قارئ، ولأن القارئ غيري فأنا غيري.
هنا يتخطى شربل داغر مفهوم القصيدة المختلفة إلى مفهوم الشاعر المختلف، في السؤال الذي يتعلق بمعنى أن يكون المرء شاعراً. ذلك لأن الشاعر لديه يقف موقفاً وسطاً ما بين الأسطوري، العاكف على تأثيث رموزه بالإيحاء العلوي، الذاهب بعصفه إلى الحافات المطلقة، محملاً برؤاه الكونية، وما بين الإنساني، الغاطس في مشكلات مصيره اليومي، المفكر بتواضع برهاناته الواقعية، مثقلاً بيأسه. الشاعر لدى شربل داغر غير هذا وذاك. ذلك لأن صلته بالقصيدة تصدر عن مكان آخر؛ مكان يحرض على اكتشافه العمل في حراثة أرض اللغة. حيث تكون القصيدة – وهي خبرة ألم – مكافأة لمن يعيد للكلمات جرس حروفها ببراءة وحرقة ودهشة لسانها الأول. يقول في ”حاطب ليل“:
”تلدني كلماتي
بما لا يسعه قماطي“.
”هل أنت حاطب ليل؟“، يسأله الشاعر اسكندر حبش، فيجيبه: ”هو أنا وغيري في آن. والغير لا يعني شخصاً آخر، بل عدة ذوات، منها ذوات متتالية تنبجس في الكتابة، في تدافعاتها، وأتبناها“. ألا يذكرنا هذا القول بفرنندو بيسوا، الشاعر البرتغالي، الذي اخترع ذوات متعددة لكي تطوف في قارته الشعرية بما تسمح به أعمارها؟ وإذا ما كان بيسوا قد أفرط في بعثرة ذواته الشعرية عبر العالم حيث اجتهد في منحها حيوات واقعية، فإن شربل داغر يحمل كل هذه الذوات معه أينما مضى. ولا يسميها بل هي التي تسميه. فهي أدواته التي يعمل بها، غير أنها في الوقت نفسه تعمل من أجل أن يكون لحياتها معنى. أليس شربل داغر أولاً وأخيراً شاعر معنى؟
مجاز بصري
أقرأه لأفتش بين ثنيات الحكمة الشقية عن لحظة طيش فالتة. لحظة شهوة يبطل هبوبها سحر المنافي، لحظة عصيان تقمع السرد الكامن، فأجدها في ولع الشاعر باللغة، كونها كياناً تجريدياً، يقع قبل المعنى ولا يحميه أو يظلّله، حين يتسع عليه ليفارقه. تحضر الكلمات أحياناً، لا من أجل أن تشير أو تبلغ أو تنبئ، بل من أجل أن تقول لذتها، تتباهى بخفتها، تبطل معانيها. وهي واقعة استعراضية تتحرى الإمساك بفتنة الإقامة خارج المعجم وداخله في الآن عينه. فداغر ينظر إلى الكلمة أحياناً كما لو أنها حصاة، يعكف على تأملها منصتاً إلى إيقاع لمعانها، ويلذ له أحياناً أن يدخل إلى أحشائها كما لو كانت حوتاً باحثاً عن نبي ضائع. كلماته في حالة رحيل دائم من المعجم وإليه، وهو الضليع في العودة إلى المعجم لدحض الكثير من القناعات الجمالية المتوارثة. تظهر الكلمة لذاتها ذاهبة إلى مصيرها، ساعة قيامته. وكأني بالشاعر لا يجد وظيفة له أعظم من أن ينظف الطريق أمامها. يلتقط الشاعر الكلمة، يباغت شكلها وينصت إلى أصواتها، غير أن لذته الحقيقية لا تكتمل إلا حين يطمئن إلى أنها صارت تعني ما يروم الذهاب إليه، بها لا من خلالها. يقول:
”أطمع في قضم العنب
مثل ثعلب يلتذّ في لكح شفتيه
أكثر من حبات العنب“.
ألهذا كلما قرأت شعراً من شربل داغر أتذكر زاووكي، الرسام الصيني، ابن باريس بامتياز تيهه، رجل الحسابات المتقشفة، زاهد الطبيعة التجريدي؟ لقد أتاح هذا الشاعر للشعر أن يتجول في طبيعة صامتة؛ طبيعة يخالها المرء ميتة، غير أنه سرعان ما يكتشف فساد نظرته المتسرعة. فهناك توتر عاصف يكمن تحت هذا السطح الهادئ. هناك ذعر وعنف وتوسلات ودموع وشهوات ناقصة وكوابيس تتسلل من المخدة المتخمة بزخارف ماتيس إلى رأس الشاعر. وهو ”المشاء الأعمى، يمشي من دون أن يرى، ويقرأ مغمض العينين“. لقد اكتسب داغر من عادات الرسامين ما ضمن ليده القدرة على أن لا تخطئ طريقها إلى الهدف. نادراً ما تخلو قصيدته من مشهد بصري، إذا لم تكن بأكملها عبارة عن مجاز لا يخفي الصورة التي يستند إليها. غير أن الصورة – وقد أعادت الكلمات تركيبها – تفلت من فراغها الصامت لتطيع إيقاعاً ينبعث من الكلمات، وهي تلهو بتلميع حافاتها. تقول قصيدته:
”كنت أصعد على درج تنبسط درجاته أمامي كلما وقعت قدمي على الهواء“.
واقعي بإفراط، الشاعر هنا؛ غير أن واقعيته مضللة، لا لأنها تخون المشهد بل لأنها تهب المكان الثابت حيوية زمن مؤجل. فالشاعر، هنا، يرى المكان، كونه فكرة قابلة للانحراف عن قدرها الواقعي. فالقدم هي التي تبتكر الدرج، وليس الدرج هو الذي يستدعي القدم. ما يراه الرسامون في هذه القصيدة من جهة الدرج هو غير ما يرونه من جهة القدم. واقعية مضادة يلهمها الشاعر صبره، فيما يهب الرسامين مادة استفهام لا تصنع إلا صورة مرتبكة. الشاعر يكتب بخيال عينه، لذلك فليس أمام الرسام سوى أن يرسم بخيال يده. لقد رأى الشاعر كل شيء، لا جرياً وراء نبوءة عراف أسطوري، بل بتحريض من فاقة باحث شقي وزاهد. وصفته الشعرية تكشف عن صفات قصيدته الخارجية، ما يبدو منها متحققاً بصيغته الكتابية. غير أن تلك الوصفة سرعان ما تتعثر وتتردد في مواجهة أول حرف من قصيدة لم تكتب بعد. وإذا ما عرفنا أن للحروف، لدى هذا الصانع الذي يعمل عند شربل داغر شاعراً، مهابة استثنائية يمكننا أن ندرك أن ليس بإمكان كل خبرة أن تكون وصية. فهذا الشاعر، الذي يعنى بشكل الحرف لا بصوته وحسب، لا يجد في نفسه مقاومة تذكر أمام الإيقاعات التي تصنعها تلاقيات الحروف وتلاطماتها ورنين تصادمها بين الشفتين، وعلى الورقة، على حد سواء. لذلك لا أبالغ إذا قلت: إن قصيدة شربل داغر عمارة حروف، والشعر معمارها الذي يغريه أن ينتسب إلى رهط الخطاطين، أو أن يكون واحداً من رسامي الحروفية، الذين خصهم بأحد كتبه – وهو الكتاب الذي لا يزال وحيداً في المكتبة العربية من جهة عنايته بهذه الظاهرة الفنية. الحرف بين يدي هذا الشاعر مثلما هو في لوحات الحروفيين ليس مادة لبناء يتخطاه، ولا يشكل وجوده تمهيداً. فالكلمة هي نتيجة، وليست هدفاً. أما المعنى فإنه لا يمكنه الفكاك من المبنى، وإلا تهاوى كل شيء، ولن تكون هناك فسحة للقول. تكتسب الحروف جماليتها لدى داغر من المجال الموسيقي الذي تخلقه تلاقياتها الشكلية والصوتية المنسوجة بإتقان. وما من شك في أن هذا المجال هو أول ما يواجهنا في شعر داغر من خلال ما يتركه من تأثير غنائي واضح. الحروف هي ”ماء الكلام“، بتعبير الشاعر. يقول في قصيدته التي تحمل العبارة المشار إليها عنواناً لها:
”هذه ليست من حروف وأصوات
إذ أنها تخشى برودة الصفحة
ما أن يتناثر في الهواء
رذاذ ضحكنا
ويتساقط من الجمل ارتواء العلامات“.
وفي قصيدة ”تقليب الحروف“، يقول:
”قبلاتي مفردات
وجذعي جملة
يلحّ على الحروف إلحاحاً
هو نفسه
وغيره
في آن
واجداً فيها
- ما أقلها -
سعة لقاموس“.
صياد معان
لا إلهام، فالشاعر يعمل لتنفيذ وصية خفية؛ وصية عاش الجزء الأكبر من حياته وهو يحاول الإفلات منها، حيث وجد في الكتابة النثرية ما يسليه، وما يلهي كلماته عن العصيان والتمرد والخفة. لقد ذهب إلى النثر هروباً من الشعر، غير أن أية قراءة لكل ما كتبه نثراً لا بد أن تقر بأن كل ما فعله إنما كان يصدر عن الشعر. وهنا لا يقتصر حكمي على السلوك البلاغي، والحساسية اللغوية، فهما جزء من بداهة الحالة الاستثنائية التي نحن بصددها، بل يمكنني المجازفة بالقول: إن الحفريات التي غامر شربل داغر في القيام بها، في المجال التشكيلي، لا يمكن الذهاب إليها إلا بنبوءة عراف وحدس شاعر. صحيح أنه أجاب، في كتابيه الضروريين، ”مذاهب الحسن: قراءة معجمية-تاريخية للفنون في العربية“ و”الفن الإسلامي في المصادر العربية: صناعة الزينة والجمال“، بصبر الباحث الأكاديمي وأناته، على أسئلة إشكالية معقدة، غير أن تلك الأسئلة التي عالجها وتصدى لها هي أسئلة غامضة ومغيبة، وتشبه إلى حد كبير أسئلة الشعر الكبرى. ولذلك فقد وجد داغر في المعاجم العربية ضالته. الكلمة كانت أداته. نظر إلى الكلمة كونها السراج في ليل الأسئلة. ولأنه يعرف أن الكلمة تخبئ أكثر مما تظهر، وتوحي أكثر مما تؤكد، وتفترض – أخيراً – أكثر مما تبرهن، فقد مضى في غابة القواميس من غير أن يحفل بأي استنتاج مسبق. فكانت النتائج التي انتهى إليها بمثابة لقى.
لقد ضرب شربل داغر بكتابيه الرائعين كل القناعات المكرسة في الثقافة العربية عرض الحائط. قال ما لم يُقل من قبل، حيث أجاب وبشكل نهائي قاطع على أسئلة كان الإنشاء العربي يدور حولها بخوف وريبة وارتباك. ذلك لأنها أسئلة لا تتعلق بالماضي لذاته بقدر ما تتعلق بحجم الفعل السلطوي الذي بإمكان الماضي أن يمارسه على الحاضر. وهو سؤال جوهري في حياة عربية ذاهبة إلى أفولها. لقد اتخذ شربل داغر من الرسم أمثولته التي يمكن تعميمها على نواح عديدة من الثقافة والحياة العربيتين. وبالرغم من كونه فاتحاً في هذا المجال، فإنه يعترف شعراً:
”لا يزال الصحن القديم أمامي
أوسع من فمي
وأصابعي أضيق من أن تسع لقمتي.“
إن شربل داغر الحقيقي يقيم في هذه الحيرة والتواضع والقلق والارتباك التي تفصح عنها الجملة الشعرية السابقة. وإذا كان قد واجه بجلد وشجاعة لسنوات قدره الشخصي – كونه شاعراً مرجئاً، بسبب انهماكه في البحث الجمالي -، فإنه لا يطيق اطمئنان الآخرين ودعتهم واستسلامهم إلى النتائج التي انتهى إليها. الشاعر، هنا، يرجم المفكر الجمالي بوردة غربته ليعيده إلى مهنته كونه: حاطب ليل استفهامي.
فما لا نعرفه عن شربل داغر باحثاً جمالياً يفصح عنه الشعر، لا بالمعنى الذي يسمح للتجارب الجمالية المتعارضة بالالتحام والذوبان لتأخذ صيغاً كلامية مفاجئة وصادمة. ولأن شربل داغر، كما قلت، رجل بداهة مضاد، فإنه غالباً ما يدفع كلماته إلى أسر المعاني التي تحلق بعيداً عنها، أو تلك التي تختبئ في أعماق تاريخها السري. صياد معان، غير أنه غالباً ما يعود بفريسة غير التي ذهب من أجلها. الكتابة تلهيه عن النظر إلى ما يقع خارجها. يقول: ”الكتابة تبرر نفسها بنفسها. أدخل إلى القصيدة مثل دخولي إلى المكتبة، أشتري كتباً غير التي قصدت شراءها“.
أما حكاية شربل داغر مع الرسم فتشبه إلى حد بعيد حكاية عدد من الشعراء الطليعيين العالميين مع الرسم، بدءاً من شارل بودلير وانتهاء بجبرا ابراهيم جبرا مروراً بغيوم أبولينير وهربرت ريد. تلك الحكاية التي تنسج خيوطها من وعي جمالي يكاد يكون مستقلاً عن كل ما يحيطه أو يؤدي إليه من نتائج. فهي تبدأ من السؤال الإيقاعي المبهم الذي يجمع الرسم والشعر في ترددهما الصريح إلى الموسيقى لينتهي باهتمام الشعراء بالرسم من خلال اكتشاف كونه هو الآخر صنيعاً روحياً ينقل من الخفاء رسائل اللامرئي. ينتقل الشعراء والرسامون سوية من وهم الصورة إلى صورة الوهم، وهم يحاورون الطبيعة لكن بمادة مصاغة من العدم. وإذا ما كانت كتابات داغر الغزيرة عن أحوال الرسم العربي المعاصر تعد ثبتاً تاريخياً مهماً يمكننا من خلال قراءته التجوال في آفاق الحداثة الفنية العربية والمنجز الجمالي العربي في القرن العشرين، فإن انشغاله الأكاديمي بسؤال الهوية الفنية من خلال كتبه العديدة (ومنها كتابه الأخير: ”اللوحة العربية بين سياق وأفق“)، وعودته إلى دراسة ”الفن الإسلامي“ (بما فيها مشاركته مع أربعة خبراء عالميين في وضع شريط مدمج لتقديم الفني الإسلامي، بعنوان: ”الفن في العالم الإٍسلامي“، بالفرنسية والإنكليزية)، إنما يعبر عن منهج جديد في دراسة الظاهرة الجمالية. وهو منهج لا يملي أفكاره على تلك الظاهرة من خارجها، بل تلهمه الظاهرة عينها الأفكار التي تعبر عنها من خلال تفكيك مصادرها. وكان بذلك يرد على جدل يعود إلى أكثر من نصف قرن من غير أن نحصد منه سوى الخطاب الإنشائي الذي لا يخفي انتسابه العقائدي. لقد استطاع داغر أن يحسم هذا الجدل بحساسية الخبير الجمالي وتجرد الباحث عن الحقيقة. وكما أرى فإنه من خلال كتبه، ولا سيما ”مذاهب الحسن...“ و”صناعة الزينة...“، قد طوى صفحة الجدل القائم على السؤال الذي يتعلق بصلة العرب بالجماليات بصيغتها التشكيلية. ومن المؤكد فإن إخلاص شربل داغر إلى الجمال، كونه ضرورة حياة مستقلة، هو الذي يقف وراء نجاحه في عملية التنقيب التي قام بها بين دفاتر الأولين. ذلك أنه لم يندفع في عمله هذا من أجل تأكيد قناعة عقائدية مسبقة، بل حرث أرضاً لم يكن على دراية بما تخبئه من كنوز:
”كأنني خطاف صور
أو جوّاب تيه".
الآخر دائماً
شربل داغر هو الآخر دائماً. الآخر بصفته مختلفاً، لا رقيباً ساهراً بأخوة على بلاغة تتشكل من مادة عصيانها. يقف قريباً من ذاته، لا ليعرف بل ليتعرف عليها، وهي التي يحثها تمردها وعصيانها وانفلاتها ونزقها وطيشها وضجرها على اقتناص معان غير مشروطة بحيواتها السابقة؛ غير أنه لا يستسلم لها بيسر، هو الذي اختبر لعبة الشعر من جهة معادلاتها المختبرية في كتابه المعروف ”الشعرية العربية الحديثة“.
هذا التوازن الشقي هو الذي يجعل منه رجل حياة وشعر، حيث تقود أحلام يقظته كلام السائر في نومه. شغف عارم بالجمال يجمعه بذاته المتشظية بأسى ولوعة كما لو أنها زائرة. هذا الشاعر يقتفي أثر الجمال المقيم كونه لقية، والجمال الهارب كونه ضلالة. وفي الحالين فإن شربل داغر، الذي لا يعيش حياة ناسك متعبد، يعرف أن عزلته هي مصدر ترفه الوحيد، وهي نعيمه الذي يضع الجمال في متناول يديه دائماً.
أغبطه. فهو النافر أبداً، ينأى بثرواته بعيداً عن الأعين.
(من كتاب "تواشجات"، عَمان، 2003)