جميل قاسم : صديقي شربل

 

منذ أن تعرفت على صديقي شربل داغر وأنا أعرفه مذهولاً بالشعر، ومسكوناً بالفكر، ومثقلاً بالأسئلة.
والشعر والفكر عنده هما صنوان للعبارة والإشارة، للتفكير والتعبير في براءة الخطاب والبيان.
كانت اللقاءات الأولى بيننا في باريس، على ضفاف السين، إما في "معهد العالم العربي" على هامش نشاطاته، أو في مكتبته، أو في "المادريغال" (مقهى شاعرنا المفضلة)، في جادة الشانزيليزيه. إذا كانت باريس كما يصفها شاعرها "البار" كوكتو "مدينة تتحدث في كل لحظة عن ذاتها"، وكان "معهد العالم العربي" ناطحة سحاب تختلط فيها الثقافة بالسياحة، فقد كان صديقي شربل داغر يحمل في جبته حميمية ودماثة ورحمانية الآتي من الشرق إلى الغرب، فتشعر منذ اللحظة الأولى أمامه ومعه بانمحاء الذات بالذات الأخرى واختلاط الصفات والأسماء. تشعر معه في لقيا الصداقة، بتوأمة الروح، في لقاء الفكر والشعر، وعناق الشرق والغرب.
والفكر في حالة الدكتور شربل داغر هو ذروة شعرية، كما أن الشعر هو ذروة فكرية. وأذكر أنني قرأت مجموعته الشعرية "فتات البياض"، ولم استوعب مراميها الشعرية إلا عندما قرأت كتابه "الشعرية العربية الحديثة"، فأدركت بأن أعذب الشعر عند صديقي هو أصعبه وأغربه. والصعوبة لا تعني، ههنا، ذلك الضرب من الإغراب المقصود، وإنما الذهاب إلى تعالي الشعر بالفكر، وتعالي الفكر بالشعر، كما لو أنه لا يرضى إلا بذرى الكلام كلاماً، وبودرة الذرى، وردةً لم تطأها الأقدام والحوافز. كما أن الغرابة لا تعني الاغتراب، انفصام الذات عن الذات، وإنما تعني الغربة عن اللغة، أو كما يقول مارسيل بروست "المبدع هو الغريب عن اللغة، لغته"، و"الكتابة الجيدة هي الكتابة بلغة أجنبية (غريبة)".
ويأتي البحث عن الشعر والشعرية عنده جواباً على متطلبات التناص الشعري-الفكري. فضرورة الشعر والشعرية مناطها البحث عن العلامة والإشارة في تضاريس النص، ليس فقط في الكلمة، أو الجملة، أو الشكل والمضمون، بل في المساحات البصرية، المرئية، باعتبار القصيدة تنطوي على أشكال طباعية بيضاء قائمة في البناء العام للقصيدة، في توزيع الأسطر، وتوزيع الحروف على هيئة زخرفية تجعل للنص المقروء أبعاداً انطباعية، وتأثرية، بصرية، قمينة بصياغة العلاقات والأبعاد في لعبة المعنى المفتوحة على التجريب البياني.
لا يتسع المجال "للكلام على الكلام"، كما يقول أبو حيان التوحيدي، أو للنقد، في قراءة كتاب "الشعرية العربية الحديثة"، لأن كل قول هو قراءة ثانية، وكتابة ثانية للمكتوب والمقروء، ولا متسع في الوقت، ولكن لعلني لا أبالغ – ومن قال إن القدماء لم يتركوا للمحدثين مكاناً ومكانةً - إن قلت بأن هذا الكتاب يضاهي في مجاله وزمانه كتب النقد القديمة كـ"البيان والتبيين" للجاحظ، و"نقد الشعر" و"نقد النثر" لقدامة بن جعفر، على سبيل الذكر لا الحصر.
ومباحث النقد اللسانية والتأويلية الشعرية يستكملها باحثنا الفذ بدراسات جمالية، تبدأ بالحروفية العربية وتمر بإشكالية الحسن الجمالي، وتخلص إلى تفاصيل الجمالية، في تواصل وتراسل حكائي (سردي) مع التراث العربي- الإسلامي.
والخط هو ثروة جمالية عربية اعتمدت عليه فنون العربية (النقش) والزخرفة التي تضفي على الخط، بأشكاله الهندسية، قيمة جمالية محض تتجاوز الاستعمال الوظيفي له. وإذا أخذ بعض المستشرقين على العرب اقتصار جماليتهم على الحروفية والعربسة arabesque فإن الأستاذ داغر لا يرى في الأمر مثلبة بل حسنة، باعتبار أن الخط التجريدي يتضمن أبعاداً تشكيلية، ونغمية، وبصرية جمالية، إلى جانب أبعاده اللغوية. وهو – من حيث كونه تجريداً - فن محض، خالص، جمالية ذاتية، تعبر عن ضرورات داخلية في ذات الفنان وروحه، وفي ذات الأثر الإبداعي، إضافة إلى القيمة الوظيفية والتقنية له. وفي اعتبار الحروفية، فناً قائماً بذاته، يصبح الحرف فضيلة وليس نقيصة، يغدو عملية خلق وإبداع لا متناهٍ. ويصير الحرف مكتوباً على صفحات القلوب وليس على صفحات الحجر، وتقيض مياه البحر حبراً، ويمسي سواد الدجى خطوطاً غرافيكية، حروفاً، كتلاً ووحدات خطية ذات قابلية للتشكيل الفني، في تجارب تشكيلية تقوم على التجريد الغنائي، والتجريد الهندسي، ولعبة الفن "اللاشكلية"، والسوريالية، في أشكاله التعبيرية المختلفة.
وكتاب "مذاهب الحسن" هو أيضاً ذروة جديدة من البحث الجمالي الإناسي عن الجمالية المختلفة. وإذ يرفض كاتبنا – بحساسية الشاعر- أن يقتصر الحسن والجمال على علمه الفروعي، الأكاديمي (علم الجمال، أو الجماليات)، يعتبر أن الحسن هو الجمال "الموجود" في ظواهرية الجمال: في الزَي والشارة ، والدار، والدمية، هذا ناهيك عن وجوده في ضروب الفن والأدب كالكتابة والشعر والرسم والطبيعة. وقد أحسن شربل في اختياره لإشكالية الحسن كموضوعةٍ جماليةٍ نظراً لكون إشكالية الحسن هي التي تميز البحث الجمالي العربي الكلاسيكي، كإسهام كوني خاص، في المساءلة المعروفة حول مناط وأساس وجوهر الحسن، في علم الكلام واللاهوت (هل العقل هو مناط وأساس التحسين والتقبيح أم الدين والشرع؟) بين الأديان والفرق المختلفة...
كما أحسن في العودة إلى "كتاب العين"، ليغرف من أم الكتب والمعاجم العربية عينها معيناً لغوياً يفيد في التعبير عن دلالة وقيمة ومعنى الحسن الجمالي، في تجلياته الأناسية (الأنتروبولوجية) باعتبار اللغة - واللغة مسكن الوجود، كما يقول هيدغر - مواد أثرية عاكسة للوجود في حمولات اللغة.
وإسهام الدكتور داغر في كتاب "العربية في لبنان" يذكرنا بالجهد النهضوي في القرن الماضي، الذي أدخل الحداثة على البيان، والبيان على الحداثة اللغوية، من أجل لغة عربية متجددة، حديثة، معاصرة، تتوفر على معامل البيان والتبيين والتجويد والتزويق والأداء العلمي والفكري والأدبي.
وصديقي شربل داغر، في حاضره وماضيه، أصيل في وطنيته، وعروبته وإنسانيته، لا تنفصل أبعاد مواطنيته المحلية عن مواطنيته القومية والإنسانية إلا بحروف العطف التي تتحول إلى تعاطف رحماني sympatie روحي يشبه ما وجده هو في جبران خليل جبران، في احتفائه بأديبنا الإنساني الكبير، موقفاً روحياً، وضميرياً ، وهو موقف "لا يصرف ولا ينصرف"، كما يقول النفري.
(...).
(وطى حوب-لبنان، أيلول-سبتمبر 2000، الكلمة منشورة في كتاب: "سلسلة ندوات الملتقى الثقافي الموسوعية"، الجزء التاسع، بيروت، 2002).