آدم فتحي : شربل داغر، رجل الترحال والحوار
(...).
كيف يمكنني تقديم شخص يتحدث عن غيره بصفة كونه... ويتعامل مع الذات والحياة كما يتعامل مع الكتابة؟ هو الذي يقبل عليها في هيئة الخارج منها وينفي عن نفسه ما ينفيه عن القصيدة: كونها تدويناً لوحي؛ وهو الذي ينسب إلى نفسه ما ينسبه إلى القصيدة: كونها تولد عند كتابتها؟
لا أجد صفة أفضل من رجل الترحال والحوار.
الترحال بين التجارب والأسئلة والغوابات، هرباً من برد اليقين. على فلق، كأن الشعر تحته، لولا أن رياح هذا الشعر من لون وموسيقى وتيه.
والحوار مع الأنوات والثقافات والمسافات، هرباً من برد التحجر. على قلق، كأن الفكر تحته، لولا أن رياح هذا الفكر من جذور وعمق وانتماء.
أول ما قرأت له دراسة بالفرنسية عن "التقاليد الشفوية العربية" في العام 1985، فاكتشفت فيه الجامعي القادر على معانقة دوائر معرفية مختلفة، هو خريج السوربون وصاحب شهادتي دكتوراه في الآداب العربية وجماليات الفنون.
ثم وصل بيننا الشاعر على اللواتي، وشاءت الصدف أن تجمعنا لقاءات في هذا المكان أو ذاك من جغرافيا العالم، فاكتشفت إصرار الرجل على أن يمد الجسور بين ثقافات العالم، مسؤولاً في "المنتدى الثقافي العربي- الإفريقي"، أو دارساً ومدرساً ومترجماً. .
ثم شرعت في متابعة مقالاته الصحفية هنا وهناك، فشد انتباهي الكاتب والصحفي السندباد، هو الذي عمل في الصحافة بالعربية والفرنسية في بيروت وباريس ولندن، وترجم عدد من أعماله إلى أكثر من لغة، فعرف كيف يصالح بين النقد والصحافة، بين العمق والانتشار، بين الموقف والجمال.
شدني فيه ذاك التوهج اليساري الجميل الذي اختص به جيله من اللبنانيين... وحين سئل فيما بعد عن تلك الفترة لم ينكر أنه حلم طويلاً بالمدينة الفاضلة إلى أن ارتطم جناحاه بجدار الحرب والطائفية، فلم ينعق مثل الغراب البين على كومة أحلامه المغدورة، بل فضل أن يهرب بأحلامه إلى جبهات مقاومة أخرى. وفي ذلك التقى جيله بجيلي: حيث تحتم الاختيار بين البكاء على أطلال الأحلام، واللحاق بقيصر لمحاولة الملك على طريقة امرئ القيس، والمقاومة على تخوم أخرى، من بينها الكلمة والفكرة واللوحة والنغم.
لذلك كله لم يكن أيسر من أن نصبح صديقين، فعرفت ما ينطوي عليه من صفات الإنسان إلى جانب صفات الباحث والمبدع: الصدق حتى الوجع، واللعب حتى الجد، والمرح حتى الحزن الفائض بالمعنى، أو حتى الألم الشفاف الذي قاله صلاح ستيتيه في شعره، طالما أنه "يعرف كيف يظل محتشماً، وكيف يتحدى الابتسام...".
صفات لم يخل منها الباحث الأكاديمي، ولم تغب عن الفنان المغامر، هو الذي عرف كيف يصالح ذاته بين الحداثي والأصيل، بين المفكر والمبدع، فتعددت مغامراته الفنية بالتوازي مع أبحاثه الجمالية، من "الحروفية العربية: فن وهوية" سنة 1991 إلى أطروحته القيمة "الفن والشرق" الصادرة في جزأين سنة 2004، والتي تناول فيها مسألة استقبال الفن الإسلامي في الغرب: ما هو المسار الذي قطعته فنوننا كي تبلغ صفة الفن في التداول الغربي، وكي تعود إلينا فنونا بعد أن غادرتنا عناصر طقوسية بدائية؟
إلا أنه يظل في نظري شاعراً أولا وأخيراً.
ليس بسبب الدواوين الجميلة التي ارتكبها منذ "فتات البياض" سنة 1981، مروراً بـ "رشم" و"تخت شرقي" سنة 2000، و"حاطب ليل" سنة 2001، و"غيري بصفة كوني" سنة 2003، و"إعراباً لشكل" سنة 2004 وغيرها، بل بسبب طريقته في المرور عبر منعطفات الحياة بشكل شامل.
لا تراه يكتب إلا وقفت على ولع الشاعر فيه بالغناء والموسيقى والسينما والتشكيل، معيداً الاعتبار إلى اللوحة وإلى تعدد الأصوات الذي حفل به المسرح. ولا تقرأ له إلا سمعت في كلماته صدى أوركسترا كاملة، ليس شربل داغر الذي تعرفه إلا واحداً منها، ليس أهمها، وليس بطلها، وليس محتكر النجومية فيها.
يكتب القصيدة بالنثر ويرفض تسميتها قصيدة نثر... لأن الشعر في نظره اشتغال عال على اللغة المفارقة، من جهة، ولأنه معني ببناء الشكل، من جهة أخرى... والشكل في نظره ليس قالباً بل هو رؤية ومشهدية وتشكيل.
لذلك كله فهو لا يحب الأنا المتضخمة شعرياً، ولا يحب الفحولة المتجددة في الشعر. وهو لا يضيق بشيء قدر ضيقه بالثرثرة المتفشية في أكثر ما يكتب باسم الحداثة، حيث لا ترقى العلامة بالصورة إلى مرتبة مخاطبة العين بلغة العين، بل تظل مكتوبة بعمى ما... ولعل من أجمل ما أذكر له في بعض لقاءاتنا الحميمة، قوله: "نحن أداة القول ولسنا القول، ومن خلالنا تعبر أقوال كثيرة...".
(...).
ثم ماذا وأنا في مقام تقديم رجل متعدد؟
ليس أفضل من أن أختم بكلام له، أقتطفه من مقدمة ديوانه "إعراباً لشكل": "هذا ما أقوله وقد لا يجد فيه كاتبون عديدون صورتهم، أو ما يناسبهم عن الكتابة وعن أنفسهم... كتابة فيها جلبة، وفيها صوتي، أحدهم يسمعها على أنها له وحده، بل قد يتبناها ويتوجه بها إلى غيره على أنها من كلامه المخصوص...".
وها أنا أجد في كلامه هذا جلبة، وأجد فيه صوتي. وها أنا أتوجه بكلامه عليه وكأنه من كلامي المخصوص. فما رأيك يا صديقي؟
"هل الخطوة في الدرب أو في القدم؟
في الهواء أم في المشي؟
هل أصل أم أستريح...؟"
(جريدة "الشروق"، مدينة تونس، 13 نيسان-أبريل 2006).