محمد الكحلاوي : ولهُ التواشجات

 

مع شربل داغر، وأنت تسمعه أو تقرأ، لن تشعر بأن مطلب الحداثة، في الإبداع أو الكتابة مثلاً، مطلب عصي النيل، ويستوجب كسبُه خوض معارك كبرى، حيث أن ذاك التماهي بين المخزون الفني والأدبي والفكري والروحي العربي والإسلامي يتراءى لك معانقاً للجديد التالد، ويبدو قادراً على الاستمرار عبر تصاريف الكلم واشتقاقات العبارات المستحدثة وبراعة الترجمة، التي تشد انتباهك من حين إلى آخر، وأنت تقرأ مؤلفات هذا الكاتب.
والأمر سيان لدى شربل الشاعر وشربل الناقد للفن والفكر وشربل الباحث المقتدر في تاريخ آداب اللغة العربية وجماليات الفنون، وعلى الأخص منها جماليات الفن الإسلامي، الذي وُفق أيما توفيق في الإسهام في دراستها وحل مسائلها النظرية، والتميز في بلورة أفق لقراءة جمالية الفن الإسلامي في علاقته بحضارة الشرق، وعبر إعادة بناء العلاقة بين الفن والأدب، والفن والشرق، والفن والدين، والفن والحضارة، وفق نموذج نظري يقوم على النقد والدراسات والأبحاث الاستشراقية المنجزة في المسألة على كثرتها وتعقد مصادرها النظرية، ونقد التصور العربي التقليدي الذي راكمته الدراسات المنجزة في هذا العرض.
شربل داغر هذا الاسم الشعري الباحث بعمق جدي، لا عمق دعاية إعلامية، عن سحر الكلمة الشرقية، وفي قدرة ريشة الفنان الشرقي (العربي) على التعبير عن المجرد والميتافيزيقي، وعن فكرة "الجليل" ذاتها بحسب عبارة الفيلسوف الإلماني كانط. لقد استطاع شربل أن يخفي داخل مؤلفاته، وأن يضمر في أعماق نصوصه، وشائج تلك العلاقة السحرية المفارقة بين حسن الكلمة العربية وثراء مدلولاتها وغناء شفراتها وبين جمالية فكرة التجريد في الفن الإسلامي، كما احتفت بها أعمال الخطاطين والمزوقين والمصورين والمعماريين ومسفري الكتب، وكما تجد نموذجاً لذلك في دعامات مشروع الحداثة الفنية العربية المعاصرة في مجال الفن التشكيلي. لقد تجلى هذا المنحى في الكتاب الذي وضعه شربل داغر بعنوان: "رشم" (...). وهي كلمة عربية تعني الرسم والوشم والكتابة والتعبير، أو لنقل بلغة نقدية معاصرة تعني: "كتابة الذات".
وفي السياق ذاته جاء عنوان كتابه الآخر، "تواشجات"، وهو جمعٌ ل"تواشج"، بمعنى التعالق والتواصل والتوافق مع من تراه لأول مرة دون سابق إعداد لذلك.
وفي شعر شربل داغر (...) حضور لهواجس وجودية، ولنقل فلسفية وجودية عميقة، يبدو محياها بادياً، وألقُها ظاهراً منذ عناوين القصائد، كما من عناوين الكتب. وحسبي أن اشير إلى ديوانه "غيري بصفة كوني"، أو "لا تبحث عن معنى لعله يلقاك"...
وإذا قُدر لك أن تقرأ هذه النصوص، كان عليك أن تستحضر ثقافة فلسفية وأنطولوجية وصوفية وأجواء نصوص شعرية عالية، لتفهم إضافة إلى دراية بإشكاليات نظرية كتابة الشعر، وأفق بناء الصورة الشعرية، تلك الإشكاليات المعرفية الجمالية المتعلقة بنظرية الكتابة الشعرية المعاصرة. وهو ما كان لشربل داغر، الأكاديمي الباحث في الآداب والحضارة والجماليات العربية، الدور الرائد في الإسهام فيها (...).
ويبدو أن صدى هذا الوله بالشعر وفلسفته وجمالياته يمتد إلى مجال الترجمة (...).
وهو يحقق في درس الأدب إسهاماً معرفياً خلاقاً يضعنا في عمق مشكل الوجود، وفي عمق نسق الحداثة، إذ أننا تقنيو معرفة ووظائفيون أكثر منا مفكرون ونقاد ومبدعون: الإبداع يستوجب حضوراً لمرجعيات مختلفة، فكرية وأدبية وحضارية وفلسفية، والفعل الإبداعي يكون ثمرة لتلاقح بين أكثر من حقل إبداعي، وما تتعلمه في فن ما يمكن أن يفيد في غيره من الفنون.
ضمن هذا السياق بالذات شدتني عناوين مؤلفات شربل داغر في الجماليات - وقد قرأت أغلبها – وهي تتكامل مع مشروعه الإبداعي النقدي، أو لعلها تمثل المخبر الذي عبره تنضج الأفكار (...).
في سياق تناوله لفكرة الحسن والجمال في الثقافة العربية يتجاوز داغر تلك المقاربات الكلاسيكية التي تجعل من معالم التفكير الجمالي عند العرب مجرد ترجمة باهتة لميراث الفكر اليوناني الأرسطي في مجال علاقة الفن بالإبداع، ليؤسس لأفق معرفي نظري جديد يترجم عناصر التفكير الجمالي عند العرب، الذي يتجاوز فكرة اعتبار الفن محاكاة للطبيعة (أرسطو)، أو إمداد من العالم الإلهي-عالم المثل (أفلاطون)، حيث يرى أن اللفظة العربية ذاتها، وعلى الأخص المفردة القرآنية، شكلت نواة بناء التفكير الجمالي الذي يتأسس على مقولة أساسية مفادها أن اللغة العربية ومفردات القرآن تستبطن حقائق الوجود والألوهية والإنسان، والكون ما هو إلا تجسيم لأنطولوجيا الحرف وفق الإرادة الإلهية. فالفن إذن تكثيف وإظهار في الآن ذاته لمعنى هذه الأنطولوجيا، وهو صورة للعالم اللامرئي أو تعبير عنه. وإن كان لهذه الفكرة جذور في أعماق نصوص الصوفية، وخاصة لدى محيي الدين ابن عربي، وفي رسائل إخوان الصفاء، الذين عبروا عن ذلك من خلال فكرة "التناسب"، فإن شربل داغر يعمل ولعله لا يزال يشتغل في هذا الحقل على إمكان تحويل هذا الميراث الفلسفي والصوفي والأدبي العربي إلى مقولات ومفردات و"براديغمات" ذات جدوى في ممارسة الفن المعاصر وقراءته على السواء.
ولعل الطريف في ما أنجزه إلى حد الآن شربل داغر في مجال الجماليات، وعلى وجه التدقيق بخصوص قراءة جماليات الفن الإسلامي، هو كشف تلك التورية التي تحولت بموجبها الكثير من الصناعات الحرفية والأشغال اليدوية في مجالات النقش على الخزف أو الحلي أو تجليد الكتب وتسفيرها إلى تحف فنية ومنارات للفن الإسلامي، في العصر الحديث، وفي المتاحف العالمية. وهو لا يعارض حتماً هذا التحول، لكنه كشف عن سياقات تشكل مثل هذا التصور، بهدف إبراز مدى التداخل المتين بين الصنعة والفن في الحضارة العربية، وليظهر ذاك التواشج الخلاق الذي شد صنعة الحرفي إلى إبداع الفنان، فارتقت بمرور الزمن صنعة الحرفي من مجرد تلبية ضرورات وحاجات الحياة اليومية إلى عمل فني. وأمسى إبداع الفنان فعل صنعة، يمنح عناصر الحسن باستمرار للمصنوع. وكل ذلك يجري وفقاً لتصور منزلة الإنسان في الكون، ولحقيقة الوجود وللمدينة، ولنقل لمدينة الأناسي من حيث هي محاكاة لمدينة الله، إذ تمثل المدينة العربية الإسلامية، بعمرانها وزخارف عمارتها وتحفها ولوحات الخط التي تنمق معالمها ومساجدها وقصورها، آية فنية في حد ذاتها.
وهكذا تظهر تلك المفارقة العجيبة والمؤلمة، وهي كيف تحولت المدينة العربية الإسلامية من مجال الفن والإبداع، من مدينة للعلماء والفلاسفة والفنانين التي تتعدد فيها المذاهب وأنظمة القول والتفكير، إلى مدينة باهتة لا تعي حتى تاريخها.
(جريدة "الصحافة"، مدينة تونس، 15 نيسان-أبريل 2006)