مع جورج شحادة و"العصفور"

 

"ما أقربه إلى العصفور": أكتب هذا متحقّقاً من أنّني لم أبتكر صورة جديدة عنه، ذات يوم ربيعي في 1980، بعد أن اتّجهت إلى بيته السابق في حيّ السان-جيرمان لمقابلته.
شدّني يومها منظره الطريف: لا تهدأ له حال، بين الدقيقة والدقيقة، بين القعود والوقوف، بين المشي في الصالون أو الشرود عبر زجاج النافذة. "على قلق، كأنّ الريح تحتي"، كان يقول المتنبّي، وهو قال: "من يحلم يمتزج بالهواء"، واجداً، بدوره، في صورة "المشاء" صورة الشاعر الذي لا يتوانى عن الحركة، باحثاً عن الغامض والمغلق في أشعة الأصابع وهجس الخطوات. قلت حينها: من أين لهذا الجسد الضئيل أن يتكلّم بمثل هذه النبرات المسنونة!.
تخاف عليه مثل عصفور مبلّل أو جريح، وإذا به يقطع بلسانه مثل سيف من نار.
زرته لإجراء مقابلة، إلاّ أنّه هو الذي أجراها معي. سألني غير سؤال عن مسرحية "سهرة الأمثال" وقصائد "الطالب السلطان"، إلاّ أنّني فشلت في الإجابة على سؤال خاص بـ "السيد بوبل"...
بلعت أسئلتي، على أن أستعدّ للامتحان المقبل بصورة أفضل. في الزيارة الأولى، كما في الزيارة الثانية، التي حصلت بعد عودته من لبنان، حدّثني عن "الجنون" فيه، عن الرصاصات التي جمعها في صحن، في شقّته في الأشرفية.
في المرة الثالثة لم تصاحبني آلة التسجيل، بعد أن أدركت أنّ جورج شحاده يتحاشى الأحاديث الصحافية وفيّاً لفكرة تقول: الكلام خطير للغاية، لا بل استثنائي، لا يجوز التلاعب أو الاستخفاف أو الإسراف فيه، وفي مواضع هي غير مواضع إنتاجه، أيّ القصيدة نفسها.
تأكّدت من هذا بعد موته (في 17 كانون الثاني-يناير 1989)، إذ اكتشفت أنّه لم يدلِ بأيّ حديث لأيّ قناة تلفزيونية، حتى أنّه اكتفى قبل سنوات، مجيباً على لجنة أدبية قرّرت منحه جائزتها، وبعد طلبات ملحّة منها، أن كتب هذه الجملة: "ولدت في الإسكندرية في مصر في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1907، في عائلة لبنانية من الطائفة الأرثوذوكسية، ذات ثقافة فرنسية".
العصافير تغنّي، لا تثرثر.
في جورج شحاده، في هوسه باللعب، وطرفه المديني، وأناقته الرصينة، تقاطيع من صورة لبنان ما قبل الحرب: صورة البحبوحة والانفتاح.
ضاق تنفّس العصفور، أو استدعته إليها سماوات أخرى. هذا ما تقوله إحدى الشخصيات في واحدة من مسرحياته: "يد الميت بخيلة: تظلّ مغلقة دائماً".
هو بدوره عبّر عن "لبنان الضيعة"، ولكن بطريقته الخصوصية، مثل رسامي الطبيعة اللبنانية (جورج القرم، صليبا الدويهي...)، أو مارون عبود في حكاياته، أو جبران خليل جبران حين جعل من قريته، التي يحنّ إليها في مغتربه، بمثابة الشرق الذي يخاطبه ويرسم له آفاق التجدّد، أو الأخوين رحباني في قراهما الوهمية العديدة. ففي شعره نقع على ضوء القناديل الناعسة، وندى وجوه الصبايا، وخيوط العنكبوت، وأيقونات الجدران الرطبة، وأشجار الرغبات. كما تدور الأحداث في غير عمل مسرحي في القرية، أو تحكي قصة عودة أحدهم إليها ("السيد بوبل" – 1951، و"مهاجر بريسبان" – 1965). في قرية جورج شحاده تتبادل الأشجار مع البشر تحيات الصباح، أي تغلّف كلّ شيء فيها غشاوة البراءة وصورة الخليقة الأولى. أهو الحنين إلى خضن القرية الأمومي، المطهر، والمنزّه من كلّ دنس؟ أو التسامي بالقرية إلى مصاف "الجنة المستعادة"؟ أو القصيدة التي يصبح فيها كلّ شيء ممكناً، قابلاً للولادة من جديد، والشاعر مبدعاً بلمس الكلمات برقّة وخفر، كما لو أنّه يلمس الكائنات والأشياء للمرّة الأولى، وللمرّة الأخيرة أيضاً. مرّة واحدة وإلى الأبد.
لكتابته مثل هذه الأنساب من دون أن يكون فولكلورياً، أو منشداً رعوياً، ذلك أنّه نفخ في هذه الصور روح الحياة، ريح الرغبة ونسائم الطرافة. فمن يسخر لا يموت!
عودته إلى القرية لا تخلو من طرافة، لا بل من سخرية. فيها حنين القلب وعين العقل. علينا ألاّ ننسى أنّه كان مدينياً "يحلم ويمتزج بالهواء".
طار العصفور.
حطّ العصفور.
أقرأ في الصفحة الأولى من "أنطولوجيا البيت الواحد" التي أعدّها: "ألف عصفور يطير لا تساوي عصفوراً واحداً يحطّ".
نعم، للأسف، يا "حارس الليل في القصائد".

(جريدة "الحياة"، لندن، بعد وفاة الشاعر).