مع أمين معلوف فوق سفينة من نور

 

يصعب عليّ، هذا المساء، أن لا أتذكّر الرحلة، كانت رحلتي الأولى، التي ضمّتني مع أمين معلوف. كان ذلك في صيف 1973، فوق باخرة، انطلقت بنا من بيروت، وعبرنا فوقها المياه "البيضاء"، حسبما نسمّي البحر المتوسط في العربية. كانت بيضاء بطبيعة الحال بعد أن بقعتها المواجهات الدامية للغزاة والمستبدين وغسلتها أمواج الأمل التي أطلقها عدد كبير من البحارة والرسل.
لا يتوانى أمين، منذ ذلك الوقت، عن السفر، عن كتابة الصرخات المخنوقة في هذه المياه. يبسط الأشرعة فاتحاً الصفحات المطوية من تاريخ المنسيين. التاريخ؟ أيّ خديعة! تاريخ استنسابي أم تاريخ جماعة، أي منحاز بالضرورة، موضوعه سوء الفهم المتبادل والأحكام المسبقة. تاريخ متجعّد مثل تعابير أرملة تعسة، على الرغم من أنّها لا تزال في ريعان الشباب! نعم، لا زال التاريخ في حاجة إلى كتابة! تاريخ المغلوبين بخاصة، تاريخ المتمرّدين الذي شوّهته شريعة الأقوياء.
يصعب علينا تبيّن، لا بل فهم، مسار أمين معلوف من دون أن نتحدّث عن مشاعر الظلم والعذاب التي يبديها الأجنبي، لا سيما إذا كان مثقفاً، بعيداً عن وطنه الأم، عن ثقافته، عن القيم التي تنشئه وتؤكّده، مهمّشاً مبعداً حتى دفاعاته الأخيرة، مشكوكاً في أمره في صورة مسبقة، حين يقيض له النظر إلى صورته في مرآة الآخر: الصورة مشوّهة، لا بل ممنوعة ومطاردة. كان يمنيّ النفس بسماع تلك العبارة، كما في قريته الأصلية، التي يقولها صاحب البيت عند استقباله لأحد الضيوف: "... نحن الضيوف وأنت ربّ المنزل". كان يتمنّى سماعها، ولو من باب الأدب واللياقة، من الذي هيأ لنفسه الأسباب – وأيّ أسباب! – لإدارة بلده بدلاً عنه، لا بل لاستعمارها!
لا يتوانى أمين، منذ ذلك الوقت، عن تقديم هذا لذاك، وهو تقديم أوراق الاعتماد بين أطراف معنيين بالمنطقة نفسها، منطقة النفوذ المشترك والمتنازع عليها، منطقة الحملات العسكرية والاتصالات الثقافية المتبادلة. غيره اعتنى برواية سيرة "المهاجر"، الرمز الأمثل لتعيين "الآخر المرذول": المشكلة هي هذه بطبيعة الحال، وفي هذا المجال تحديداً، إلاّ أنّها تقع في مكان آخر، وفي نزاع قديم أيضاً. فنحن لا نقوى على النظر إلى المهاجر هذا على أنّه قوة عمل متجولة وحسب، فهو كائن تاريخي أيضاً. كما لا يمكننا فهو سوء الفهم الدامي في الحملات العنصرية الناشطة حالياً في فرنسا، إذا لم نتبيّن كونها تتغذّى من نظرة منحازة إلى تاريخها، لا من التاريخ "العالمي" كما يزعمون.
أمين معلوف، لا غيره، هو الذي كتب سيرة النظرة العربية إلى الحملات الصليبية، داعياً أحفاد هؤلاء إلى تصويب نظراتهم إلى أنفسهم قبل نظراتهم إلى غيرهم، أي إلى امتلاك صورة مركّبة عن التاريخ. فمن دون الحسن بن الوزان (ليون الأفريقي)، المهاجر المغربي لا يعدو كونه، وفي أحسن أحواله، عاملاً في مصانع شركة "رينو" (للسيارات). أسوق هذا الكلام لأثير هذا السؤال: ما الذي قاد أمين معلوف، بعد النجاح الصحافي الذي عرفه، وبعد إقامته في فرنسا، إلى كتابة الرواية، الرواية التاريخية حصراً؟
أطرح هذا السؤال من دون أن "أتشاطر" في الإجابة عليه، سيما وأنّ سبل الإبداع غامضة وسرية، كما يزعمون. إلاّ أنّه ما كان لأمين، لولا حرب لبنان ووجوده بالتالي في فرنسا، أن يكتب الروايات هذه، بل غيرها، وبالعربية من دون شكّ. فهو على رغم عمره الفتيّ، لا يعد مثالاً للنجاح الأدبي في أوساط المهاجرين العرب، مثل ما قرأت في مجلة فرنسية ذات يوم. فهو من عائلة معلوف التي مدت الكتابة اللبنانية بغير اسم وريشة، لا سيما في الصحافة، لا بل كان متكوناً، إذا جاز القول، قبل إقامته في 1976 في فرنسا. غير قارئ لبناني، لا سيما لجريدة "النهار" النافذة، توصل إلى تمييز اسمه من اسم أبيه، رشدي، أحد الأقلام البارزة في صحافة الرواد في لبنان. سيتابع في باريس عمله الصحافي، بالعربية والفرنسية، وللمرة الأولى: في مجلة "المستقبل"، ومديراً لمجلة "النهار العربي والدولي"، ورئيساً لتحرير "جون افريك".
كتابه عن الحملات الصليبية من وجهة نظر عربية (1983) كان ضربته الأولى، ضربة معلم: سبع طبعات أجنبية (وغيرها قيد الاعداد حالياً). ثم الروايات: "ليون الافريقي" (1986)، في عشر طبعات أجنبية إلى يومنا هذا، "سمرقند" (1988) التي فازت بـ"جائزة دُور الصحافة" المرموقة، و"جنائن النور"، منذ شهرين، التي تحظى بنجاح أدبي ملحوظ.
الشهادات في فنه الروائي كثيرة: "الحكواتي العربي"، "السيد شهرزاد"... إلا أن روايات معلوف، عندي، هي نتاج صحافي قبل أي شيء آخر. أتبين فيه اليوم ما كان عليه في تحقيقاته الصحافية، والتي شملت ما ينوف على ستين بلداً. إلا أن تحقيقاته باتت، اليوم، معنية بأوراق التاريخ الممزقة. لا بل لا يتوارع عن القيام أكثر فأكثر، بتحقيقات مضادة: استعادة تحقيقات سابقة لتصويبها بعد العثور على وثائق وشهادات جديدة.
"جنائن النور" هي أكثر من سابقاتها ثمرة عمل صحافي دؤوب ومتين. فهو لا يزين حياة ماني وعقيدته، بل يجلب وثائق جديدة ويلحقها بهذا الملف المغبر. ولم يكتب روايته إلا بعد أن قيض له الوقوع على نصوص مكتشفة حديثاً في تركستان الصينية، وتيباسة الجزائرية والفيوم المصرية، ومتأتية من أتباع ماني مباشرة. رفض ماني الفكرة التي تجعل الكائن، لمجرد ولادته، تابعاً لهذا المعتقد من دون ذاك، وتناول معلوف بالتالي المنازع الاعتقادية للخلافات بين الفئات والشعوب.
من ليون الافريقي، الوسيط، إلى عمر الخيام، الشاعر، يذهب معلوف أبعد هذه المرة، حين يتناول جذور التعصب، عدم قبول الآخر التي يلتبس فيها الشأن الروحاني بمجرد المعتقد، والانفتاح بالطقوس الخاصة.
هناك نسمة للتعايش بين المعتقدات: نسمة القبول والتسامح.
أجد في هذه الخلاصة، في هذه الرسالة، شيئاً ممّا كان أمين معلوف يقوله قبل اندلاع الحرب في لبنان: التعايش ليس شرطاً واجباً للوجود عند كلّ مجموعة في لبنان، بل هو امتحان ورهان صعب، غير أنّه مثير للعجب والدهشة، إذا نجحنا في الفوز به. هذا الرهان اللبناني تعرّض لضربة قوية، إلاّ أنّه رهان المستقبل بقدر ما هو شرط العيش الآمن لأهل هذا الوطن المنكوب.
تحضرني مرّة أخرى، وأنا أكتب هذه الكلمات وأردّد عنوان روايته الجميل "جنائن النور"، صورة تلك الباخرة عند عودتنا إلى لبنان. اخترنا وقتها، وفي الليلة الأخيرة السابقة لوصولنا، تمضية الليل معاً فوق سطح السفينة.
باخرتنا الكبيرة تباطأت في الوصول إلى المرفأ الصغير. وكان الوقت كافياً لتبيّن بيروت وهي تنكشف أمام عيوننا كما لم نرها من قبل، وكافياً أيضاً لرؤية أشعة الشمس الطالعة من خلف التلال، لرؤيتها وهي تتساقط على القرى، على مدارجها، مثل جنائن من نور تحملنا الأشعة الأولى، إلاّ أنّها ما لبثت أن ضايقتنا بفعل السهر المديد، وانصرفنا إلى جمع حقائبنا في نهاية الرحلة وفي القلب قبس من نور.

(ألقيت هذه الكلمة بالفرنسية، في "معهد العالم العربي"، في باريس، في لقاء ضم داغر بمعلوف، في 5 حزيران-يونيو 1991، ثم نشرت جريدة "الحياة" أجزاء منها في 8 حزيران-يونيو 1991).