الرحلة مغرباً
غالباً ما أشارك في ندوات أو مؤتمرات من دون أن أشارك فيها، فلا ألبي الدعوة إليها إلا بمقدار ما تسمح لي بمتابعة حوار جار ومسبوق في ثنايا كتابتي: حوار بين ما أعمل عليه وما ترسمه الدعوة لي. المؤتمرات والندوات لقاءات كاذبة وحقيقية بالتالي: كاذبة إذ أنني لا أكتب إلا ما أنا عاملٌ عليه قبل تلقي الدعوة؛ وحقيقية كذلك إذ أن الدعوة تلزمني بالكلام، بإعداد جواب على أسئلة مطروحة، ومن طرف بعينه.
دعوة مجلة «العربي» العزيزة أتت من خارج هذا السياق: ما كنت أعمل عليه قبل وصول الدعوة لا يناسب بأي حال موضوعها أبداً. وانتهى بي التفكير في مصير الدعوة الكريمة إلى عقد مقارنة بين الدعوة هذه وعلاقتي بالمغرب: لقاء غير محسوب انتهى بي إلى التقرب منه واقعاً.
هذا ما قاد خطواتي إلى المغرب، وهذا ما قاد خطواتي في هذه الورقة، وهو أن الكتابة مثل الرحلة تستدعينا - إن قبلنا - إلى ما لا نعرفه بالضرورة، إلى فسحة تقيم بين الظن والرغبة، بين الضيافة والصداقة.
إلا أن المغرب لم يكن مجهولاً مني قبل وصولي إليه، لكنه كان أشبه بالقريب البعيد: وصلتني أخباره في كتب التاريخ والجغرافيا، ولكن مثل أخبار جدتي في التشيلي التي كنت أتسقطها من أبي الذي لم يعرف لها وجهاً إلا في صورة فوتوغرافية، كان يعود إليها مثل دارس آثار. لم أعرف للمغرب وجهاً في هيئة طارق بن زياد، بل في هيئة الطبيب «المغربي» الذي كان يجوب حيَّنا في بيروت، بـ«غندورته» المميزة وسبحته الطويلة ذات الحبات الحمراء، من دون أن أحسن الاقتراب منه لخشية مبثوثة في عتمة مقيمة.
سبقتني إلى المغرب، قبل وصولي إليها، صور قليلة، بعيدة، لم يزدها وقوعي في حيي الباريسي على مهاجرين مغاربة، بعد استقراري فيها. وهو ما جعل، من دون شك، من خطواتي الأولى في طنجة نقلة فيها من معالم الدهشة والغرابة. وما خفف منها، من دون شك، وقوعي على صبية مغربية لم أحسن الكلام معها، لا بالعربية ولا بالفرنسية، للتعرف على المقهى الذي انتظم موعدي فيه مع محمد شكري: بربرية أشبه بعالم بري، لو جاز التقريب.
في هذا كله ما أثار فضولي: في الهيئة، في الزي، في أطباق الأكل، في البناء والأثاث واللكنة وغيرها. علامات مختلفة، وسياقات مباينة لها، ما أبطل التلقي وأسقط أساساً هذه العلاقة القديمة، علاقة القُربى، التي ما وجدت لها نفعاً في هذا اللقاء الصادم. تضايقت حينها من هذا الشعور، إذ بدوت في حالة «المستغرب» - على وزن «المستشرق» -، بل في حالة «البصاص» على الرغم من انكشاف العلامات والسياقات أمام ناظري. بدليل أنني عدت إلى كتب فرنسية، لا مغربية، للوقوف على ما كنت أراه في المغرب ولا أعرفه.
أصابني في المغرب ما أصاب أوجين دولاكروا في طنجة، أو بول كلي أمام سور القيروان، أو راينر ماريا ريلكه في السوق «العربي» في تونس، أي هذا اللقاء الحار مع الضوء، مع اللون، الذي يجعل العين يقظة، متأهبة، مسحورة، يسيل منها ما ينضح في الحجر، في القماش، في زخرفات لامتناهية. وهو ما استوقفني في الخط الموسوم بـ«المغربي»، الذي أعده حتى اليوم أجملَ الخطوط العربية، والذي يجعل من كل مغربي فناناً بالفعل، لما في هذا الخط من هيئة فاتنة، أقرب إلى شجرة علامات، وارفة ومورقة فوق سطور وهمية.
المغرب مدرسة للعين، مدرستي على أي حال. بدليل أنني انقدت سريعاً، مثل أي سائح ياباني عند خروجه من جزره البعيدة والمنغلقة، إلى شراء آلة التصوير الفوتوغرافي، قبل حقيبة السفر. جعلني المغرب مصوراً فوتوغرافياً، أتسقط الضوء على جدران في وادي فاس، أو في غبار الأزرق الفتان في تارودنت، أو في ريشة مغموسة بالبحر في أصيلة... بل جعلني المغرب أنقاد إلى معاينة الفن، أينما كان، في أقمشة مراكش، أو في موجات محمد المليحي الزخرفية؛ وأنقاد كذلك إلى درسه، ما لم تكن تتيحه دراساتي السابقة، ولا هواياتي. وهذا يصح في درسي للفن العربي الحديث، أو للفن الإسلامي: كيف لا، وهو في مدنه العريقة أو المحفوظة خلف الغبار، وفي بيوته عمارة وأثاثاً، متحف حي، تناظره نهضة تشكيلية، كنت أحد شهودها المبكرين.
لهذا فإن الحديث عن المغرب، عن مغربي (كما يحلو لي أن أقول)، حديث عن سيرتي التأليفية، بدليل ما صرفت فيه من المجهودات، من تنظيم مؤتمرات وكتابات، وإقبالي على نشر عدد من كتبي فيه. إلا أن للمغرب أثراً أبعد، في هويتي النفسية (إن جاز القول)، غداة خروجي من لبنان المشتعل في حروبه، إذ كان المغرب جواباً على ما كنت أفتقده: كنت أجد فيه مناعة أفتقدها، وطمأنينة وإن لها ملامح الحنين إلى الماضي. كنت أتحقق، على سبيل المثال، من أن المغربي يؤثث بيته مما ينتجه، «من البابوش إلى الطربوش»، حسب العبارة القديمة. كما كنت أستطيب فيما أتحقق من أن له مطبخاً، أي تقليداً راسخاً في آداب المأدبة، يجاري فيه المطبخ الفرنسي أو الآسيوي: كيف لا، وقد أمضيت وقتاً ممتعاً، ذات غداء في الدار البيضاء، أصيخ السمع فيه لـ«مؤرخ المملكة»، يحدثني عن أطباق الأكل التي تعد للملك، والمحفوظة في «المخزن» منذ قرون وقرون.
في «كتاب التعربف» لابن خلدون يتم الحديث عن «الرحلة شرقاً وغرباً»، حيث أن طرفَي العالم يتعينان بين هذين الحدين. كان المغربي مثل المشرقي يقفان الواحد إزاء الآخر، حيث كانت القِبلة شرقاً، والمغرب يتوزع بين أوسط وأقصى. هذا ما فعله غير مغربي، من ابن عربي إلى ابن خلدون، لأداء فريضة الحج خصوصاً، فيما ننسى أن بناة القاهرة أتوا من المهدية في إفريقيا (أي تونس الحالية)... وهذا ما فعله ابن بطوطة أبعد من غيره إذ اتجه صوب الشرق البعيد، في ترحال أكثر منه في خطة سفر معلومة، وفق خطوات تفصح عن نزواته ورغباته وتقلباته ومصالحه المتغيرة أكثر مما تفصح عن وجهة مسبوقة.
الوجهة كانت مشرقية لعديد المغاربة، ما بقي أثره في كتابات وسلوكات عديدة وجدت في المشرق الأصل أو الأنموذج أو التقليد. وهو ما اتخذ في أحد كتب محمد بنيس النقدية تسمية المركز والصدى، وهو ما اتخذ منقلبه عند محمد عابد الجابري في فصله بين البرهانية والعرفانية، إذ جعل من المغرب العربي صاحب التعيين الإيجابي قي تعريف العقل، ومن المشرق العربي صاحب التعريف السلبي.
في هذا الحوار المشرقي-المغربي نزاع مكتوم في قسم كبير منه، ومعلن في بعض حوانبه. نزاع لم يتحقق من تعريفات الشبكات الجغرافية-السياسية التي تعين، قبل الشعارات السياسية، ولا سيما القومية، حقيقة التبادلات بين المشرق والمغرب. فما كان عليه تعالقُ المشرق بالمغرب، أو العكس، في الفضاء الإسلامي مختلف عما هو عليه في الفضاء الاستعماري، بل في الفضاء العثماني كذلك (حيث أن المغرب بقي، بخلاف الجزائر وتونس، خارج هذا الفضاء).
أتيت إلى المغرب لأول مرة من باريس، كما قلت، وحللت في طنجة بدوري بوابة للمغرب. وهذا لا يدل - إن استعدت النظر في مسار رحلاتي مغرباً - على مساري الشخصي وحسب وإنما على واقع يتعداني. بدليل أنني لبيت دعوتي الأخيرة إلى المغرب، قبل عام، وأنا في بيروت هذه المرة، عبر باريس أيضاً. لم يعد بلوغُ المغرب ممكناً من دون عبور باريس. وهذا ما يمكن التحقق منه في الكتابات أحياناً، حيث أن قراءة كتب مغربية تستلزم في فك شفراتها أحياناً العودة إلى كتابات فرنسية كذلك. لم يعد المغرب، ولا المشرق، طرفا علاقة تتعين في نطاقِ محيطٍ بهما مباشرة، بل باتا معاً ضاحية، بمعنى ما، لما يقع أبعد منهما. وهذان الطرفان لا يتناظران، كما في بيت شعري عمودي (لو جاز التشبيه)، وإنما باتا شاخصين إلى غيرهما، مديراً تقريباً الواحد ظهره للآخر، حتى أنهما لا يلتقيان عميقاً إلا بواسطته. لا أقول هذا من بات التشكي أو التحسر، وإنما من باب الوصف: وصفُ ما نمتنع عن رؤيته، وهو ماثل للعيان. وفي هذا ما لا يضيرني أبداً، إذ أن التطلع إلى باريس أو بروكسل يعني في بعضه التفتحَ والتعلم والتجدد، لا الانغلاق الراكن إلى موروثه بطمأنينة الغافلين.
لهذا لا أعرف معنى ما تقصده الندوة في عنوانها الفرعي عن «الوحدة في التنوع»، ذلك أن لا الوحدة ولا التنوع حاصلان، ولا ممكنان، في الواقع الحالي. ومضى الزمن الذي قال فيه ابن خلدون أن المشارقة والمغاربة يختلفون وحسب في الكسكس والبرنس. فلم نقرأ محمد شكري في العربية إلا بعد ترجمته إلى الإسبانية والفرنسية، ويحدث مراراً أن يلتقي مشارقة ومغاربة في جامعات ليون أو لييج، أو في بينالي ساو باولو. إلا أن هذا لا يغيب عن بالي أن أبا القاسم الشابي عرف جبران خليل جبران قبل ألفريد دو موسيه (الذي طالما استشهد فيه الرئيس الراحل الحبيب بورقيبه في خطاباته)، وأن صوت عبد اللطيف اللعبي علا حاراً في بيروت قبل باريس...
لا يسعني في هذه الورقة أن أقيس سيرتي بما هو أبعد مني، وإن يشملني. فأنا كسبت في المغرب صداقات، لا أخوة؛ واستوقفني فيهم اختلافهم عني، على الرغم من أننا نتكلم اللغة نفسها، ونمتلك مرجعيات متشاركة في كثير منها.
أيعني هذا أنني أصرف وزن «القريب» على وزن «الغريب»؟ ولما لا؟! ألم يذكر الفرّاء أن العرب تفرق بين القريب من النسب، والقريب من المكان؟ ألم تميز العربية بين قُرب الذكر والعمل وقُرب الذات والمكان؟ وهو ما أتساءل عنه بدوري: أقريبٌ من القرب أم قريب من القرابة؟ ومن الذي ما هو بشبيهك ولا بقُرابة من ذلك؟ وأين الدنو في النسب من القربى في الرحم؟ وماذا عن التقرب؟
لهذا أجدني فرحاً في القول: المغربي إمكانٌ آخر لما كنت عليه، بديلي أو قريني، جاري أو توأمي الافتراضي. آخر، لا شبيه، وإن كانت لي صلات به تُسهِّل الصداقة أكثر مما تحيلني إلى أخ مفقود أو غائب. ذلك أنني تقربتُ من المغربي بما هو، على أن فيه ما يمكنني من رؤية ما يخالفني، ما يجددني.
(شهادة في ندوة «حوار المشارقة والمغاربة : الوحدة في التنوع»، التي نظمتها مجلة «العربي»، الكويت، 4-6 كانون الأول-ديسمبر 2004).