شوق باريس يتبعني

عليَّ ان أتفقد الأغراض غرضاً غرضاً، أن أتلمسها، أن أحسها، أن أزنها، أن أدسها، أن أقرر في شأنها، في عجلة من أمري: هل أوضبها في "الكرتونة" أم في سلة المهملات؟ في الأمر حيرة وشيء من الوجع، لا يوازي طبعاً حيرة الممثلة ميرييل ستريب ولا وجعها، في فيلم "خيار صوفي"، حين كان لها أن تختار، تحت تهديد البنادق النازية، بين أن تودي بابنها أو ببنتها إلى القتل. وجع، مع ذلك، خاصة وأنني أشم رائحة الأصدقاء، لون الهدايا القديمة. أشم ذكراها بالأحرى، ذلك أن رائحة السنوات ليست عطرة أبداً.
أقع على صور وكتب وأحذية وأقلام في كم متناثر، هو مجموع ما عولت عليه في مدى سنوات وسنوات. أنحي وأحتفظ على عجل، مثل شريط فيلم مسجل يكر أمام عينيك، ناظراً إلى كل الصور، ولكن بلمح البصر.
الصورة تستعيدها، الذكرى ترويها، تخفيها، أما الغرض فيمضي إلى غير رجعة، بل تنساه تماماً، كأنه ما كان أبداً، وما عرفته. هذا أفضل، ربما. أتحسس الأغراض، وأدفعها في هذه الوجهة أو تلك. أدفعها مثل هذه العبارات: متجمعة على نفسها، تحتاج إلى من يقلِّبها، ويستبين ما فيها. أدفعها مثل ضربات مركزة، لن أتحقق منها إلا بعد وقت.
هل أقوى على الإتلاف، على الحرق، على الرمي؟ أعرف أن يدي كانتا أسرع في التخلي فيما مضى: كيف لا، وأنا قررت ذات نهار، تحت جنح الظلام، بين قذيفة وأخرى، أن أحزم شيئاً من متاعي، وأمضي: يومها استدعيت صديقاً نسيت اسمه اليوم، وكان من بعلبك، وأهديته عدداً من قمصاني وبناطيلي وكتبي. سافرت يومها مع كتاب وحيد، هو "لغات العرب الحاضرة" لجاك بيرك، الصادر عن دار غاليمار: احتفظت به لأسباب أجهلها، خاصة وأنه كان محروقاً بعض الشيء في صفحاته الأخيرة. قضيت سبعة أيام في ليماسول القبرصية بانتظار الرحلة إلى باريس، وأنا أحاول القراءة فيه، من دون جدوى. لم يكن الكتاب محترقاً وحسب، بل مسروقاً من دون شك: عرضه علي أحد المقاتلين للبيع، وحين ترددت في شرائه وإن بليرتين، دفعه في وجهي: "خذه، أنا لا أحسن القراءة بالفرنسية". احتفظت به من دون أن أقرأ فيه منذ تلك السنة البعيدة سوى صفحات معدودة.
استوقفني مصيره حين أودعته إحدى "الكراتين"، وقد وضعته مع كتاب "السد" لمحمود المسعدي، و"موسم الهجرة الى الشمال" للطيب صالح وغيرها من الكتب التي تتعايش مكرهة في رحلتها صوب "شرق المتوسط". سعيت، مع "الكراتين" الأولى، إلى وضع الأعمال الشعرية الكاملة لراينر ماريا ريلكه إلى جانب كتب عن سيزان، إلا أنني، مع تزابد "الكرتونات"، مضيت في رصف الكتب كيفما اتفق، مثل الهارعين إلى حافلات المترو في زحام المساء. كتَّاب يتعايشون تحت سقف "كرتونة" واحدة لمدة تزيد على 21 يوماً، فيجد البعض منهم فرصة لتبادل عبارات التعارف، والبعض الآخر للعيش الإكراهي: هل يستغل السياب هذه اللحظة لكي يقول...؟
(...).
ماذا أجمع؟ ماذا أنحي؟ والكتب متقطعة في تتابعها: أجد بعضها يتتابع في نوعه في سنوات وسنوات، مثل كتب الألسنية، ثم لا يلبث أن ينقطع. أعداد متلاحقة من مجلة "لير"، ثم لا تلبث أن تنقطع هي بدورها. مجلة "مواقف" تتوقف في مكتبتي عند العدد 18. أجد الكتب التي اشتريتها، والكتب المهداة: أقع في الكتب الأولى على ختم أحمر صغير في الصفحة ما قبل الأخيرة، وفي الكتب الأخرى على إهداءات تستوقفني عبارات بعضها: "الساحر"، "النبيل"،... ألقاب جميلة كلها بطبيعة الحال، لكنني لا أجد فيها ما يدلني على صورتي المقلوبة.
توقفت أمام كتب وضعتُ سطوراً تحت بعض جملها، او تحت كلمة فيها وحسب، مثل لفظ "التناسج" في أحد كتب رولان بارت: أتحقق من كوني لا أزال أذكر هذا اللفظ، وأقوى على العودة إلى الصفحة التي استخرجته منها من دون تردد و"عالعمياني". وهناك كتب أخرى فقدت ألقها، اصفرت على عجل، حتى أنني اتساءل عن أسماء أصحابها. كتب أفتحها، من دون أن أتعرف إلى وجوه فيها، مثل أدلة "مواسم أصيلة".
أرى إلى بعض الكتب على عجل، مواربة، على الرغم من أنها شحذت إنفعالاتي وتركيزي وشدتني إليها في علاقة كنت أراها أكيدة، شديدة، وها أنا أتبينها مهزوزة، ذات حفر ومهاوي تتكشف عنها خطوطها المتتابعة والمرصوصة. كتب لا تزال في حالة مقبولة بعد الإستعمال، ولا أرى سواد أصابعي إلا على صفحات "المنهل"... (...).
أُقلب الصور. أقلب وجوهي في الصور، في الألبومات، فلا أرى الشعيرات البيضاء التي أراها اليوم في لحيتي. وأنتبه إلى كوني كنت أدخن الغليون، وأنني كنت... أرشق.
كمٌ متراكم من الأغراض والحاجيات، لا يلبث على فوضاه أن يرسل إشارات ضوئية، بعضها قوي، وبعضها الآخر خافت. أرى إلى وجوه شاركتها في مناقشات أو عشاوات، في مؤتمر أو ندوة، فأصرف وجهي عنها، على الرغم من المجهودات التي أمضيتها حينذاك في الكلام، في الإقناع. أمضي عن وجوه على عجل، وتبقى وجوه من دون أن أرى صورة لها (...).
أسحب "فيشة" التلفون، أحمل معي المسجلة الهاتفية، وأغلق الباب الخلفي، من دون أن أدير ظهري الى الوراء، متلمساً في جيبي علاقة المفاتيح التي لم يبق فيها سوى مفتاح حقيبتي الجلدية الصغيرة.

نصف ساعة بعد منتصف ليلة 25 تموز-يوليو) 1994
أضرب على الهاتف الأرقام التالية: 47988907، فلا أقع على صوتي المتثائب على المسجل الهاتفي، بل على رسالة من إدارة الهاتف تقول بانه "لم يعد معمولاً بهذا الرقم".
تلفون في بيتي المؤقت، إلا أنه لا يرن أبداً.
انقطعت عن الأخبار لمدة أيام بكاملها، من دون أن أقرأ "ليبراسيون"، ولا "الحياة"، ومن دون أن أتابع نشرة القناة الثانية. أقع على عدة أقنية، من سي. أن. أن. حتى القناة الإيطالية الأولى، ولكن ماذا أرى؟ وماذا أسمع؟ أنقطع عن متابعة المجريات، من دون أن يربكني هذا الانقطاع، مثلما كان يحدث لي بعد عودتي إلى باريس من رحلة إلى الخارج. كنت أتلهف إلى العودة، إلى سماع ما حصل لهذا وذاك، بعد أن أكون قد تركتها على نار الأحداث الساخنة، أو في ملف المتابعات الهامة المفتوح. حدث لي غير مرة أن عدت إلى أعداد جرائد سابقة، من دون أن أعرف حرارة الانتظار والتوقع، وانتبهت إلى ان الحياة تعاش في لحظاتها، لا مثل طبق مجلد، ولا مثل فيلم مسجل.
كيف لي ان أتابع الأخبار، وأنا لا أقوى بعد على النظر بعد "الكراتين"! أعايش أحداثاً لا أتحقق من تتماتها، ولا أسعى إلى تبينها، بل أرى وحسب إلى اندفاعاتها العميقة.
(...).
الشباك المفضي إلى الرصيف الأرضي مفتوح من دون أن اسمع وقع خطى في الشارع: غريب في بيت تعرفت إلى صورة مستأجرته - التي أعارتنا إياه - في لوح خشبي معلق على حائط في الممر. لا أنتظر أحداً، ولا رنة تلفون.

السادسة مساء، 29 تموز-يوليو
"السين" مبسوط مثل قماش على حبل غسيل في عرض "طريق بومبيدو". أكاد من السيارة أن أمد يدي لملامسة هذه المياه الهادئة، التي تخفي اعتكاراتها الداخلية.
وضؤ طري على الجدران، كما لو أنني قرب نهر آخر، في أفينيون، وأنا أرى إلى أخيلة أغصان الشجر على الحيطان، مثل مسرح حي.
ها أنا أرى إليها، وأنا أغادرها. أتحقق من ضوئها وهو ملقى بطراوة على موادها وأحجارها. ملقى مثل لمسة لونية في لوحة لبونار. أراها مبتهجة بعد طول اعتياد - هذا الاعتياد الذي يقتل الصور، يميتها، فتبدو منطفأة في جهامتها الرمادية.
أأشتاق اليها قبل أن أتركها؟ ربما، إلا أنني لن أعرف الشوق اليها إلا عند العودة عليها. هذا ما كان يحدث لي في السنوات الماضية، حين كنت أعود إليها من رحلة، فأجدني في غفلة من أمري أرتجف بمجرد أن تهتز سيارة الأجرة وهي تتقافز على بلاطات الشوارع الباريسية بعد "باب إيطاليا".
وأقول لنفسي: الحنين يسبقنا، أما الشوق فيتبعنا.

حلم ليلة 2-3 آب-اغسطس
رامز نائم. عادل يدلني على قصر، أو على حصن، أو على قلعة. بناء متين ومن حرير. مناعة ورهافة في البناء في آن. قلعة مقببة، ذات عقود دائرية، من دون أن أحيلها إلى مبنى أعرفه. لعلها تشبه البيت الأندلسي الذي اقتادوا إليه أنجليك في فيلم ليلة الأمس. القلعة ملونة، إلا انني نسيت لونها.
أرى إلى أمي في لقطة جانبية. أراها من الباب وأنا عابر. كانت ترتب "أوراق العنب" في صفوف متعالية مثل زقورة رافدينية، بعد أن تركتْ إلى جانبها "جاط" التبولة العارم.
في الصباح سألتْني، حين رويت لها هذه الصور الحلمية، ما إذا كنت أكلت من طبقَي الأكل. كدت أقول لها: بلى، وبتلذذ، لكنني لا أكذب في أحلامي: "لا، ما أكلت". "لحسن الحظ، لأن من يأكل من طبق الموتى...".

8 آب-أغسطس
مطر خفيف، وفي الراديو أغنية لجاك ديترون أحبها: "الساعة الآن، الخامسة صباحاً. باريس تستيقظ، المخنثون حلقوا ذقونهم وراقصات التعري ارتدين ملابسهن من جديد. المسلة منتصبة بين الليل والنهار. الجرائد مطبوعة، والعمال يائسون. إنها الخامسة صباحاً، وأنا لا أقوى على النوم".
أنا لا أقوى على النوم ولكن لأسباب أخرى، مع الترتيبات الأخيرة قبل طائرة الغد. أقع على شريط تسجيل لأغنية وردة "بتونس بيك، وانتَ معايا": أضعه في الحقيبة وأشد على يدها اليمنى.
("يوميات" في شهري تموز-يوليو وآب-أغسطس 1994، قبل مغادرة فرنسا والعودة إلى لبنان في 12 آب-أغسطس 1994).