زمن الكافيتيريا

 

قرأت في كتاب نسيت اسم شاعره العبارة التالية:
«كلُّ منا يُحرِّك، ما استطاع،
في وقائع، توهماته الخاصة».
وهي عبارة لا تفارقني حين أمعن النظر في ما حرَّك أيامي، ولا يزال، تحريكاً جَبلتْ فيه التوهماتُ أو التخيلات أو التصورات، الوقائعَ جبلة خاصة، لها نكهة ومناخ انفعالي وألق. ذلك أن بين التوهم ووقائع الحياة وشائج، لنا أن نتبين فيها، مع تقادم العمر، ما يعود الى فتوة العمر وحيويته الخاصة، وما يعود الى ممكنات العيش نفسها ونداءاته. وهي الوشائج عينها التي أتحقق منها، اليوم، وأنا أرى الى هذه الجدران الكالحة، وكانت تبدو مثل قلاع غزو للعالم، والى هذه العتمة البادية، وكانت مشعة بأنوار لا تخبو فيما مضى.
لعلي أقبل، ذات يوم، على كتابة بل على جمع ما انتهيت الى كتابته في أمكنة مختلفة من العالم، عن المقهى، واسمها الأول في لغتي: الكافيتيريا. فأنا أتحقق، اليوم، من أنني ما توانيت عن الكتابة عن مكان واحد، أو انطلاقاً منه، هو هذه الكافيتيريا المعتمة والكالحة، التي تغمرها مياه الشتاء في أيام عديدة من السنة. كما أتحقق من كوني «تخرجت» منها أيضاً...
لعلي أقبل ذات يوم على فعل ذلك، بعد أن تنبهت الى محل هذا المكان بين الأمكنة التي ارتدتها، من الصخرة التي تقع في نهاية الكرم بعيداً عن عيون القرويين، الى زاوية على سطح البناية جعلتها مرصدي الأول، وصولاً الى مقهى «كلوني»، «مكتبي» الآخر. ولو كان لي أن أختار بين هذه الأمكنة، التي نقضي فيها ما يقل أو يزيد عن الحيوات التي نقضيها تحت سقوف بيوتنا، لجعلت من هذه «الكافيتيريا» عتبة الرشد، طالما أنني أتبين أمام درجاتها حقيقة تلك الاندفاعة التي جعلتنا نقبل على العالم من دون هوادة، من دون تردد، فكان يكفي - كما كتبتُ ذات يوم - أن أتقدم لكي تنبسط الدرجات أمام خطواتي، بخلاف ما يحدث لي، اليوم، حين أتحقق من المساقط التي تحل بها قدمي قبل أن تصبح خطوتي.
ما كان لي أن أتخيل، فيما مضى، أنني سأقف ذات يوم هذه الوقفة، ولا هذه الجلسة، أنظر فيها الى هذا المكان مثل موقع أثري، ذلك أنني كنت منصرفاً الى أفعال ومتابعات ورغبات تستنفذني وتستنفرني، فلا أقوى على الانصراف الى غيرها. ففيها ما يكفي، ما يعوض عن الخارج كله - هذا الخارج الذي ألهث اليوم في تتبعه من دون جدوى. كيف لا أقف فيه هذه الوقفة، وقد جعلت من هذا المقهى مكاناً اجتمعت فيه صبواتي ومكائدي وحماقاتي! كيف لا، وكنا نقول في الكلية: هناك جماعة الصف، وهناك جماعة الكافيتيريا. وهو فصل يشير الى نقلة ما كنا نتحقق من جسارتها في ذلك الوقت، ومن أنها تدفعنا في عالم لا عودة لنا منه، ولو أننا سنتذوق لاحقاً، ببطء ومرارة، طعم الخيبات. عالم لن نعود منه، ويدفعنا الى البحث عن معنى للحياة، للإنسان، لا نجده فيما توارثناه وظنناه هوية يمكن لنا أن نتباهى بها، وأن نرفعها مثل نشيد أخرق. ذلك أنني أجد في النزول على الدرج، في دخول هذه العتمة، في التعرف على الطاولات والكراسي، ما يوازي اجتياز مناطق وثقافات، تبعدنا عن مناطقنا وأهالينا، وتشبكنا في علاقات أخرى، لنا ان نتبين فيها، مهما قيل عن حدودها الضيقة، شيئاً من العبور الذي يعينه أهل افريقيا على أنه دخول الفتى في عالم الرشد، في عالم الرجال. دخولُ عالمٍ أتهرب وأتخلص فيه ممن تصلني بهم - وهذا ما حدث لي غير مرة - صلة قربى أو نسب الى منطقة قروية واحدة، حتى أنني تبرمت ذات يوم وتساءلت عن معاني علاقتي بصديقة من عهد المراهقة، وقد التقيت بها في الكافيتيريا بعد سنوات. كيف لا، وكنت أدعو صديقتي الى التنزه في حدائق الجامعة الأميركية الظليلة والوارفة، أو في الجادة البحرية القريبة، الى جانب العمارات المترفة، ولكن كمن يسوح خارج بلده، فلا يعنيه ما يقع عليه إلا من باب الفضولية. كيف لا وكنت لا أبالي بوسخ كنت أتحقق منه على الطاولة أو الكرسي، ولا بطبق أكل كانت صديقتي تتقزز منه، ولا بعتمة كانت تستنكرها صديقة أخرى قادمة من «كلية بيروت الجامعية».
لا أزال أحتفظ بلحيتي منذ ذلك الوقت، إلا أنني أقلعت عن تدخين «الجيتان» وغيرها. ويحدث لي حين ألتقي ببعض صداقات الكافيتيريا أن أستعيد معهم ضحكات وحركات وغمزات لا يعرفها غير الذين يترددون على حياة الرشد بهوس المراهقين وشيطنتهم وخفتهم. لا تزال صداقاتي تنهل من هذا الينبوع، على الرغم من سنوات البعاد والهجرة، حتى أنني ضحكت، ذات يوم، حين تحققت من أنني أحتفظت إزاء واحد من معارف الأمس، وفي باريس، بعادات الخصام الايديولوجي السابقة.
لا يزال طعم أيام هنية ومحفزة تحت أضراسي، ولا تزال «الدار» تدور فينا، كما في أغنية فيروز، مدركاً أنني لن أقوى على قصقصة الورق، ولا على صنع أناس منهم، مثلما كانت تقول، رغم ان سخافة هذا الزمان وتفاهته تدعوني الى ذلك.
أعلم أن رصاصة الحرب الأولى انطلقت من الكلية هذه، أمام محطة البنزين المجاورة، إلا أنني أتحقق في الوقت عينه من أننا ما كنا ندرك هشاشة هذا النظام فعلاً، وأعلم حق العلم، اليوم، أن غيرنا كان يعلم ذلك، وأنه كان يصوب أسلحتنا الى الغصن الرقيق الذي كنا نقف عليه.
بلى، نحن صدقنا الأكذوبة الجميلة التي نهضت عليها هذه الدولة، وكنا، على ما أعتقد، أولاد «الميثاق الوطني» البطرانين: كان يعنينا استعجال الحصول على التركة، والتسلم السريع لمقادير البلاد. لا أقول أن العنف لم نجاوره - وأنا تحققت منه في الكافيتيريا، منذ سنة دخولي الأولى اليها، بين تنظيمين شيوعيين متنافسين -، إلا أننا كنا نهوى اللعب... كنا الضجر الماثل والصبر النافذ في تركيبة لبنانية ما كنا نطيقها ولا نحتملها بما هي تركيبة تحدنا في أصولنا، في منشئنا، لا فيما ننتجه ونصوغه ونحلم به ونتوق اليه. كنا الاقبال عينه الذي لا يرضى من الحبيبة بغمزة الدرج، واللقاء الحيي في النزهة. كيف لا وكنا متأخرين عن عيش عمرنا، هذا العمر العاطفي الدي كنا نعيشه مع عمرنا الحنسي. ففي هذا المدى كنا نعيش مراهقتنا وشبابنا في آن، في صورة ملتبسة... كنا نضجر، ونطلب شيئاً أبعد من حدود العائلات المرسوم لنا. لهذا أجد في ما عشناه وفعلناه فعلاً تمدنياً، لا إيديولوجياً أو سياسياً في المقام الأول، ولو أن عوارض الريف بادية في حركاتنا وأفعالنا.
كنا نتعلم المرأة، فيما يتعدى العلاقة بـ«بنت الجيران» والزيجة المرتبة. ونتعلم الوطن، فيما يتعدى العلاقات العائلية، أي تخلصاً من الولاء وصولاً الى العقد الطوعي الايديولوجي. كيف لا نقول ذلك، كيف لا نرفعه مثل إدانة في وقت لا نقوى فيه على تبين علاقات غير علاقات النفوذ المالي والولاء التبعي. أعتقد أننا حَمَّلنا أنفسنا الكثير من مسؤوليات الحرب، وهي لم تسلم من عبثنا الأخرق في السنتين الأولين منها، إلا أننا عملنا، في الوقت عينه، الى الخروج من أسر تقاليد، طمعاً بصوغ علاقات مختلفة، هي علاقات الرغبة والتجدد في آن. وإلا كيف لنا أن نفسر قبول الطالب بعلاقات «نقد ونقد ذاتي»، وبعلاقات تراتبية جديدة تجمعه مع المسلم إذا كان مسيحياً، ومع الجنوبي إذا كان شمالياً!
بلى كنا «نلعب»، وكنا »نزعبر« أيضاً، على أننا جعلنا ما يحيط بنا مسرحاً ومجالاً لفعل، وهو أشد ما نفتقده حين نرى، اليوم، الغلبة الطائفية والتقليدية، والمربعات المرسومة للتحركات فيه، التي تسم كل ما يحيط بنا وتصنع حركاتنا وتصرفاتنا.
أعرف أن عدداً من الأصدقاء تدبر مقهى جديداً، ولو أن الاقبال عليه تعترضه الزوجة والأطفال وتدبير العيش وسؤالات هذا الوطن المبهم، ومع ذلك فانني أجد على شفاههم، ما أن يروني، ابتسامة أو غمزة عين، تحيلني بسرعة الى هذا الألق الذي بات ماضياً فعلاً.
ها أنا أنصرف الى الكتابة، الى الفهم، الى التبصر والتحقق، بعد سنوات من الفعل أو توهمه، من التعبير أو نشيده، من الغفلة وتهويماتها، ومن توهم القدرة على التلاعب بمكونات الوجود والاعتقادات كما لو أنها تسبح في فضاء أثيري.
وها أنا أعرف، بعد أن أصبحت أزن مقادير الأيام بموازين ضيقة، أنني أحتاج الى قوى كبيرة من الاعتقاد والانفعال لكي تتقد أيامي من جديد بألق لا يخبو فعلاً، وهو أن نتوصل الى رسم رجاء انساني عاقل لهذه الذوات اللبنانية المتنافرة، التي تحتاج لأكثر من كافيتيريا واحدة لكي تتوصل الى العيش المشترك فعلاً، والى البحث عن مثال واقع في إيقاعات الحياة والرغبة والتجدد.
ذلك أننا، من دون ذلك، سنبقى، كما قرأت لشاعر نسيت اسمه، مقيمين في أجسادنا إيجاراً، لا ملكاً:
«لو أنني أسكنُ جسدي
ملكاً، لا إيجاراً
لوقعتْ
قدماي
في
حذائي
تماماً،
مثل إصبع في خاتمه،
إلا أنني أغيب
خلف تجاعيدي
وأنتظر خروج غيري من المرآة".

(كلمة في لقاء في "كلية التربية"، في 23 أيار-مايو 1996).