حيث يحملني صندلي
هذه الدعوة أحرجتني بقدر ما ثمنتها. أنا كثير الكتابة والمشاركة في المؤتمرات. إلا أني لم أشارك أبداً في أمسية. هي مرتي الأولى وربما الأخيرة، لكن الدعوة محرجة خاصة وأنها تأتي من رفاق درب في الثقافة، وتحدث في قريتي وقد لبيتها تقديراً لهم ووفاءً وواجباً تجاه أهلي بعدما غبت عنهم زمناً طويلاً.
(...).
أستعيد، اليوم، ما جرى قبل أيام عندما خرجت من هذا الدير، إثر مشاركتي في مأتم، عائداً إلى بيتي. سلكت يومها درباً قديماً ما عاد يسلكه أهل القرية، بعد أن كان دربهم الوحيد للدير قبل سنوات. وعدت راجلاً إلى البيت، وتجنبت بالتالي الطريق الإسفلتية الجديدة التي باتت تصل الدير ببيتي وبيت غيري.
في نزولي هذا استفاقت بي روائح المشي القديم، واستعدت صوراً فاتنة أو راكدة، مثل العطر المستبقى في ذاكرة الزهر اليابس. ورحت أستعيد خطواتي فوق هذا الحجر أو ذاك، وانتبهت إلى أن العشب علا الممرات والدعسات التي كانت قد مهدتها وسوتها خطواتي وخطوات الأسلاف والطارئين.
سعيت، للحظات، إلى استعادة سبيلي في الدرب القديم، ثم استبدت فيَّ شهوة صندلي القديم إذ كان يتنقل بي بخفة، فوق الدعسات المالسة وخارجها في آن. لكنني وجدت شجر الجوز قد خفت بريقه، مثلما غابت عني أصوات كانت تحيي الهواء فيما مضى بموسيقى خفية ولكن محفزة. وكنت في كل خطوة نازلة أتعجل أو أتمهل تبعاً لإيقاع، يحملني فأتبعه، وأدفعه فيسبقني.
يومها قلت لنفسي: لدروب الحياة مسارات تبنيها وترويها، مثل دروب الكتابة؛ وللخطوات حركات أشبع بتدافعات الكلام.
هذا الدرب الواصلة بين الدير وبيتي هي أكثر من درب، ولغير سبب وصلة. لكنها لي خفيفة، متباعدة، منذ وعيي الأول بها، ولكن من دون أن تنقطع أبداً. إذ تنبهت في أحاديث الأسلاف القريبين إلى طول عهد عائلتي بالدير، الذي انقطع في بيت جدي لأبي، مع أخيه، الأب ليباوس داغر "الثاني" كما نسميه. صورته الفوتوغرافية المتبقية أحتفظ بها في بيتي، اليوم: صورة متجهمة وحازمة في آن. وسعيت قبل أعوام، بعد عودتي إلى لبنان، إلى استنساخ أحد كتبه، الذي فتنني في طفولتي بوجوده نفسه: بهاء صناعة الكتاب والكتابة، طالما أن هذا الجميل والصعب المنال والثقيل بقيمته هو بمتناولي، ومن صنع قريبي.
بلغتني هذه الصلة بالعربية مثل تركة، إذ أتحقق من أن يدي، في أول عهدها بالكتابة، كانت "ثقيلة" تماماً بما تحمله، واستعارت يداً سبقتها إلى الفعل عينه. شغلتني حينها في الكتابة سطوتها الخفية، سطوتها الآمرة على كتابها قبل قارئها، في قدرتها على توليد الكلام، على بناء الجمل، على النطق السليم والتشديد على مخارج الحروف، على انتظام ذلك البهاء الشكلاني الفاتن.
وما حسبت، يومها، أن لهذا الإنشاء العالي صلة بخطابة، وانتساباً إلى صف طويل من الكتاب والواعظين والمجودين، ومسحاً لحيز مكاني في ميدان الجماعة. كنت لاهياً عن ذلك بهذه "اللعبة" الجميلة، التي لا تكلفني شيئاً لشرائها، بل أصرف لها خير أوقاتي من دون تكلفة من أحد، والتي أتغاوى بها في سري، في انكفائي، في احتياجي إلى ما يكفلني في ذاتي من دون غيري.
وتباعدت هذه الصلة بمقدار نشوء نمط آخر للثقافة وللمثقف، لكنني استبقيت منها، مثل عديدين غيري في قرى تنورين، هذه الصلة المخصوصة بالعربية، التي عنت في ثقافة أسلافنا القريبين، ومنذ مطلع القرن السادس عشر - على ما تحققت في دراساتي لاحقاً - بناء بل فضاء للثقافة والمعرفة. إذ كانت تعني في حسابهم، لا اللغة وحسب، وإنما أيضاً أداة التعبير وعالم المعرفة نفسه. وعنت العربية، في هذه الحالة، ملكة كتابية، أتحقق منها – حتى أيامنا هذه - في القدرة الإنشائية التي تعوض عند البعض عن التفكير باللغة والتأليف بها.
وكان علي، بعد دخولي إلى الجامعة، أن أتباعد عمداً عن هذا الإرث، وأن أتحقق من كون الكتابة هذه تقوم على مفارقة لافتة: أقصى طموحها هو الإمساك بناصية الكلام، والأداء به، على أن تكون الكتابة معدومة النبرة الشخصية، عمومية، بمعنى ما: هو العهد الديني في خدمة الكتابة والجماعة، إذ كان الراهب فيها "معلم" القرية "تحت السنديانة"، أو "خطيبها" البليغ في العظة والتأبين والمناسبة الاجتماعية، أو "كاتبها" في تدبيج "معروض" أو "حجة" عقارية.
وتقع المفارقة هذه أبعد مما أقول - على ما تحققت منها في دراساتي لاحقاً – إذ أن الراهب أدى دوراً هو غير ما رسمته أساساً مسلكيات الرهبنة عموماً، وهي الانعزال عن الناس والتعبد إلى الله، بعيداً عن الاختلاط. وإذا به "كاهن رعية" ومعلم ومزارع وفنان وغيرها من الأدوار التي اقتضتها في حسابات الرهبان المؤسسين ولاحقيهم حاجات تاريخية، تعليمية وثقافية وذوقية وغيرها، تبينوها في واقع الجماعة.
بدوري وصلت إلى الكتابة وفق طرق شتى غير التي قصدتها؛ وبعد غيري انسقت في تدافعات الكتابة من دون أن أتبين حاجتي منها من حاجتي إليها للوصول إلى الآخرين.
أحتفظ من علاقاتي بهذه القرية بصورة فردوسية، بصورة الحرية الطبيعية أو تعلم دروس الحياة الأولى والأساسية، حيث أننا على عتبة ندخل منها ونوقع شكل خطواتنا على الأرض الترابية الطرية. وهي صور في ظني تعود إلى أن علاقتي بها اقتصرت، واقعاً، على إقامات صيفية ما تعدتها أبداً.
كنت أراها شاسعة، مفتوحة على الحياة والحركة مثل تداعيات حلم؛ حتى أن دروبها التي حفرتها دعسات البشر المتوالية بدت لي مجالاً لحركة حرة، طالما أنني أنتقل على هواي بخفة خطواتي، حيث يحملني صندلي. كما بدا الشجر لناظري يزرع وينمو لي وحدي، مع سنة ميلادي أو قبلها بقليل مما سبقني بسنة أو أكثر، مما هو قابل للسرد والحفظ وبوجود شهود عديدين.
وتراجعت هذه الصور، من دون أن تندثر رائحة التراب الطري، بعد أن تحققت من أن للقرية تاريخاً مكانياً، يصنعنا ويحددنا في آن: انتبهت إلى أن بيوت العائلة التي أتحدر منها تقع "فوق السكر"، وأن بيت جدي لأمي متجمع مع بيوت عائلته الكبيرة مثل حي منفصل، له حدوده الطبيعية البينة، وأن عائلات "الشركاء" لها ناحيتها العمرانية المتمايزة كذلك...
في طفولتي اعتدت اللعب بين هذه الأحياء، عابراً لها، بلهوي وشيطنات رفاقي، وهم من غير عائلة وناحية. ووجدت بعد سنوات وسنوات أن اللعب أوهى من قناعات راسخة ومتوارثة تجدد صوراً عن الذات والآخر، عما نقوله عن أنفسنا وعن غيرنا، وعما نخفيه أو نظهره...
قد أكون ظالماً في وصفي، أو غير دقيق، إذا أغفلت حركة أبعد باتت تخترق الأحياء هذه، وتشد بها إلى بيروت، أو مستيتا-بلاط أو الكورة وغيرها - حركة الخروج من المنبت المضيق والمنغلق، من الوادي إلى بيئات وأوساط جالبة لتخالط، وإن اقتصر في غالب الأحيان على أبناء الطائفة ذاتها.
يصعب علي في دير هو في تاريخ مبناه واعتقاداته دلالة على الرسوخ، وفي طبيعة محيطة استوقفتني فيها صخورها التي تقرأني أكثر مما أقرأها، أن أتحدث عما يحركني في كتاباتي، وعما كانت شواغلي فيها. ذلك أن مجرد تفكيري بالموضوع، بموضوع اللقاء، أقامني في علاقة مع هذا المكان، أظهرت لي شيئاً من التجاذب التوتر والمحفز بيني وبينه.
فالكتابة، أيا كانت- وهو ما توصلت إليه بعد طول عراك- اختبار في المجهول، على انه في البحوث ينطلق مما هو معروف، وفي الشعر مما يبدو أقل وضوحاً. كان بيكاسو يقول: "أنا لا أبحث، بل أجد"، بمعنى أنه لا يصرف الجهد طلباً للكنز مفقود، أو وديعة كامنة، لا يلبث أن يعثر عليها بعد طول تنقيب وتعب، وإنما هو العمل، المستمر والمتمادي، مثل أي صانع، على أنه يتوصل فيه إلى ما يقنعه، إلى ما يقر به، واجداً فيه لقياه – أخيراً -، أشبه بمسافرين - كما قلت في قصيدة - يتعرفان على بعضهما البعض في نهاية الرحلة، أو أشبه بالوليد الذي يعترف بعد ميلاده بأبيه.
كان لي، بعد دراستي في بيروت، أن أتعلم الوقوف في الصف في باريس: هذا في الخط الطويل للفوز ببطاقة الإقامة، أو في مقاعد الجلوس - وهي غالباً في الممشى - في أروقة "السوربون" لكي أتعلم دروسي الأولى.
وجدتني كما لو نني أدخل المدرسة هذه المرة، أتعلم حروف الهجاء مرة ثانية.
وجدتني أدرس العلوم من جديد، حتى أنني بنيت ثقافتي، فيها، لا مثلما حصلتها على عجل، بعسر هضم في بيروت، في أيام شغلتنا فيها عن الدرس شواغل الحياة والوطن، ولكن بخفة ما تنبهنا إليها إلا بعد وقت - خفة المباني التي أدت إلى الحرب وأشعلت وقودها كذلك. باشرت الكتابة قبل الحرب، إلا أن خسارتنا في الحرب - وهي خسارتنا جميعاً، مع فروقات في المسؤولية ليس إلا - هي التي قادتني في مسارين متعاكسين: الخفة في الحياة، أي العيش الوجداني الحر، من جهة، والتشدد الأكاديمي، من جهة ثانية، الذي تحول، بعد تعلم الأصول والوقوف على تكوينات العلوم، إلى مسار نقدي في التفكير والبحث والتأليف.
الخفة في الحياة، وفي الشعر بالتالي، بعد أن تيقنت من أن حداثة الشعر انتهت إلى أن تكون منقطعة عن العيش، عن الوجدان، عن التجربة، وما هو قال به يوسف الخال في أول بيان عن الشعر الحديث، في بيروت في العام 1956. هكذا ابتعدت عن المشاهد العريضة، القصائد العصماء، وسعيت إلى التقاط "لحظات" على أنها "أكوان" لا نحسن الوقوف عليها ولا ننتبه إليها إلا بعد وقت، على أنها كانت من دون أن نستقصيها. وهو سعي في الشعر يتوخى قول الإنسان في تردده، في تعثره، في انشطاره إلى "أنوات"، في كونه الداخلي المحمول على غير وجه وقول.
ليس لي، أنا على الأقل، أن أجري مقارنة بين ما كتبته شعراً وما كتبت بحثاً، وأنا لا أزال في طور السعي الذي لم يكتمل، رغم أنني اتبين مسار البحث ومؤدياته. وهو مسار يقودني، انطلاقاً من ثقافة القرن الناسع عشر وتكويناته في وجودنا كما في ثقافتنا، إلى نقد اصولها الحديثة، أي الاسباب الناشبة في دخولنا في طور آخر، بعد أربعة عشر قرناً على النسق الإسلامي، هو طور الحداثة، ولكن من دون أن نكون حديثين. كيف يحدث أننا، في الثقافة، نتشبه بغيرنا، ولا نشارك غيرنا في انتاج الحداثة بتعبيراتها المتنوعة والمتعددة؟
هكذا عدت، سواء في ميدان الأدبيات أو الجماليات، إلى الوقوف على الدروب القديمة، وإلى تجريب غيرها، وهو ما تمثل في مسعى "التاريخانية" الذي أجهد فيه لتأكيد حركة الحداثة. وهو ما تأكد في نظري إلى العلاقات بين العلوم والمعارف والفنون؛ وهو نظر يرى إلى هذه المتون على أنها نتاج تاريخي "مقيد" بشروط إنتاجه، عدا أن "تصنيفات" العلوم والفنون وترتيباتها متعينة تاريخياً، هي الأخرى، وخاضعة للتغيير بدروها (...).
وفي ذلك لا أكون بعيداً – على ما أظن – عن مسار قريتي، كما أفهمه، وهو أنني لا أزال أسعى طالباً للخروج من عهد الضرورة إلى عهد الثقافة، من عهد الانغلاق إلى عهد الانفتاح والتخالط، واجداً في الصراخ العالي من هذا الوادي سبباً قديماً – ومتجدداً كذلك – للتمرد وبناء المصير المستقل (...).
(في لقاء، في دير حوب، وطى حوب– لبنان، أيلول-سبتمبر 2000؛ الكلمة منشورة في كتاب: "سلسلة ندوات الملتقى الثقافي الموسوعية"، الجزء التاسع، بيروت، 2002).