1
حين زعم نابليون أنه كان يرعى أحلام جنوده النائمين، كان يكذب، ذلك لأنه يعرف أن أولئك الجنود النائمين لا يحلمون إلا بالعودة إلى البيت. في "الانفاليد" بباريس كنت أنا أيضاً أحلم بالعودة إلى البيت، على طريقة نوفاليس. أعتقد أن فكرة كولومبس لا تزال ممكنة على الرغم من أنها اتخذت مع الزمن طابعا رمزياً. الذهاب إلى الشرق عن طريق الغرب ليس طرفة ولا خرافة. نحن نمشي في حياتنا آلاف الكيلومترات من أجل أن نصل إلى النقطة التي بدأنا منها، أو على الأقل هذا ما يبدو من خلال النتائج التي نقبض عليها أو التي تصنع مصائرنا. لا فرق. الهند لا تقع في الغرب، ومع ذلك فإنها ستكون كذلك. أو يمكنها أن تكون كذلك إذا أردنا. الطغاة الوطنيون يفكرون بطريقة قريبة من ذلك. حلم خميني في الوصول إلى القدس عن طريق كربلاء، أما عدوه صدام حسين فقد حلم في الوصول إلى المدينة المقدسة عن طريق الكويت.
هنا، علينا أن نعترف أن كل واحد منهما كان في قرارة نفسه يرعى أحلام جنوده النائمين. من يرعى أحلامنا، نحن الذين شُردنا وفقدنا الأمل في العودة إلى البيت؟ أجيل النظر من حولي فلا أرى إلا بقايا. بقايا بشر وبقايا عقول وبقايا قلوب وبقايا مصائر. في المنفى لا أحد في إمكانه أن يزعم أنه وصل سالماً. هناك ما نتركه ساخناً في قاع كوب الشاي أو فنجان القهوة أو بين أحشاء الوسادة التي ظننا أننا سنعود بعد وقت قصير لنضع رأسنا عليها. لا يزال شبح زوجتي يسقي كل ضحى نباتات الظل هناك. تشعر أن يدها تمتد في الهواء لتلامس أوراقاً خضراء لم تكن موجودة بالأمس. "الحياة مستمرة إذاً"، تقول وهي تعرف أن شبحا غامضاً لا تعرفه صار يرعى أحلامها هناك.
2
نضع وجوهنا أقنعة على وجوه آخرين لم نرهم من قبل. كائنات تنبثق من لحظة رجاء غامضة. تعدنا تلك الكائنات بأنها ستواصل السير بأقدامنا. لا بأس. نقول بسخرية: "سنحافظ على إيقاع خطواتكم. إذا كانت المسافة موجودة فاطمئنوا لن نخون قياس النغمة بين خطوتين". كما لو أننا لا نعرفهم، الرجال والنساء، كائنات الغيب التي استعارت وجوهنا لتذهب بها إلى التيه. قل إننا ننزلق. قل إننا نهوي. قل إننا نُبعث في لحظة يرتجل فيها الصفر صفاءه.
من هناك يمكننا أن نرى أحلامنا وهي تنزلق إلى أفواه الحوريات. لذة أن تكون موجوداً في الحنجرة مثل جناحي عصفور. في المنفى يكون المرء مستعداً لكي يعير وجهه. وإن لم يكن مستعداً فإنه سيفعل ذلك مجبراً فيما بعد. الكائن الذي سيكونه لن يكون رحيماً به إن هو لم يطع. "ستكون آخر"، يقول له الضيف وهو يعرف أنه لن يكون حتى نفسه.
لقد تعطلت لديه إرادة القوة منذ أن قدم نفسه في صفته طالب لجوء. لقد صار رقماً. الآن وبعد حصولي على أوراق المواطنة لا أحد يسأل عن اسمي. رقمي الشخصي أهم من اسمي حتى في الأسواق. صار رقمي هو القناع الذي يقدمني إلى الآخرين. أعرف أن الأمر لا يتعلق بي باعتباري مهاجراً، فالجميع هنا هم في حقيقتهم أرقام. ولكنني لم أًُعد نفسي لنهاية من هذا النوع: أن أكون رقماً. لا أحد في إمكانه أن يتعرف عليّ إلا من خلال رقمي. ذات مرة سألت كارين، وهي صديقة مقربة، النصيحة في مسألة تتعلق بعلاقتي بالجامعة ففتحت جهاز الكومبيوتر والتفت إليّ وقالت: "ما رقمك الشخصي؟"
3
كنا نجلس تحت الدرج في بيت رافع الناصري في بغداد. كان شربل داغر يحدثني بصوت خفيض، وبشيء من الألم الساخر عن شِعر لم يكتبه بعد. كان النثر الذي يكتبه في مجلة "كل العرب" يعذبه لأنه يستولي على الكثير من لمعانه اللغوي. وكما أرى الآن فإن أعظم ما قدمه اللبنانيون للعروبة لغة ثرية لا تزال ممكنة. لا يمكنني تخيل وضع اللغة العربية من دونهم. وهذا ما كنت أقول ما يشبهه لشربل يومها: "شقاؤكم الشعري، وهو يذهب هباء في النثر، ينقذنا". كنت في الحقيقة أحلم نثر اللبنانيين شعرا.ً
كان مارون عبود، ومن قبله جبران، هما اللذان مهدا الطريق أمامي لقراءة أنسي الحاج وشوقي أبو شقرا. لم نكن نتحدث في الأدب ولم نكن معنيين في تلك اللحظة بمستقبلنا الأدبي. كان هناك من حولنا رسامون وكتاب أصدقاء لا يفكرون هم الآخرون بمستقبلهم الفني أو الأدبي. ما لم نكن نفكر به أن ذلك اللقاء كان من الممكن أن يكون تمريناً على المنفى. لم يحدثني شربل يومها عن منفاه، وهو الذي كان يقيم في باريس بعيداً عن بيروت. ألأنني كنت غير قادر يومها على فهم معنى أن يكون المرء منفياً؟ كنا يومها حفنة منفيين، بعضهم استقر في منفاه والبعض الآخر كان ينتظر. الآن تخترق صور أولئك المدعوين عزلتي. كلهم اليوم منفيون.
وفي مقدمتهم صاحبا البيت، الناصري ومي مظفر. كانت حفلة تنكرية. على أية وجوه استقرت وجوه أولئك المدعوين وقد صيرتها المنافي أقنعة؟ أية كائنات تسير بأقدامنا اليوم؟ نحن وهم نقف في مفترق طرق مبهمة. هل سيطول انتظارنا؟ كان شربل يحدثني عن شقاءٍ مشيتُ آلاف الكيلومترات من أجل أن أنبش بلساني جمرته. أقبض على الهواء وأصنع منه شبحاً يشبهني لأضع على وجهه وجهي، وأشعر أني محظوظ في رعايته لي.
4
استعادة حياة سابقة هي فعل أحمق. ليست القصيدة هي نفسها في كل مرة تُقرأ فيها. وليست الزهرة في الكأس هي نفسها التي كانت في الشجرة. حين نحاول أن نسترد لحظة بعينها نكون كمن يستخرج قطعة لحم من فم ذئب ليقول إن الشاة لا تزال حية. وجوهنا تلك التي تركناها هناك، أو التي وضعناها على وجوه الآخرين باعتبارها أقنعة، أو التي لا نزال ندور بها بين المنافي، هي في الحقيقة ليست وجوهنا. ألا يزال في إمكاننا أن نخترع أسباباً للحلم؟ كلما التقيت صديقاً منفيا ًصرت أهرب من ذكرى وجهه القديم لكي لا أشعر بالندم. "ما من وجه"، سأقول بيسر لكي أغلق النافذة. "لنترك المياه تجري"، يقول لي شبحي وهو يمشي بقدمي من غير أن يلتفت إليّ. لا تزال هناك طريق تقود إلينا إذاً. طريق نتعرف من خلالها على أنفسنا ثانية. ليت المرايا لا تكذب ولكنها تعيدنا في كل مرة إلى كوابيس رينيه ماغريت.
هناك قبعة في الهواء وما من وجه. في كل صباح يستيقظ المرء من موته ليشكر الله على حياة جديدة مُنحت له إلى حين. ماذا عن اللغة؟ أعتقد أن كل نهار جديد يحمل إلى أفواهنا لغة يمكنها أن تحررنا من ليل المعاني القديمة. هل هذا ما تفعله الأقنعة أيضا؟ نفقد وننثلم ونذوب ونسيل ونتسامى ونصغر ونغيب، ولكن شيئاً ما يظل يُذكِّر بنا. أفكر بالحواريين وقد حضروا العشاء الأخير، وهم شهود خيانة يهوذا. لا أعتقد أن كل ما كتبوه في إمكانه أن يخلص إلى تلك اللحظة. لا يمكننا أن نكون موجودين في لحظة الخيانة، لحظة يحل القناع محل الوجه. كان الحواريون قد أدركوا أن الرجل الذي يرعى أحلامهم قد ذهب إلى الصلب. واقعة هي مصدر اطمئنان مؤلم. ولكن ماذا عنا؟
("القدس العربي"، لندن، 6 نيسان-أبريل 2010).