سنديانة الجذور

 

كدت أتصل، غداة اغتيال الوزير النائب بيار الجميل، بالأصدقاء في "الحركة الثقافية"، الداعين إلى هذه الندوة، طالباً منهم تأجيلها أو إلغائها، إذ أن في الانكشاف الدامي الذي يصيب هذا البلد الصعب والمؤلم ما يهز عميقاً حتى سنديانة الجذور.
إلا أنني عدت إلى كتابي هذا، ووجدت فيه ما يلزمني بضرورة الكلام، وابتداء من هذا الكتاب: الكلام عن عمليات خروج الجماعات اللبنانية – ومنها في تنورين - في اتجاه الدولة، صوب بناء الوطن. وهو الخروج من عهد الذمية السياسية والاجتماعية للجماعات المسيحية، وخروج الجماعات اللبنانية المختلفة من تشكيلات العهد العثماني. وهما خروجان "بريان"، واقعاً، إذ انتقلت الجماعات من احتباسها في النطاق السلطاني إلى صراع مكشوف على الموقع والغنيمة والرتبة الرمزية (أي اللقب). إلا أنه لم تتوافر لهذا الخروج التهيؤات والسلوكات المناسبة للآليات الانتخابية والديمقراطية، التي انتهى إليها بناء "دولة لبنان الكبير". بل قامت الجماعات، إذ مارست وطبقت هذه الآليات، بتطبيعها وفق الثقافة السياسية والاجتماعية العثمانية المتمادية، ما أفقد هذه الآليات بالتالي الجانب الدينامي والتحويلي منها: هذا ما جعل الممثل السياسي قريباً من "المقاطعجي" القديم، أي بما لا يفصل بين الجسد الطبيعي والجسد السياسي. وهو ما أقام الدولة هيكلاً فوقياً، بعيداً، مفروضاً، خارجياً، أشبه بوالي طرابلس التي لا تعرف له تنورين وجهاً غير أكياس الضريبة.
هذا الخروج لا يزال يجرجر خطواته الدامية، من دون أن يثبت الكيان في وطن، ولا الوطن في دولة، ولا الدولة في حدود معترف بها من جيرانها قبل الدول البعيدة، ولا الجماعات في مواطنين.
يقول فرنان بروديل، في كتابه الذائع الصيت عن "المتوسط والعالم المتوسطي..."، إن تاريخ الجبال "غامض"، بل إن تاريخها هو "أن لا يكون لها تاريخ"، إذ "تبقى في الهامش". وهذا ما يوافق تاريخ تنورين المتداول، على ما تحققت. والمقصود بالتاريخ، هنا، هو كتابته، لا حصول الوقائع والأفعال في خطوط الزمن. ويكفي للمتابع، بل المتنزه، أن يتنقل في أراضي تنورين الفسيحة، بين جردها ونهرها، ليقرأ علامات الحجر الطبيعي أو المبني، وهي العلاماتِ الدالة على معالم التاريخ البعيدة والأكيدة، أي آثار الفعل الطبيعي والإنساني فيه. هذه الآثار أبقت لنا رسائل، ولكنها مطوية ومدعوكة، لا نحسن فكَّها، بل تصفحَها وحسب مثل بطاقة هوية مبعثرة. وما بقي بالتالي لا يتعدى النقولات الشفوية، حكايات السمر حول الموقد في الشتاء، مثلما استمعتُ إليها، ذات عشية، من دوميط، قريبي؛ ومنها أن أصولنا تعود إلى بلاد ما بين النهرين، وأننا ننتسب إلى إحدى العائلات الخمس، فضلاً عن أن والدي تزوج من عائلة مطر، العائلة الأقدم في سكان تنورين، ما جعلني أنام ليلتها قرير العين في مهد النسب.
كان لي أن أتفقد هذه النقولات طبعاً مما يقع في التاريخ الشفوي؛ ولقد تنبهت إلى أن الصورة الذائعة بين أهالي تنورين عن تنورين وأهلها ترقى، من جهة ناقليها، كما من جهة الرواية نفسها، إلى القرن التاسع عشر، لا إلى ما قبله في العهد العثماني لتنورين. لهذا تحققتُ ووجدت في لحظة بناء دير مار أنطانيوس حوب، بين العام 1700 والعام 1760، لحظة تأسيسية هي الأقرب إلى ما آلت إليه تنورين في فترتها المعاصرة.
ولقد عملتُ، قبل ذلك كله، على البحث، بل على التنقيب عن مصادر إخبارية جديدة؛ والتاريخ – كما لا يخفاكم - لا يروي روايتَه من دون مصادر تبنيه وتجعله على قدر من البروز والتعين: هكذا نجحتُ في توفير مادة عن تنورين ما كانت متوافرة، ولا محققة، قبل هذا الكتاب؛ وهو باب مفتوح لي كما لغيري بصورة أقوى بعد اليوم.
ولم يكن مطلوبي، في البداية، سوى تقديم هذه الوثائق، بعد تحقيقها، إلى القارئ، إلا أن ألفتي المديدة معها، ونجاحي أحياناً – وليس دائماً – على إقامة خطوط اتصال دالة بين بعضها البعض، ورطني في ما هو أبعد من التقديم. إلى هذا، قمت بمسعى آخر، مواز للخط الأول، وهو مساءلة الحجر نفسه، ولا سيما في معابد وكنائس تنورين المختلفة، عن تاريخه، وعن علاماته وسياقاته ودلالاته. هكذا انتهيتُ إلى ما أسميته ب"التلمس التاريخي"، وهو كلام أول في تاريخ تنورين، ولا سيما العائلي والسياسي، في مشهد تتباين فيه نقاط الضوء والعتمة المطبقة.
لم تعد المعرفة بتنورين على ما كانت عليه، بل زادت، عدا أنها أطلقتْ أنواراً مركزة صوب القرنين السابع عشر والثامن عشر، جديرةً بالدرس والتتبع. فللمرة الأولى نتحقق من أسماء وأدوار عدد من المشايخ في تنورين، أو من الكهنة والرهبان وأصحاب النفوذ ومحرري الحجج ومثمني الأراضي وغيرهم، منذ منتصف القرن السابع عشر. هذا ما سيُسهِّل، في عدد كبير من الأحوال، بناءَ جداول أنساب وأجباب وبيوت من عائلات تنورين المختلفة. كما توصل الدرس إلى تبين حراك سياسي وديني واجتماعي، معزز بعدد من الوقائع والمعطيات والأسماء في تنورين، ومع العاقورة وإهدن وبعلبك ودوما وقرى عديدة في جبل لبنان، فضلاً عن مشاركة تنورين الدامية في عامية لحفد وغيرها. كما انتهى الدرس إلى التعرف على كيفيات تشكل بيوت النفوذ في عائلات تنورين المختلفة، أي ما تولد في بيوت كهنوتية عديدة.
إلا أنني – إذ تلمستُ معالم هذا التاريخ – كتبتُ سِيَر المشايخ أكثر من سير أهل تنورين المغمورين، ما أبقاهم في عتمة التاريخ الكثيفة: وليس لي - إن طلبتُ التعرف إليهم - سوى التأمل في أخاديد الأرض، وفي الزرع الطالع بين شقوق الصخر، على أنها هي التي تحكي صنيعهم الصامت ولكن الأكيد في هذا التاريخ.
هذا الكتاب ارتكبتُه عفواً، من دون استهداف أكيد، بدليل أنه لا يندرج في أي من الميادين الأربعة التي تتوزع فيها مؤلفاتي. ولقد وصلتُ إلى هذا الكتاب من دون أن أقصده. مثل نبع في وطى حوب ينبثق من جوف أرضها بمجرد أن تزيح حصاة، أو تضرب ضربة معول فيها. انقدتُ إلى هذا الكتاب، بل أغراني مثل شهوة غامضة. هذا ما يقترب، في بعض جوانبه، من الهجس بالشيء، من الإحساس به، أو من التدليل على علاماته المحتملة.
إلا أنني أعترف أمامكم أن مسعاي هذا ليس جديداً، بل يمكنني القول إن أول نص كتبتُه في حياتي كان عن تنورين، وكان ذلك في سنتي الجامعية الأولى، في العام 1971، إذ استوقفني يومها دخول الكهرباء المتأخر إلى تنورين، مثلما استوقفني في تلك السنة وقبلها، بل ناضلت في قريتي، وطى حوب، مع عدد من "شركائها" لإيجاد علاقة جديدة بينهم وبين الدير، وبين عائلاتهم وباقي العائلات في تنورين. بل أعترف بأكثر من ذلك، وهو أنني ما توانيت عن كتابة هذا الكتاب، عن تجميع مادته، من دون أن أنتهي منه حتى تاريخه، وإن انتهيتُ اليوم إلى إصدار هذا الكتاب، على ما هو عليه.
لهذا جهدتُ في أن أقلِّب هذه المواد المتناثرة بيدين حريصتين طبعاً، ولكن حذرتين في الوقت نفسه: حريصتان بحكم ندرة المواد وتقشفها الإخباري في العديد من الأحوال؛ وحذرتان، بحكم كوني أقترب من تاريخٍ قريبٍ في بعضه، من شخصي، من عائلتي، من عائلات تنورين، ما يشملني بالتالي ويسبقني؛ وهو تاريخ من أعرف، ومنهم عائلتي وأقربائي، فلا أقع في روايات خرافية، تبجيلية، فنستعيض عن التاريخ بشهوات أو أمنيات الترقي وبناء الأصل المجيد.
استوقفتني في هذا التاريخ حكاية الأصيل والغريب ضمن النطاق الواحد، وهي تكررتْ أكثر من مرة في تاريخ تنورين، كما في غيرها من القرى والمدن (حتى أن لبيروت سبع عائلات تأسيسية، أو "أصيلة"، كما تعلمون)، فيما وجب البحث عن تاريخ من الذريات والبيوت المتناثرة، المتنقلة هنا وهناك، من دون أن تشكل العائلة بعدُ تكويناً جامعاً ووازناً، مثلما آلت إليه الأمور في القرن التاسع عشر. وهي مساع في التأصيل لا تعدو كونها تجهيلاً للتاريخ، وتمكيناً لبعضهم من التحكم برواية التاريخ وإنشائه: استوقفني في هذا الخصوص، وبصورة أشمل من التاريخ القروي، تجهيلُ هذا التاريخ من أسبابه العثمانية، كما لو أن هذه القرى والبلدات والمدن عاشت في واد مغيب عن النظر والضبط السياسيين. كما استوقفتني أيضاً سبلُ تشبهِ الرعايا، ذميين أو من "ملة الإسلام"، بالسلطان وصفاته وأفعاله (عبر ما يتداولونه عن الوالي والأمير)؛ واستوقفني كذلك طلبُهم للترقي وفق التقاليد العثمانية، التي تتعين خصوصاً في اللقب. وهي سبل لا تزال قائمة، حتى أن المشارك اليوم في حوار تلفزيوني، إذ يدخل على الخط، يحيي الضيوف بألقابهم، كما لو أنه في حفل تعزية، أو يدون سجلاً في المحاكم الشرعية عند والي طرابلس.
خرجت تنورين من السياق الذمي والسلطاني، لكنها بقيت بعيدة عن بيروت "دولة لبنان الكبير"، مثلما كانت بعيدة قبل ذلك عن استانبول أو طرابلس، لدرجة أن أهاليها نزلوا منها صوب جبيل أو الكورة أو بيروت (التي تجمع غالبية أهل تنورين). تنورين باتت، حسب البعض، عاصمة قضاء البترون السياسية، إلا أنها - إذ تلتقي في القيود الإدارية، وربما في بعض الانشدادات العائلية - تفترق عنها كذلك وتندمج في التمدن الاجتماعي اللبناني.
ما توانت تنورين عن النزول بعد طول تركز أو احتباس، بدليل الفارق الكبير بين مقيميها الثابتين الذين لا يتعدون الألف نسمة، وبين العشرين ألفاً الذين تغص بهم سجلات نفوسها. وهو فارق مقلق قد يحيل تنورين إلى بلدة اصطياف وحسب، بل ضاحية بعيدة لبيروت.
أغلق هذا الكتاب على أنني أعرضه على غيري، ولا سيما على الاختصاصين، مثل المتكلمين هذا المساء الذين أشكرهم على ما قالوه، على أنهم شركاء في هذا التاريخ المفتوح. وهو مفتوح لتصويبات وتصحيحات وتأكيدات وغيرها، من دون شك، بما يمكننا – ولا سيما بعد توافر مصادر إخبارية أخرى – من أن نسلط العقل – لا الأهواء والرغبات والأماني - على شؤون اجتماعنا السياسي والتاريخي، فيما بيننا ومع غيرنا.

(الحركة الثقافية – إنطلياس، 29-11- 2006، في ندوة إثر صدور كتابه: "تنورين في الحقبة العثمانية").