(أكثر من وقفة، في السنوات الأخيرة، مع الفنان المغربي الراحل محمد المليحي (1936-2020). وهذا لا يكفي في التفكير والتعبير عن أنواع الفنون التي أسسها وجددها في الثقافة البصرية المغربية وأبعد منها) :
"وخُيِّلَ أنه ساكن، وهو يتحرك" : أستعيدُ وأستعير هذه العبارة القديمة التي تعود إلى مؤلف نسيت اسمه، وإلى كتاب لا أذكره، للحديث عن فضاء محمد المليحي، بعد أن وجدتُ فيها ما يكفيني. تكفيني في ألفاظها، واحدًا واحدًا، وفي العلاقة القائمة بين أطرافها. تكفيني مثل مفتاح في بوابة، يُذيع عطر الدار قبل الوصول إلى حديقته.
أول ما يبادرك في لوحة المليحي هذا الشعور الملتبس، المتداخل، بين السكون والحركة : فأنت تخال، أحيانًا، كما لو أنها لوحة متصلة، واحدة، موصول بعضها ببعض، حيث إن "الموجة" تتردد من شاطىء إلى آخر : الموجة عينها، وهي غيرها في كل مرة. وهو ما قد يصحُّ أيضًا في اللون، حيث إنه، في لوحة المليحي، يتعين في "عائلة"، في "مناخ"، من الألوان المشرقة، بل "الصارخة"، مما يوقظ العتمة على حين غفلة، مثل نور صاعق.
هذا ما يلتبس في خيال الناظر العجول، إذ إن لوحة المليحي تتعين في التحرك، في التبدل، في رواحٍ ومجيء لا ينقطعان بين الأشكال، بما لا يسمح بتتبعِ سيرِ خطٍ واحدٍ فيها. فالشكل فيها – وهو الخط – يتلوى وينساب بما لا يقبل حسابًا ولا توقعًا. إنه تسرِّي الخط (كما في غبش الليل) عن شكله، مثل تسرِّي الرغبة عن مباهجها الغامضة. وفي ذلك لا يُحسن الناظر إلى اللوحة معرفةَ ما إذا كان الخط شكلاً أم رسمًا أم لونًا، بل يمكن التساؤل : هل الشكل لون؟ هل اللون شكل؟ هل الشكل رسم؟ وهو سؤال يقع في صلب ما يُرسم، وفي صلب ما نرى، أي يتعين في كيان أبجدية التشكيل. وهي أبجدية يتداخل فيها ويتلابس خط الزخرفة الإسلامية، أو خط "الزليج" المغربي، مع خط الرسم قي التصوير الغربي. وهو التلابس عينه الذي يصيب الناظر إلى لوحة المليحي، إذ فيما يَدخل إليها يَخرج منها، على أن يُدرك لاحقًا أن البوابة هي عينها : للخروج كما للدخول. وهو ما أسميه بـ"التنافذ"، حيث إن المليحي توصل منذ أربعين سنة ونيف إلى صناعة بوابة يدخلون فيها إلى روما، وواشنطن، وباريس، من دون أن يَخرجوا من أصيلة، أو من فاس، أو من مراكش.
هذا الفن يثير أسئلة عميقة فيما يتعدى المدارس والأساليب، ولا سيما بين التجريدية والتشبيهية، إذ يتناول الفن في حقيقته الأبعد، وهو أنه مثولٌ مرئي، قبل أن يتخذ هذه الهيئة أو تلك، أو يَتقيد بها من دون غيرها. هو مثول مرئي، بما يتيحه من تردد بين الشكل واللاشكل، بين العلامة واللطخة، بين الهيئة والمسحة اللونية.
وهو ما يُدهش في البساطة الظاهرية التي لهذه اللوحة، إذ تبدو هينةً مثل رسم زخرفي لطفل يتعلم "تلوين" الفراغات المخططة والجاهزة، فيما هي شديدة التأليف، تحيل على مرجعيات مختلفة، ولكن بعد طولِ تأملٍ ونجاحٍ في التوصل. ذلك أن مسيرة المليحي لا تتوانى عن التبدل (بدليل أعماله الأخيرة)، من دون أن تتغير في مبناها، ولا في ما تقوم عليه. هي حصيلة توصلات المليحي في معايشة الفنَّين، الإسلامي والغربي، بل في معايشة ما لم يَتوصل إليه "رواد" التصوير العربي قبله. فمثال المليحي نادرٌ بين أقرانه، المغاربة والعرب، إذ لم يتقيد بمنهج مدرسة واحدة، هي مدرسة الاستشراق التي تعلم فيها مع تقنيات اللوحة أساليبها المتبعة في هذا البلد تحديدًا (مثل تأثير المدرسة الفرنسية على فناني لبنان وسورية، على سبيل المثال، أو تأثر الفنانين العراقيين بالوحشية والتكعيبية)، بل نهلَ المليحي من مدارس عديدة، ودرسَ في أكثر من واحدة منها، بل خرجَ – وهذا هو الأهم في تمييز تجربته عن أقرانه – إلى محترفات الفنانين وإلى تعاليم الفن في الحياة، ولم يتقيد بدروس الأكاديميات وحدها.
هذا التنقل الذي كان له في دراسته وخبرته الفنية، بين درسه في مدريد، بعد تطوان، وفي روما (بعد العام 1957)، وفي باريس (1960-1961)، وفي نيويورك (1962-1964)، وفي محترفات عديدين، بما فيها اختلاطه في تجارب تجديدية هنا وهناك، كان مصدر غنى له، لا بلبلة، بل كان مصدر معاينة وتفكر وتأمل. هذا ما أتاح له "توصلات"، هي من معين الفكر الفني بقدر ما هي من معين الخبرات التقنية في التدبر والمعالجة.
غيره وصل إلى "لقيا" تشكيلية، مثلما يتوصل عالم الآثار في تنقيباته، فيعوض عن تعب البحث المضني وغير المجدي أحيانًا بما اكتشفَه، بما عثر عليه. أما المليحي فلم يعثر، بل عمل وتوصل وبنى. ففنُّه، أو معادلته التشكيلية، يُنبئ عن هذه الأبجدية التي انتهى إلى تأليفها. وهي أبجدية تصلح لأكثر من لغة، ما يتيح للمغربي أو للعربي أو للفرنسي أو للأمريكي أو للياباني، أن يتعامل معها، من دون غربة أو التباس. وأشدُّ ما يُغري في هذه الأبجدية هو أنها تُساءل عميقًا مباني التشكيل بوصفها مباني الصورة : ما اللون؟ ما الشكل؟ ما الخط؟ ما الحدود بينها؟ ما يَفصل هذا عن ذاك؟ ألا يكون هو ما يقيم صلتها به؟ ألا يفيد النظر أبعد من الرذاذ في عميق الموج؟
ذلك أن تجربة المليحي في التشكيل تَرسم على طريقتها ما سبقَ لي أن قلتُه في الحديث عن "الحدود" : "حيث تُقام الحدود ليس المكان الذي يفصل بيننا، بل المكان الذي يتيح لنا أن نتلامس". فهذه اللوحة تشير إلى حدودها بوصفها ما يحددها، لا ما يغلقها، وهو ما يفتحها على غيرها، في آن معًا. تشير إلى "مغربيتها" بوصفها "إسلاميتها" بالمعنى الحضاري الفني (فيما جنح غيره إلى "أفريقيتها" أو غيرها من ملامح التنوع الحضاري في المغرب)، فيما تتعامل بيسر مع لغة الشكل الغربي، سواء أكان يحيل على تجربة إيطالية أو أميركية.
بهذا المعنى عاش المليحي عصره، ويعيش فيه، ويفعل فيه. وهو ما يجعله أكثر من مصور، وأكثر من "رائد"، إذ هو "معلم"، وفق كلام القدماء، سواء الإسلاميين أو "النهضويين" (الأوروبيين)، أي ممن يقود عملاً ثقافيًا يتعدى اللوحة ويشمل فنونًا مختلفة، يكون فيها الملهم والموجه والصانع الأول. ومن يستعد ما فعله المليحي في المغرب تحديدًا يتحقق من دوره الكبير، حيث يمكن اعتباره معلم "ثقافة الصورة" فيها. هذا يتعدى دوره الريادي، إلى جانب الشرقاوي وبلكاهية وشبعه وغيرهم، في تمكين فن التصوير من أسبابه في المغرب، ليشمل دوره في التثقيف الفني (مجلة "أنتكرال" وغيرها، و"منشورات شوف")، فضلاً عن عمله التأسيسي لتظاهرات ثقافية وفنية عديدة (من جمعية الفنانين المغاربة إلى "موسم أصيلة" وغيرها)، وصولاً إلى دوره المجدِّد في فن التصوير الفوتوغرافي (بما فيه فن الملصق الدعائي، أو الانتخابي وغيرها)، ما يجتمع في ما أطلقه في تجربة "موسم أصيلة" تحت شعار : "الثقافة في خدمة التنمية".
ذلك أن المليحي فهمَ أن التشكيل ليس ممارسة تقنية، أو حِرَفية، وإنما هو قبل كل شيء عملية ثقافية وجمالية بالضرورة، ما يصلها، لا بالمالك وحده، أو بصاحب صالة العرض، وإنما بالأهل والزنقة والجدار وغيرها.
---
محمد المليحي : ينبوع المتعة المتجدد
المفاجأة تصاحب ظهور فن المليحي، سنة بعد سنة، معرضًا تلو معرض، ولا سيما في السنوات الأخيرة. لا تزداد معارضه وحسب، ولا تتنوع فقط بين مدينة وأخرى خارج المغرب، وإنما تزداد تغيرًا بين لوحة وأخرى، ما يشير إلى حيوية وفعالية مزيدتَين. وهو، في ذلك، يصاحب، على طريقته، مشهدَ الفن المتغير في العالم. يصاحبه، واجدًا في ما اختطه لفنه، منذ ما يزيد على الخمسين سنة، ينبوعًا لمتعة دائمة، ولإبهار العين الشاخصة.
لهذا تحار أمام أعماله، بين كونها سابقة أم جديدة، من دون أن تقوى على تعيين علاقتها بالزمن. ذلك أن ما يعنيه، ما يستوقفه، يستحضره في محترفه، فلا يخرج إليه، أو ينصاع لمشيئته، وإنما يعالجه وفق حسابات وتدبيرات تنشأ في لعبة الفن، ومنها. ذلك أن المليحي أدرك، منذ زمن بعيد، أن عالم الفن عالمٌ فردي، وأن اللوحة عالمٌ بذاتها. أدركَ أن للوحة حدودًا مخصوصة، وأن لها لغة فردية، هي مثل لغة الشاعر إذ يجدد اللغة فيما هو يستعملها. بل أدرك ما هو أهم من ذلك وهو أن للفن لغته، بين شكل ولون وعلامات، مثل الموسيقى التي لها لغتها الصوتية والإيقاعية.
إنه الذهاب الأبعد في تقصي عالم الفن، وفي جلاء صوره. فالفن، في نظر المليحي، لا يقوم على "الببغائية"، أو المحاكاة الساذجة لما هو موجود، وإنما على توليده، على تجديد النظر إليه في شكل مخالف، مفاجئ. وقد تمسكَ بالدرس الأمثل، وهو أن الفن "مسألة ثقافية" في المقام الأول. وهو، في ذلك، يتحاور أو يساجل نقدياً مع موجة عارمة في التصوير الحالي، تكتفي بلعبة الحنين الاستهلاكية، بإعادة صورة أم كلثوم وغيرها بعد مارلين مونرو، مما تَستسيغه عين لم تألف أو لم تعاشر جماليًا وبصريًا إنجازات التصوير في تاريخ الفن.
فللفن زمنُه، الذي هو زمن استقلالِ الفن عن محدداته الخارجية الموجِبة له، والتي لا تعدو كونها محددات السادة القادرين على التحكم به، ليس في السوق فقط وإنما في صوره أيضًا. فالفنان، في نظر المليحي، صانعٌ ثقافي، صاحبُ مقترحات جمالية، وليس عاملاً في محترف السلطان، أو في دورة السوق، مما يدغدغ ذوقًا استهلاكيًا يكتفي من اللوحة بطُرفتها، بحكايتها الخارجية، ظانًا أنه – بلعبة نرجسية – بات ضليعًا وراسخًا في تذوق عالم الفن.
لهذا يُستحسن بمن يطلب فحصَ فن المليحي، بين مرحلة وأخرى، أن ينظر إليها، في سياقها، في تتابعاتها وانقطاعاتها وانطلاقاتها المستجدة، في معجمها المخصوص، في دلالاتها المتولدة فيها، وهو، في ذلك، كمن ينشئ كلاسيكيته الخاصة.
لهذا يصعب إحالة المليحي إلى غير المليحي، وإن كانت لبداياته الفنية أثرها المتمادي في فنه – البدايات المتفاعلة مع يقظة الفنون الحديثة في المغرب، ومع فورة التجريد الغربي العارمة.
---
أنظر إلى أعمال محمد المليحي الأخيرة بدهشة من يتعرف إليه لأول مرة. كما أنظر إليها بدهشة من يَعرف فنه منذ ثلاثين سنة. وهي الدهشة مما يستطيعه فنان بين بداياته وتحولاته، إذ يشدد على التجديد فيما يحافظ على سابقه، ويحرص على قديمه فيما يجرب ولادات جديدة له.
الوقوف أمام لوحته مدعاة للسؤال : أهي لعبة لونية تستند إلى شكل؟ أم هي بناء شكلي يستند إلى لون؟ ذلك أنه يبني لوحته بثقة الداعي إلى بناء مخصوص، لا يحيل على خارجه، وإن ظهرتْ في بعض أعماله، في بعض السنوات، حروف عربية أو قمر أو موجة أو غيرها. وهو يبتعد في ذلك حتى عن أعمال بعض التجريديين، الهندسيين وغيرهم، إذ إن ما يصوره ليس مسطحًا مثل طبقة لونية أو شكلية فوق جدار أو ورقة، وإنما يمتاز أحيانًا بشيء من العمق الداخلي، من البعد المنظوري، مثل "عالَم" فعلاً، وإن من خطوط وعلامات وألوان.
----
تحتاج النافذة في التصوير الكلاسيكي إلى أن تكون مادة لمعرض يُظهر للمتفرج كما للناقد كيف أن المصور جعل من اللوحة نافذة تفضي على الخارج، فضلاً عن النافذة التي في المشهد، التي تفضي بدورها على فضاء آخر. كما تحتاج المرآة أيضًا، في التصوير الكلاسيكي وبعده، إلى أن تكون مادة لمعرض، طالما أن المصور سعى في أحوال كثيرة إلى نقل هيئته أو ما يحيط به من أحواله الحميمة وإقامته وبيته وغيرها.
تكاد النافذة والمرآة أن تختصرا، في أحوال كثيرة، سيرة اللوحة الزيتية نفسها، فيما اتجه المليحي منذ نيف وخمسين سنة، ويتجه حتى أيامنا هذه، صوب وجهة أخرى تجعل اللوحة عالمًا قائمًا بذاته، لا يحتاج إلى غيره، ولا يندرج في غيره، فهو ليس جزءًا من كل، كما أنه ليس عينًا بصّاصة أو نرجسية. ذلك أن للفن عالمه، ويصدر عنده من تصور آخر للفنان واللوحة والعالم نفسه.
يتسرع البعض – على ما أعتقد - إذ ينسبون أعماله إلى تقليد الزخرفة المغربية (الإسلامية)، أو إلى التجريدية الهندسية (الغربية)، أو إلى "المدرسة الأميركية"، غافلين عن أن ما يفعله يقوم على بناء عالمه الفني، مثل كيان قائم بنفسه. وهو ما يعاينه المتفرج بنفسه ما أن يرى عملاً له، إذ يتعرف إليه من دون أي جهد، حتى إنه يلحظ أي تغيرات طارئة عليه. هذا ما يعود إلى شيء يتعدى الخبرة، أو مهارتها، إذ يًنتج عن اجتماعِ عوامل تنتهي أو تجد حاصلها في منتهى يد الفنان.
أصابع الفنان موصولة بالعين، تختصر طرقًا في الفن وتشتق غيرها، مدركة ما يحيط بها (في المغرب وخارجه)، وتطلب نزولاً مختلفًا فيه. هذه القدرة على التموقع، وعلى الاختيار القائم على التجديد، لا تتم من دون متابعة (بمختلف معاني الكلمة) للفن والعالم في آن، هنا وهناك، مشفوعة بنظرة ثقافية وجمالية. حتى إن المليحي يبدو مثل "معلمي" الفن الكلاسيكي، ولكن وفق التقنيات الحديثة، في إتقانه لأكثر من فن، من الحرفة نفسها وصولاً إلى التصوير والحفر الطباعي والتصوير الفوتوغرافي، فضلاً عن أعماله في قيام المشهد الثقافي والتشكيلي والكتابي.
هذا ما يلحظه الدارس بمجرد متابعة سيرته، منذ بداياتها. فلم يتقيد، مثل غيره، بمدرسة تشكيلية، أو بتقاليد إحدى الثقافات، بأساليبها وقيمها، وإنما تجول وتعرف في أكثر من مدينة وثقافة على حراك الفن : بدأ في تطوان، جارة أصيلة، موطنه الأول، وانتقل إلى إشبيلية، ومدريد، وروما (في العام 1957)، وباريس (1960-1961)، ونيويورك (1962-1964) وغيرها.
ذلك أن ما حرَّك الشاب المغربي، منذ اندفاعته الأولى صوب الفن، هو : الاستقلال. وهو ما عرفَه بلدُه في السنوات عينها. هذا ما طلبَه في الحياة، كما في الفن. قال لي في حوار معه : "إن نشأة التجريدية في المغرب استجابت لحالة مغربية عرفناها بعد الاستقلال في العام 1956. لم يكن هذا الاستقلال ناجزًا، على المستوى التشكيلي على الأقل. أردنا القطع الجازم مع المدرسة الكولونيالية وآثارها، حتى إننا، طلبًا لذلك، قمنا بأنواع من الرقابة الذاتية، أي أننا حرمنا أنفسنا طوعيًا من رسم كل ما كنا نريد رسمه. أنهينا بهذه الطريقة، وبسرعة كبيرة، كل محاولة لنشأة فن "فولكلوري"، فنٍ محاذ للتجربة الاستشراقية في التصوير".
هذه النزعة الاستقلالية دفعته إلى أن يبتعد عن مدرسة بعينها، وأن يستقل بممارسة تشكيلية تخصه وتعرِّف به. كما دفعتْه في وجهة أخرى خارج التشكيل نفسه، وهو أن يكون فاعلاً بل مؤسسًا في الحياة الثقافية المغربية. هكذا كان له، مع فنانين مغاربة رواد، أكثر من دور في بناء الدرس الأكاديمي الجديد لطلاب الفنون التشكيلية : جرى وضع السجادة المغربية في محترف الطلبة-الفنانين بدل صورة المصلوب... كما عملَ معهم على تسهيل وتسريع وصول اللوحة إلى المتفرج المغربي : نقلَ معهم اللوحة إلى الساحات العمومية (في ساحة "جامع الفناء" في مراكش، في العام 1969). وهو ما فعلَه مع فنانين كثر، مغاربة وأجانب، ابتداء من العام 1978، إذ أطلق "موسم أصيلة الثقافي" مع مثقفين في بلدته، وجعل من جدران البؤس والإهمال لوحةً للفن، مبسوطةً أمام دهشة المارة. كما عمل المليحي على إشاعة ذائقة مغربية جديدة، في الصورة الفوتوغرافية والملصق (بأنواعه المختلفة) والعمارة وغيرها. وهو ما قام به في بناء أكثر من مؤسسة، مثل مجلة "أنتكرال" (Intégral) التشكيلية والثقافية، أو دار نشر "شوف"، أو في تأسيس ورئاسة "جمعية التشكيليين المغاربة"، وقيام صلات قربى وتفاعل بينه وفناني المغرب العربي، من جهة، ومع فنانين المشرق العربي (منذ "مهرجان الواسطي" في بغداد في مطالع السبعينيات)، من جهة ثانية.
---
اقتنى "مركز جورج بومبيدو" (باريس)، قبل سنتَين، عملاً لمحمد المليحي، يضاف إلى غيره الكثير، هنا وهناك في المتاحف وصالات العرض والمقتنين من الأفراد. ذلك أنه باتت له "علامة"، أو "ماركة"، إذا جاز القول، معروفة ومقرة ومستساغة، وهي علامة التميز الأكيد. فهو ينتج لوحة مغرية للعين، تخاطبها بلغة الفن وحدها، تسافر وتحط أينما كان في العالم، وتجعل من مكانها الجديد بيتها الأليف، من دون حاجة إلى تقديم أو تبرير.
ذلك أن لوحته تستند إلى ثقافة فنية وجمالية متينة وحيوية، وتتابع مجرياتها وتغيراتها في العالم، فتتفاعل معها من دون أن تفقد تكوينها الخصوصي. إلا أنها، قبل هذا وذاك، حفظتْ الدرس الأول في الجمالية، وهو أن الفن يستثير الانفعال ويولده، ويبعث على البهجة. وهو ما فعله معولاً على لغة الفن الأولى والبسيطة، على لغة الشكل واللون، بانبهار الطفل وتصميمه. وهي الشراكة التي يدعونا إليها : الشراكة في الحلم، في اغتسال العين، في تجديد الألق المتصاعد من رغباتنا وأسفارنا. وهو ما يجعل التشكيل شريك الموسيقى - الموسيقى المحضة -، في أنه يتخلص من "الزوائد"، ويذهب إلى الينبوع : ينبوع المتعة.
----
محمد المليحي: سيرة لونية من دون توقيع
للكتاب عنوان بسيط، مقتضب : (MELEHI)، مع لوحة تحتل صفحة الغلاف بكاملها، مضافًا إليها اسم دار النشر (SKIRA)، الدار الإيطالية الشهيرة والمختصة بكتب الفن في العالم. الكتاب فاخر، صادر حديثًا، ويتناول بالعرض، كتابة وتصويرًا، سيرة الفنان المغربي : محمد المليحي (من مواليد العام 1936).
الاقتضاب الذي في غلاف الكتاب يشبه الاقتضابَ الذي تقوم عليه لوحة الفنان : لوحة بألوان مقتضبة، ذات تشكيلات قريبة من الزخرفة الإسلامية، ومن دون توقيع الفنان. وقد يكون في عدم تضمين الفنان توقيعه فوق لوحته مراهنةٌ على كون لوحته تتكفل بنفسها، وبإشهارِ هوية فنانها، من دون بصمة مزيدة. في هذا مراهنةٌ قديمة من قبل الفنان، تعود إلى ستينيات القرن المنصرم، عندما شرع في مغامرته التصويرية، وطلبَ من الفن هوية مبسَّطة بقدر ما هي عميقة.
وضعَ الكتابَ الناقد الفرنسي ميشال غوتييه (Michel GAUTHIER)، في 208 صفحة من القطع الكبير، المعزز بالصور الملونة التي تشتمل على منتخبات من أعمال المليحي الفنية، وعلى صور فوتوغرافية توثِّق بعض أحداث لافتة في حياته الفنية. ولقد جرى توفير نسختَين متقابلتَين من الكتاب، واحدة بالفرنسية وأخرى بالانكليزية، ما يلبي احتياجات جمهور متوسع ممن يطلبون الاطلاع على تجربة هذا الفنان المغربي الذي بلغ شهرة عالمية في السنوات العشرين الأخيرة.
لا يمكن اعتبار هذا الكتاب علامة أولى في أعداد الكتب التي طاولته، ولا سيما بالفرنسية. إلا أن الكتب السابقة كانت تنطلق من معرض استعادي، فتستعرض تجربة الفنان وأعماله بالدرس والتحليل. أما الكتاب الصادر حديثًا فيتناول إجمالي التجربة، المعززة بالصور الملونة، وإن كانت الصور التوثيقية معدودة للغاية.
هذا ما يلحظه القارئ بمجرد متابعة سيرة محمد المليحي منذ بداياتها. لم يتقيد، مثل غيره، بمدرسة تشكيلية، أو بتقاليد إحدى الثقافات، بأساليبها وقيمها، وإنما تجول وتعرف، في أكثر من مدينة وثقافة، على حَراك الفن (...).