حصل على جائزة الشيخ زايد العالمية للكتاب بفرع الفنون والدراسات النقدية عن كتابه "الشعر العربي الحديث: قصيدة النثر، خاض في ميادين الشعر ولم يخجل من التجريب بدءا من مجموعته الشعرية الأولى "فتات البياض" مرورا بـ"تخت شرقي" ووصولا إلى "لا تبحث عن معنى لعله يلقاك"، ومن كتابه عن رسائل رامبو حتى كتابه عن ريلكه وما بينهما من ترجمات للشعر الأفريقي، ومازلت بحوثه في الفن التشكيلي ممتدة، له أوجه عدة للدرجة التي تجعلك في حيرة من أمره فكيف تتبن وجهه وهو الشاعر والناقد والباحث والمترجم والأكاديمي؟ لكنه في الحقيقة شخص واحد يدعى شربل داغر، هنا "دار دوّن" تحاور شربل داغر لعلها تكشف عن وجهه الحقيقي:
صدرت في القاهرة مجموعاتك الشعرية في مجلدَين عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. ماذا تقول في هذا الإصدار؟
صدور الكتاب يحمل دلالات مختلفة: أنا فرح لصدور "المجموعات الشعرية"، لا الأعمال الشعرية "الكاملة"، كما درج الحديث في النشر العربي. المجلدان يشتملان على عشر مجموعات من دون المجموعتَين الأخيرتَين من شعري. إلى هذا، لم أنقح، ولم أبدل في قصائد المجلدَين، ما يعمد إليه عدد من الشعراء، لأنني أعتبر المجلدين "وثيقتين" بالمعنيين الشعري والتاريخي. كما يفرحني صدور المجلدَين في القاهرة بمبادرة طيبة وكريمة من الهيئة المصرية، ما يشكل مصدر اعتزاز وتقدير، خصوصًا وأن القاهرة تعايش فترة حيوية في نشر الشعر ونقده، لا نجدها في غيرها بالزخم عينه. إشارة أخيرة، إلى أنني أسقطتُ من المجموعات المنشورة مقدمات نقدية رافقتْها في النشر سابقًا.
تعددت ميادين كتابتك وتنوعت إلى درجة تفاجئك أنت نفسك، كما تقول. ألا تخشى على القارئ من أن تضعه في "ورطة" أن يتبين وجهك؟
لم أعد في وضعٍ كتابي أرتب فيه الأنواع الكتابية المختلفة، لكي أصحح أو أعدد أو أصنف هويتي الكتابية. بات اشتغالي في الكتابة – لو تصدقني – أبعد وأقل من أي تعريف، ومن أي مخطط. الكتابة، هي حيث أجول، وحيث أقيم. اتسعت مناحي الكتابة في السنوات الأخيرة، بل انسقت إليها أحيانًا، أو وجدتُ فيها ما يفيد أو ما يمتعني.
أعتقد أننا نتحدث – كما في السؤال – عن القارئ، فيما يتوجب الحديث عن قراء، إذ هو جمهور متعدد ومتنافر ومتنوع، ما لا يمكن جمعه في فئة بعينها. كذلك هو الكاتب، بل الكُتاب الذين يتداورون بين أصابعي، وفوق أوراق حاسوبي. ذلك أن الكتابة، إذا كانت تنتظم في اختصاصات، في أنواع مطلوبة، فإن بعضها ينبثق من تلقاء نفسه، بمحض إرادته، إذا جاز القول: هذا ما أتيحُ له بالظهور... كأن تجد الكلمات تسبقُك إلى كتابة ما، وكأن وجوهًا تظهر لك في المرآة من دون أن تكون وجهك، وإنما غيرها مما يتوزع بين وجهك الآخر أو ظلالك أو أصواتك...
أن أكون أكثر من كاتب واحد في ما أكتب، فهذا يريحني، ويحرضني في الكتابة. أي أن تكون لي حيوات أخرى، مزيدة على حياتي، متمنيًا أن يكون للقراء حيوات أخرى غير حيواتهم في مدى كتبي المختلفة.
ولا أخفيك أنني أتساءل: هل سيبلغ عدد كتبي عدد سنوات حياتي، وهي فاقت الستين كتابًا، اليوم؟
تعرفت على محمود درويش في بيروت عام 1973 وظلت تلك العلاقة حتى رحل عن عالمنا. ومؤخرا صدر لك كتاب عنه. فما الذي يمكن أن تضيفه لنا عن عالم محمود درويش الشعرى أولا والشخصي ثانيًا؟
للكتاب أكثر من وجه، ما يجمع علاقتي به. فقد عرفتُه طوال ما يزيد على أربعين سنة ونيف، في مدن مختلفة، بين أمسيات ولقاءات ووجبات ومجالس ورحلات، في أكثر من فندق، في أكثر من بيت، من دون أن أعرف الملل فيها، بل الفائدة والمتعة والتواصل.
يحمل كتابي الجديد العنوان التالي: "محمود درويش يتذكر في أوراقي: أكتبُ لأنني سأعيش"، وهو عنوان استعدتُ فيه، من جهة، مشروع كتاب كانت قد طلبتْه مني دار نشر فرنسية في أواسط الثمانينيات من القرن المنصرم، من دون أن يبصر النور. كما استعدتُ في عنوان الكتاب، من جهة أخرى، الجملة الأخيرة التي قالها درويش في آخر حواري لي معه، إذ قال: "أكتب لأنني سأموت": عمدتُ إلى قلب معنى جملته هذه، مشددًا على أن درويش يعيش، اليوم، حياة قوية في الكتاب، بين القراء، مع الدارسين، وفي أكثر من لغة.
لكتابي ثلاثة أبواب: واحد يفضي إلى حياته الشخصية، إلى علاقاتي به، ما يضيء جوانب من شخصه، ويضيف ملامح في هيئته، كما يصحح وبصوب العديد من أخباره، وهو في ذلك كتاب الصديق. والباب الثاني يفضي إلى درس شعره، ابتداء من بناء تأليفي بعينه وجدتُه يتأكد ويتبلور ويتنوع في شعره منذ قصيدته: "سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا"، وهو كتاب الدارس لشعره. أما الباب الثالث، فهو أربعة حوارات صحفية أجريتُها معه بين العام 1979 والعام 1985، في باريس، وتتناول مواقفه في أكثر من مسألة؛ وقد يكون أهمها الحوار الذي أجريتُه معه غداة خروجه من بيروت، أثناء الحصار الإسرائيلي لها (1982)، وهو كتاب الصحفي.
لك كثير من الإهداءات في أعمالك، لكن يبقى الإهداء الأكثر إثارة للجدل هو إهداء مجموعتك الشعرية الأولى "فتات البياض" حينما كتبت "إلى شربل: لئلا يصبح شاعرا".. فهل كنت جادا في ذلك الإهداء أم كنت تلهو كما ظن البعض؟
كنتُ جادًا وكنت لاهيًا، في الوقت عينه. كنت أخشى ورطة الشعر. كنتُ أخافها، وأحاول تجنبها. فالشعر تيهٌ، لا تعلم كيف تندرج فيه، ومن أين يتأتى لك الدخول إليه، ولا تعلم – مؤكدًا – طريق الخروج منه.
كما كنتُ أكره ولا أزال صفة الشاعر، إذ هي مدعاة لأن تطمح أن تكون أقرب إلى أم كلثوم، أو أن تكون ممن يُنظر إليه بشفقة.
كانت هذه هي مشاعري وأفكاري عندما كتبتُ ذلك الإهداء في صدر مجموعتي الشعرية الأولى. وكثيرون يعرفون أنني ما كنتُ لأنشرها لولا إلحاح درويش عليَّ بنشرها، وتكفله بعرضها على دار نشر. ذلك أنني كنت أعايش أزمة حقيقية – حينها – مع الشعر، بعد خروجي من لبنان، وانتقالي إلى باريس: أزمة حارقة، إذ تكشَّفَ لي أنني كنتُ متعلقًا بصورة معظَّمة للشاعر، وبصورة مثالية للقصيدة. وهو ما جعلني أتوقف عن كتابة الشعر، كما لو أنني كنت أنفذ مضمون الإهداء المذكور. توقفتُ ما يقرب من عشرين سنة عن كتابة الشعر، إذ صدرت مجموعتي الثانية في نهاية القرن الماضي...
غير أن انقطاعي هو ما سبَّبَ نهمي اللاحق على الكتابة والنشر. أريد أن أصارح القارئ بأمر، وهو أن الشعراء، مع تقدم العمر، يقلُّ إنتاجهم، ويخفُّ إقبالهم على الشعر، بخلافي، إذ إنني لا أعاني أي عسر في كتابة القصيدة حتى اليوم، عدا أن المجموعات تصدر تباعًا، كما إنني أصدرت مجموعتَين في سنة واحدة، في السنة الجارية.
هذا لأنني انصرفت إلى القصيدة، من دون التفكير في الشعر، ومن دون التطلع إلى الشاعر. انصرفتُ إلى عالم كتابي يقع بين العيش والتخيل، مِما لا أحسن التعرف إليه، ولا أقصده عمدًا، وإنما هو ما يتفتح أمامي، كما لو أن الكلمات بيوتٌ ومشاعر وتعبيرات تتدفق بمجرد تواليها فوق ورقِ حاسوبي. تتوالى، حتى إنها تتدبر مسارات لها، أو تقترح عليَّ ما في إمكاني التقدم فيه، مثلما يحدث للماشي في غابة، من دون سبيل أو وجهة. من يعملون في توجيه الماشين في الغابات وإرشادهم، يُخطرونهم – فيما لو ضلّوا سبيلهم فيها – بوجوب التوجه في صورة مستقيمة، فيجدوا منفذًا لخروجهم بهذا التدبير. هذا ما أسترسلُ فيه في غابة القصيدة، إذ أطلب انتهاج ما لا أعرفه، جاعلًا من الكلمات دليلي وخطوات تيهي في آن. فالقصيدة، عندي، هي أن تكتب ما للقارئ أن يحذر منه، لا أن يدرج فيه كما في درب معهود أو معبَّد، بل أن يتقدم تقدمَ من هو ملزم باليقظة، بالتنبه، بالدهشة، وباستعادة الخطى، ثم بتسديدها في مساره... إخالني، في القصيدة التي أحب، أتقدم فأرفع نظري عجبًا، وأتقي بهذه اليد أو تلك وقوع الغصن على وجهي...
لهذا أخرج من كتابة قصيدة، فلا أحسن الرجوع إليها، إذ تكون قد التمَّتْ أغصانها عليها كما في غابة.
يقع النقد في تناقض عجيب حينما يستسهل تنسيب القول الشعري في القصيدة إلى كاتبها بينما في الرواية الواحدة يميز بين الروائي وراوي الرواية والمتكلمين فيها.. فكيف ترى هذا التناقض وما سبيل الخلاص منه؟
لا خلاص منه. هذا من طبيعة أنواع الأدب، خاصة عند من يتقيدون بقواعد متبعة ومعهودة، سواء في الشعر أو في الرواية. أنا لست من هؤلاء، إذ إنني كتبتُ، في روايتي الأولى: "وصية هابيل"، ما هو قريب من السيرة الذاتية، فيما اختلقتُ الكثير في سردها: لم أتقيد إذًا بهذه القاعدة. كتبتُ، في روايتي الأخيرة: "ابنة بونابرت المصرية"، رواية تاريخية؛ وهي كذلك في جوانب كبيرة منها. فقد اعتمدتُ، فيها، على وثائق عديدة، بعضها غير معروف، ومنها "يوميات" إحدى الأديبات الفرنسيات في عهد بونابرت، وضمَّنتُها في السرد... غير أنني قمت بتدبير خاتمة للرواية تُبدل مسار الرواية كله، ما يعني أنني لم أتقيد بهذه القاعدة المتبعة في الرواية التاريخية. أما الخروج على القواعد في القصيدة، فهو أمر مطلوب ومستحب في قصيدتي، وكما أكتبها.
هذا يعني، في حسابي، أن الهوية الصحيحة للكاتب ليست مضمونة أو مكفولة في الأدب. فكيف إذ يتوزع الكاتب في "شخصيات الكلام"، إن جاز القول! فالمتكلم، في القصيدة، ليس الشاعر نفسه بالضرورة، حتى وإن يتكلم أو يعبر عن نفسه. المتكلم كائنٌ لغوي وتعبيري، مِما تتدبرُه القصيدة مع الشاعر في بناء النص. لهذا يَستحسن بعض الدرس النقدي التمييز بين المتكلم وبين الذات الشاعرة في القصيدة، أو التمييز بين ذاتٍ متكلمة وبين ذاتٍ تجعل من حياة الشاعر نفسه ومشاعره مجالًا وموضوعًا للتعبير.
أعتقد أن الأدب الحديث، بين القصيدة والرواية، سلك مسالك غير مسبوقة في تبديد "الأنا"، أو في توزيعها، ما يَظهر بجلاء عَرَضي في العمل المسرحي، حيث يكتبُها واحد وتتوزع بين عشرات الشخصيات، وفي هيئات بشرية. كما أن الكائن الإنساني لا يملك، بالمقابل، هوية وكينونة ثابتَتَين، مثلما أوهموننا طوال قرون وقرون، وإنما هي هوية قيد الظهور والتبدل والتعبير، ما لا يمكن ضبطه أو حصره. كما أن الكتابة تتيح احتمالاتِ قولٍ، لا احتمالاتِ هويةٍ أو كائناتٍ، كما يَظهر ذلك في الحوار. وليس علينا بالتالي أن نجد في القول الواحد، في الجملة الحوارية، ما يجعلها في عهدة فلان، أو هويته الثابتة.
يقول ستيفان ملرمه ومن بعده يردد أدونيس "أحب القصيدة التي لم تأتِ بعد"... ففي ظنك هذه العبارة تلزم الشاعر بالتجديد أم تؤجله؟
هذا القول يلازم الشاعر في الغالب، ولا سيما المجدِّد، قبل مباشرة أي قصيدة، سواء في شبابه أو في شيخوخته. غير ذلك، يكون الشاعر نظّامًا، أو "شاعر مناسبات"، يأتيه الشعر، بل القصيدة، عندما يَطلبُها. وهو قولٌ يُعبِّر بالتالي عن اشتهاء القصيدة، وعن الخشية من انقطاع المياه الجوفية التي للقصيدة لدى الشاعر.
وقد يَرمي البعض من وراء هذا القول إلى مرامٍ أخرى، مثل التطلع إلى قصيدة هي منتهى طموح الشاعر في بناء القصيدة. وهو معنى وردَ عند ملرمه في تطلعه إلى "الكتاب"؛ وهو ما طمح إليه أدونيس، بعده، ووفق مثاله، في مجموعته الشعرية: "الكتاب"، هو الآخر.
أعتقد أن في قول البعض عن القصيدة "التي لم تظهر بعد" نوعًا من الدعاية الذاتية للقصيدة التي يَكتب، ولكن بطريقة ذكية وغير مباشرة. كما لو أنه يقول لنا: قصيدتي تذهب بعيدًا، وستذهب بعيدًا، حيث لا يتجرأ أو لا يطمح الآخرون...
لا أنتسب إلى هذه النظرة أبدًا، ذلك أن وراء هذا المعنى المطلوب، ما يعني أن الشاعر مكلَّف بمهمة سامية، أو كونية وتكوينية للوجود واللغة، فتختصر البشريةَ في كيان أبجدي. لستُ من طينة هؤلاء الشعراء؛ وتطلعي في الشعر أشد بساطة وتواضعًا (إذا جاز الكلام عن تواضع في الشعر). ذلك أنني لا أتطلع إلى القصيدة، ولا أشرفُ عليها من علوِّ جبلٍ شاهق، وإنما أتنقل تنقلًا خفيفًا، قريبًا من الكرسي، والخطوة، والشفة، والفراشة، ناظرًا - في أبعد الأحوال - إلى ما يمكن أن يكون عليه عبور الغيوم فوق قبعتي...
في مجموعتك الشعرية "لا تبحث عن معنى لعله يلقاك" استخدمت جملتين متعالقتين وهو ما لم تذهب إليه في السابق حيث لم يكن العنوان عندك يتعدى اللفظ الواحد أو اللفظين. فلماذا هذا العنوان وما الذي راق لك فيه؟
هذا صحيح، وهو ما سبق ان درستُه – أي سياسات العنوان – في شعر غيري. هذا ما تجده في عناوين أخرى، بلغت بي أن يكون العنوان جملتين في حوار، كما في المسرحية. وهناك أحوال اخرى للعنوان في شعري.
الشعر، عندي، هو مفاجأة اللغة لنفسها في القصيدة. أي القدرة على الإدهاش في العنوان، في أي جملة، في "موضوعها"...
العنوان مبنى لغوي جديد في الشعر العربي، لا يعود في أبعده إلى ما قبل النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولهذا تجد الكثير من الشعراء المتأخرين يكتفون بتثبيت العنوان مثلما نضع أسماء البضاعة فوق عُلبها، أو مثلما نضع العنوان فوق جرس الباب. سبق لي أن درستُ أن شعراء عربًا جعلوا العنوان شبيهًا بمؤشر حدثي أو تعريفي عن القصيدة، ما يصحُّ في لفظ واحد أو في لفظّين، فيما ابتعدَ غيرُهم عن ذلك، متكلًا على الجملة الفعلية، على أن العنوان ليس عنوانَ خريطةِ طريقٍ للقصيدة، بل يتعين في حسابات تعبيرية وجمالية أخرى.
هذا الديوان "لا تبحث عن معنى لعلّه يلقاك" يحمل بين دفتيه ثلاثة مستويات من الكتابة، هما: مستوى السيرة، ومستوى الحوار، ومستوى القصيدة. كيف انتقلتَ بين المستويات الثلاثة من دون أن تفقد جانبًا من شاعريتك المعهودة؟
تقوم مجموعاتي الشعرية على تنوع متعدد من الموضوعات و"المناخات" والمحاور الشعرية، ما لا يجتمع في مسار واحد. وما يصحُّ في هذه المجموعة، قد تجده، بمحاوره التعبيرية، في مجموعات سابقة أو تالية...
الأكيد هو ان السيرة تتجلى في أكثر من مجموعة شعرية، كما أن القصيدة تتناولُ أحوال القصيدة موضوعًا لها في كثير من مجموعاتي أيضًا.
فهناك ما أسميه: إلحاحات المعنى، أي ما يضغط عليَّ، أو أستسيغُ تناولَه، وما يتنقل مع أحوالي وخياراتي.
إذا كان صحيحا ما تؤمن به حين تقول بأن "للقصيدة - أية قصيدة - سياقا مسرحيًّا"، فهل يمكن ان تدخل إلى عالم المسرح طالما لا يبتعد كثيرًا عن القصيدة وخصوصًا بعد التجربة المسرحية التي خضع لها شعرك في تونس؟
أحب أن أتحدث عن أمر في حياتي قلما أتيح لي التكلم فيه، وهو أنني بدأت مسرحيًّا، في أيام الهواية الأدبية، قبل أن أبدأ شاعرًا. فأول النصوص التي كتبتُ – وأديتُ بعض أدوارها – كانت نصوصًا مسرحية. هذا ما يصحُّ – وكنتُ في الرابعة عشرة من عمري – في اقتباسٍ مسرحي توليتُه ابتداء من رواية "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي. وهذا ما يصحُّ في سنتي الأولى في الدراسة الثانوية، في صيدا، عندما تقدمتُ بمسرحية (لا أذكر شيئًا عنها) في مسابقة وفزت بجائزتها. وهو ما يصحُّ كذلك في مسرحية كتبتُها في السنة الأولى من الحرب اللبنانية (قبل أن أغادر إلى فرنسا)، وأدرتُ فيها ممثلين يافعين، باتت لهم أسماؤهم الفنية بعد ذلك: أحمد قعبور، عبيدو باشا، وحسن ضاهر... وهو ما ذكَّرني به قعبور في محادثة متأخرة بيني وبينه في تونس...
أذكر هذا، لا للقول بأنني بدأت مسسرحيًّا، وإنما للقول بأن المسرح شاغلٌ حرَّضَني في سنوات الهواية الأدبية. أما ما قمتُ به بعد أزيد من عشرين سنة، في أكثر من مجموعة شعرية، فيتأتى من حسابات... شعرية خالصة. فمنذ مجموعتي الشعرية الأولى، "فتات البياض" (1981) كتبتُ على صفحة الغلاف الأخيرة كلمة مقتضبة عبرتُ فيها عن تذمري من "أسلوبية قصيدة النثر" المتبعة، طامعًا بقصيدة تقوم على "الكتابة المتعددة" (وفق ما وردَ فيها بلفظه). هذا التعدد تجده في هذه المجموعة الأولى وفي غيرها. فقد استوقفني أن شعراء القصيدة بالنثر (كما أفضلُ تسميتَها) استسهلوا كتابتها، وراحوا يكتبونها بعقلية "النظَّام"، إذا جاز القول، في الشعر العمودي. هذا ما فعلَه، قبلهم، شعراء التفعيلة إذ قصروا تفعيلاتهم على ثلاثة أو أربعة بحور لا أكثر، ومن دون تجديدات تُذكر في إيقاعاتها... استوقفني وجود أنواع في كتابة القصيدة بالنثر، عند روادها، مثل بودلير أو رامبو، فلا نجدها عند من تولوا هذه القصيدة في العالم العربي، مثل أنواع الحوار والوصف وغيرهما.
لو تَعُد إلى بعض شعري الأول المنشور في "فتات البياض" ستجده يقوم على حوار، عدا أن إحدى المقطوعات تتحدث عن الصراع بين النص ومخرجه المسرحي...
غير أن ما قمتُ به منذ نصي: "جثة شهية" (2006) وصولًا إلى "ترانزيت" و"إطار صورة" و"عابرون في ممر استعارة" وغيرها، ينتسب إلى شواغل أخرى، تتعدى تنويع أنواع القصيدة التي أكتبها مع غيري.
لا أستسيغ الغنائية "الطربية" في الشعر العربي الحديث، ولا في القصيدة بالنثر. وإذا ظهرتْ الغنائية في بعض شعري، فهي "خافتة"، مثلما وصفها الشاعر الفرنسي جان-بيار فاي؛ أو هي غنائية مقلوبة، تتغنى بما لا يتمُّ الغناء به وعنه في الشعر عادة. إلى هذه المواقف من الشعر والقصيدة، عايشت، مثل أي مواطن، أحوالًا شديدة التفجر منذ العام 2005، ابتداء من اغتيال رفيق الحريري، وصولًا إلى "الربيع العربي". أحببتُ كتابة نصوص ابتداء مما يجري، من دون أن أتغنى فيها، في هذا الاتجاه أو ذاك. وجدتُ في "مسرحة" القصيدة (أو حواريتها البنائية) حلًا فنيّا مناسبًا، يتيح لي كسر "أحادية" الصوت المتكلم في القصيدة في اتجاه قصيدة تتبادلُها أصوات كثيرة، أصواتُ متكلمين كثر... هذا يُبطل حكمًا الغنائية، ويعزز أمكانات الحوار "الساخن" بين متكلمين، مثلما كان يجري بعنف أشد في الشارع العربي.
مع ذلك، لا أتحدث عن هذه النصوص بأنها "مسرحيات"... قد أكتب المسرح ذات يوم: من يدري؟ أنا لا أدري، إلا أنني أعرف أنني أقدمت على كتابة أنواع أدبية ما كنتُ أفكر فيها أو أخطط لها قبل الإقدام عليها.
تحب أن تعتني بتمثيل العالم بصريًا، حسب قولك، فإلى أي مدى تمتد جماليات الفن التشكيلي إلى ضفاف القصيدة؟
فعلًا، هذا ما أقول به. هذا ما أتكفل به. هذا ما يروق لي فعلُه. أحب للقصيدة أن ترى، أن تعاين، ما يظهر ولا يظهر، ما تراه بعين الخيال، أو بعين الرغبة فيه.
ولعل لدرسي فلسفة الفن أثره البين، ليس في "تلوين" قصيدتي (كما نلقى ذلك في شعر نزار قباني، على سبيل المثال) وحسب، وإنما في تشكل القصيدة تشكلًا فيه كثير من مقومات الفنون بين بناء معماري، وبصرية توافق السرد وتبنيه، فضلًا عن جمالية العين في ما تنتقيه وتصوغه...
لا يخفاني أن عِشرتي الودودة والمقرَّبة لكثير من الفنانين العرب والأجانب مكَّنتني من معايشة اللوحة (أو المحفورة وغيرها) في تشكلها، بين الابتداء بها والانتهاء منها، وما يحدث بينهما. ولا يخفى عليك، من دون شك، أن كثيرًا من الفنانين العرب تلفتوا إلى التشكيل البصري في قصيدتي، فتعاملوا معها وتفننوا بها في أعمال فنية، ومعارض، وكتب فنية وغيرها.
يبدو في كتاباتك الشعرية أنك تنعي اللغة المهجورة من أصحاب الألسنة والمتكلمين، هؤلاء الذين يديرون ظهورهم إلى ما يمتلكون من ثروات بينما يعيشون على الكفاف.. فكيف صنعت لغتك الشعرية الخاصة؟ وكيف يتخلص الشاعر مما تسميه أنت "الرثاثة اللغوية" التى باتت تتحكم ببناء العبارة؟
اللغة رصيد نتحصَّلُه بالسليقة والدراسة والكتابة. هي ما نتربَّى عليه وما نُربيه. فكيف مع الشاعر الذي هو العامل الأول في خدمة اللغة! لهذا لا أتعمد، في الشعر، العودة إلى ألفاظ بعينها، لكي أضفي عليها شعرية ما. وأنا، في هذا الأمر، أختلف مع دعاة اللغة "اليومية"، الذين يستسيغون اكتابة القصيدة ما يتوافر لهم في كلامهم الساري.
اللغة تعيش في داخلي، وتنشط، وأنا، إذ أعود إليها، لا أعود إليها عودة الباني إلى حجارة مرصوفة، جاهزة، وإنما عودة الباني الذي يبني بما تسعه طاقات اللغة التي في عهدته، وبتصرفه، والتي تتبادر وتتقافز على طرف لسانه (مثلما كتبتُ في عنوان إحدى مجموعاتي الشعرية). وإذا كان للغة أن تعيش، أن تنمو، أن تتجدد، فأين لها أن تقوم بهذا كله، خارج الشعر، وخارج قدرات الشاعر نفسه!
لهذا أنا لا "أستعمل" اللغة، ولا أطلب منها الساري، واللطيف، والمأنوس، الذي يبحث عنه – عادة – كاتبُ كلمات الأغنيات التي تطلب الرواج الشديد. وما يمكن ملاحظته في قصائد الشعر "اليومي"، أو أصحاب اللغة "التالفة"، هو أن الجملة ليست "مبنية" في شعرهم، بل هي مرسلة إرسال الكلام في الحوار، أو في الأغنية "الخفيفة"...
أنا لا أعتني بلغتي، كأن أديرها إدارة المحاسب، الذي يطرد منها "الرث" من اللغة، ويستجلب إليها ما يصطفيه منها. اللغة – لو طلبتُ التوصيف – هي ما يسبق الشاعر إلى قصيدته، وهي ما يصنعها. هذا يصحُّ في كيفية كتابتي لقصيدتي، إذ إنني لم أعتد في كتابتها على تعبيد الطرق إليها، وإنما على مباغتة الشعر في الكلام، في فتحات الكلام.
فكيف إن طلبتُ استثارة الانفعال كما الدهشة فيها... لهذا ترى اللغة في انتظام مختلف، ما يظهر كما لو أنها جديدة للغاية، أو منتقاة، فيما هي العيش في اللغة وبها، وتمكينها من أسباب القول الجديد فيها.
يتأتى هذا، عندي، من نظرة إلى الشعر تجعله عالي الإمكان الإنساني في القول: أعلى من الفلسفة نفسها. وهو إمكانٌ ما، ما يعني أنه غير مسبوق، غير معهود... هذا في الوقت الذي ترى فيه إلى أن كثيرًا من الشعر يقوم على الاستهلاك والاستعادة برتابة مكفولة عند جمهور متهالك الثقافة بدوره. يكفي أن نستمع إلى العديد من كلمات الأغاني، وإلى معجمها البائس والرث، لكي نجد قصائد – تفعيلية أو نثرية، على السواء – تتشبه بها، أو تغتذي من الينبوع عينه.
ما زلت تحتفظ بصورة لأخيك وهو خارج من السينما حيث كان يشاهد فيلما لعمر الشريف وفاتن حمامة. إلى أي مدى تحن لـ"فترة الستينات" في بيروت؟ وهل أثرت السينما على كتاباتك خصوصا وأنك تحب العالم بصريًّا ومغرم بالحوار؟
قد يكون ولعي بالسينما هو الأشد في تربيتي الذوقية بعد الكتاب. هذا يعود إلى ستينيات القرن الماضي، وإلى انتشار صالات السينما في بيروت وخارجها، المترافق مع انتشار شاشات التلفزيون في البيوت بصورة متعاظمة...
كان الذهاب إلى السينما أبعد من رحلة، فضلًا عن ملذات الاكتشاف الجغرافي والاجتماعي والثقافي وغيرها. لي ذكريات حية ومنعشة عن السينما المصرية، ونجومها، وجمال الديكورات والدور والقصور... حتى إن المخرج محمد كريم كان يعمد إلى غسيل البقرات قبل تصويرها في صعيد مصر، على ما أخبرنا، ذات مساء، المخرج صلاح أبو سيف، للممثل عزت العلايلي ولي...
أما عن الحنين، فأنا لا أحن إلبها. أحتفظ عنها بذكرى فرحة لما كان عليه عالمنا الضيق والمتباعد في ذلك الوقت. ذكرى منشطة أيضًا لِما كنتُ أتخيل حدوثه من جراء هذه الأفلام وبعدها... لا ينفع الحنين، حتى وإن كنتُ لا أُقبل على مشاهدة الأفلام العربية حاليًّا إلا في ما ندر. لا ينفع أبدًا، ما دام أننا نعايش فترة من "التضخم" الصُّوري، السينمائي وغيره، مِما يُعرض علينا، بل ينهال علينا في هذا العالم المشدود بقوة كبيرة إلى الصورة، الثابتة أو الممتدة.
كثيرا ما تعمل على الشكل من بناء الجملة إلى بناء النص الشعرى وعلاقة الجملة بالسطر الشعرى وكذا علاقة السطر الشعرى بسابقه والذى يليه، فهل يمكن القول أن شربل داغر يرى في الشكل معنى أوليًّا أو معنى خفيًّا؟
الشكل أساس القصيدة عندي، أساس أي عمل أدبي أو فني، ما دام أن المبدع – لولا عنايته بالشكل – لكان مثله مثل غيره. ما تمتاز به القصيدة أو الرواية هو قدرتها على توفير شكل بنائي متميز لما تعالجه. أعرف أن رأيي هذا ينحاز إلى مثالٍ للإبداع لا يوافق الساري منه، بل يجد دومًا في الإبداع سمة التجدد - وهو ما يوفره الشكل قبل أي أمر آخر.
في مناسبة الحديث عن الشكل، الديالوج أو الشكل الحوارى واحد من أكثر الأشكال التى تجد لنفسها متنفسًا وسط قصائدك. فلماذا أنت مغرم بالديالوج أو الحوار؟ وهل هو هروب من الشكل التقليدي للقصيدة؟
فعلًا، لي قصائد عديدة اخترت الحوار شكلًا بنائيًا لها. وهو ما يصحُّ أكثر في نصوص اتخذت من الوضعية الحوارية بين متكلمين، في سياقات مكانية وزمانية محددة، بناءً لها، ما يجعلُها قريبة من البناء المسرحي. قام كتابي "ترانزيت" بمجموعه على هذا الشكل... هذا ما يميز شعري عن غيره، حسب عدد من الدارسين.
إنه الذهاب إلى استقصاء الحدود والقواعد في القصيدة، بل إلى تخطيها. فكيف إن وجدتُ أن القصيدة بالنثر لم تستثمر كفاية حريتها المكتسَبة خارج الوزن والتقليدية!
يتحدث البعض عن "الاستسهال" في شعر البعض من شعراء القصيدة بالنثر. وهو توصيف صحيح، إذ عنتْ كتابة هذه القصيدة التخلصَ من كل قاعدة، سواء سابقة أو جديدة. هذا ما جعل بعض هذا الشعر إرسالَ كلامٍ – عاطفي في أحوال كثيرة – ليس إلا. فيما في إمكان القصيدة بالنثر - أيًّا كان شكلها أو نوعها – أن تستثمر ما اكتسبته من حرية محرَّرَة ومحرِّرَة. أيًّا كان نوع الشعر أو القصيدة، أيًّا كان النص الأدبي، فهو يحتاج إلى قواعد بناء، في شكله ومعناه وتخييله ونحوه.
ترى أن "ممكلة الطفولة" هي ينبوع الشعر لدى الشاعر، فكيف كانت طفولة شربل داغر؟
هذا ما أخذتُه عن ريلكه، إذ يجد في الطفولة نبوع الشعر الصافي، ومملكته الأثيرة. وهو ما أعايشه من دون إيعاز من أحد، إذ يقودني العيش إلى التذكر، إلى تصفح ما عشتُ مثل سيرة، ولكنها لم تُكتب بعد، وإنما هي سيرة انفعالية وحسب.
هل يمكن القول إن لبنان بجبالها العظيمة وقممها المعممة بالثلج وأوديتها الغامضة دربت مخيلة الصبي شربل داغر على أن يصير شاعرًا؟
هذا ما قاله الدكتور محمود مندور منذ ما يقرب القرن عندما كان له أن يدرس – بإعجاب – شعر المهجريين اللبنانيين، فنسبَ تميزَ شعرهم إلى طبيعة لبنان... للطبيعة تأثيرها الأكيد، إلا أن الكتابة عن الطبيعة أو ابتداءً منها، خيار ثقافي، وجمالي، في التجربة اللبنانية.
في ما يخصني، للطبيعة تأثيرها الأكيد في شعري، خصوصًا وأنني أكتبه، في غالبه، في قريتي الجبلية، ذات الطبيعة الأخّاذة. إلا أن ما يحركني في هذه الطبيعة مختلف عما حرَكَ غيري، على ما أظن. فأنا لستُ وصّافًا، أو مغنيًّا، لهذه الطبيعة، ولا أقف منها، وفيها، وقفةَ المنشِد... ما يحركني فيها هو التناول الحسي، الحيوي، الممكن بين عناصر طبيعية هي من تكوينات الطفولة، ومن تكوينات القصيدة أيضًا. فالشاعر، مع هذه العناصر، يصبح قابلًا لأن يرى إلى جسده فيها، إلى أعضائه وهي تتفقد الشجرة والصخرة والنهر والوادي، أشبه بآدم، أو بالشاعر، إذ يُقبل على تسمية العناصر في تجلياتها الأولى.
لهذا تجتمع في هذه الطبيعة مشاهد وصورٌ واقعةٌ بين مشاهد الطفولة ومشاهد القصيدة، إذ تسعى إلى جلاء مكوناتها، وإلى التعرف إلى حراك الأصابع في هواء المشي، كما في الهواء العابر بين الكلمات.
ما هو الدور الذي لعبته "المغرب" في تطوير رؤيتك عن العرب والفن الإسلامي؟
كان لي مع المغرب، وتونس أيضًا، منذ نهاية السبعينيات، وابتداء من باريس، علاقة قوية، أشبه بمدرسة مفتوحة. إذ تعلمتُ فيها الكثير، وأقمتُ علاقات حوار ومودة وتواصل مع كثير من شعرائها وفنانيها ودارسيها، فكنتُ – بحسب كتاب كثيرين – من أوائل الكتاب المشارقة الذين كتبوا عن ثقافتهم وإنتاجاتهم.
كانت للمغرب مكانة خاصة في هذه التربية الذاتية، إذ تعرفتُ فيه على ما لم أعرفه في سابق ثقافتي ومعارفي: تعرفتُ إلى ما كانه بلدٌ إسلامي ذو ثقافة قديمة ومستمرة، بين أمازيغية وعربية، خارج السلطنة العثمانية. استوقفني حضور المغرب، في تاريخه الممتد، الذي مثَّلَ لي بعضًا مما كانه التاريخ الإسلامي القديم، لجهة المسكن والمأكل واللباس والعمارة والصناعات المختلفة و"المخزن" وغيرها، في سياق تتشكل فيه أيضًا معالم ثقافة مستجدة خارجة على ثقافة الفقهاء، وعلى البلاط و"الأخوانيات"، صوب إبداعٍ أشدَّ تلمسًا لأحوال المغاربة في مدنهم الجديدة خارج مدنهم العريقة، وفي تمخضات عيشهم الاجتماعي بين "البرنس" و"البنطلون" – لو شئتُ الاختصار والترميز.
كان للمغرب أثر أكيد في ثقافتي، في جديدها الناشئ، كما في إرثها القديم، الذي أمدَّني بمثال مجتمعي وعمراني لما كانه العيش والتقدم في عصور سابقة. هذا ما ساعدني في درس الفن الإسلامي خصوصًا...
بعد كل هذا العمر أعيد عليك السؤال الذي سألك إياه أستاذك الشاعر د. خليل حاوي في جامعتك، في "كلية التربية": لماذا تكتب قصيدة النثر؟ وأضيف إليه سؤالا أخر: ما هو مستقبل تلك القصيدة؟
أعيد ما سبق أن قلتُه له بعد كتابتي لثاني قصيدة احترافية في شعري: هذه القصيدة هي تنفُّسي في هواء زمني. وهو ما بتُّ أشد إصرارًا عليه، وتمسكًا به. فقد أصبحتْ لي سيرة مع هذه القصيدة، ما كنتُ إخالها بهذا الاتساع والامتداد حين شرعتُ فيها. فقد أصدرتُ اثنتي مجموعة شعرية، وأنهيتُ في هذا الصيف مجموعة جديدة... فضلًا عن مختارات وأنطولوجيات عديدة، بعضُها مترجم إلى لغات أجنبية.
لهذا أقول أنا محظوظ بوجود مثل هذه القصيدة، إذ إنني أتبرمُ للغاية، منذ مراهقتي، من طنين القوافي، ومن التوقيعات النظامية، العسكرية، في الأوزان الشعرية.
أنا محظوظ لكوني تمكنتُ فيها من عيش ما لم أعشْه في حياتي، ما يجعلها ممتدة، وأشد انفعالًا وبهجة مما كانت عليه... لهذا هي مستقبلي، ومتمنيًا أن تكون كذلك لغيري.
توجت بجائزة الشيخ زايد للكتاب فكيف ترى أهمية تتويج المبدعين بجوائز مهمة تنتصر للإبداع ولا شئ أخر غيره؟
فرحتُ بفوزي، ولا يسعني الحديث عن غيرها من الجوائز التي لم أتشرف بالفوز بها. ما يمكنني قوله هو أن فوزي بهذه الجائزة المرموقة لم يسبقه، ولم يتبعه خصوصًأ أي نقد طاول "صحة" فوزي بها. لم أقرأ – في ما قرأت – أي نقد أو خبر أشار إلى أي "انحياز" في عملية فوزي.
هل يمكن القول أن رامبو كان أكثر الشعراء تحريضا لشربل داغر على الكتابة ومعوقا له أيضا لأنه جعلك تتوقف لفترة كبيرة عن كتابة الشعر؟
فعلًا. فهو بقدر ما كان محرِّضًا، كان عائقًا أمامي. رامبو هو من أكثر الشعراء الذين أعود إلى شعرهم، في قراءات متباعدة ولكن مستمرة. ففيه ما يُدهشني بعد ما يزيد على القرن والنصف على صدوره. كما لو أن شعرَه كُتبَ للتو، أو لعقود مقبلة.
هل مهد تدريسك الرواية في الجامعة، بالإضافة إلى وجود السرد كبعد ملازم لشعرك، إلى دخولك عالم الرواية دونما قلق؟
من دون شك، إذ مكَّنني تدريس الرواية من تعلُّم قواعدها، ومن معرفة بعض أسرار كتابتها. إلا أن ما جذبني إليها هو ما تتيحه من كيان أدبي وثقافي واجتماعي مختلف عما تصنعه القصيدة. في هذا متعةٌ لكاتبها، أشبه بالطفل الذي كانه حينما كان يروي لرفاقه في القرية عما كان قد شاهده في المدينة، وما أتيح لهم، في القرية، التعرف إليه، في فيلم، أو على شاشة تلفزيون...
كما جلبتْ لي كتابة الرواية متعة مزيدة، هي متعة التخفي والتلطي وراء "شخصيات"، متعة التلاعب بمجريات أحداث، مِما عايشتُ أو مِما استعذبتُ أن أعيش... في زمني، أو قبل مئتي سنة.
تعتبر "التذكر - على قيمته - مضللًا لأنك تتذكر حسب ما أنت عليه اليوم ما كنت عليه في السابق". فكيف ترى كتابة السيرة الذاتية التي تقوم في المقام الأول على التذكر؟ ومتى نقرأ سيرة شربل داغر الذاتية؟
التذكر لا يستعيد الماضي كما كان، بل كما حفظتْه الذاكرة، أو أسقطتْه، أو حسَّنتْه، أو قبَّحتْه... لهذا كان لي موقف متحفظ من السيرة الذاتية، أو من شكل كتابتها الفني.
هذا ما تحاشيتُه وتنبهتُ إليه في كتابتي الجزء الأول من سيرتي الذاتية، التي تصدر في الشهور القليلة القادمة عن "دار المتوسط".
في جوف الهرم الأكبر في الجيزة كانت خيبة أملك كبيرة لكنك تعلمت هناك معنى "السياسة" الخفي. فهل يمكن أن توضح ذلك للقارئ؟
الخيبة كانت كبيرة، إذ إن الصعود منهكٌ، ما يجعلك تتوقع أو تنتظر كشوفات عظيمة عند الوصول، فيما تجد نفسك، في نهاية الصعود، أمام ناووس فارغ ليس إلا. إلا أنني تعلمتُ ما هو أهم من هذا الشعور الانفعالي، وهو أن الإيحاء بوجود شيء مذهل في نهاية الصعود، هو مثل الإيحاء بوجود قوة مغيَّبة ولكن نافذة وساحرة، كما لو أنك تُظهر غمد السيف بدل نصله.
(مجلّة "أخبار الأدب"، القاهرة، 11 تشرين الثاني 2020)