(هذا ما كتبتْه الشاعرة الدكتورة دورين نصر في تقديم الكتاب الجديد : "شربل داغر : قصيدتي، معهم، وبلساني"، الصادر قبل اسبوع عن "العائدون للنشر"، في الأردن).
"إنّ هذا الكتاب يشكّل مجموعة حوارات مع الشّاعر اللبناني شربل داغر، واختيرت من مجموع كبير من الحوارات، مبتدئة من مطلع "الرّبيع العربي" (2011) حتّى أيامنا هذه. وقد سبق للدكتور مصطفى كيلاني أن نشر في كتابه: "شربل داغر: الرغبة في القصيدة" (2006)، مجموعة من الحوارات سابقة على ما انتقيت.
وقد اخترتُ المقابلات بعد العام 2011، لأنّها شكّلت في شعر داغر، كما في مواقفه الشعريّة والسياسيّة، مفترقًا لافتًا. وقد توكّل بها شعراء ودارسون وصحفيّون، موزّعون في أكثر من بلدٍ عربيّ، وهم: محمود منير، لامع الحر، سماح عبد السلام، دومينيك الخوري، نايلة أبي نادر، ليندا نصّار، عبد اللطيف الوراري، خالد بيومي، أمجد مجدوب رشيد، نوّارة لحراش، خضير الزيدي، كريم عبد السلام، بشري محمد، سمير درويش، داليا عاصم، وداد سلوم، إدريس الخضراوي محمد عدناني، ودورين نصر.
تنطلق هذه المقدّمة من مفهوم بعينه، خاص بالحوارات، وهي أنها تلتقي مع إنتاج الكاتب، من دون أن تكون من متنها. وهو ما درسَه جيرار جينيت (Gérard Genette)، وأطلق عليه تسمية "عتبات" (Seuils)، وهي عنوان كتابه الذائع الصّيت.
توقّف جينيت عند مواد مرفقة بالكتاب، من مقدّمة، وتوطئة، وكلمة على صفحة الغلاف الأخيرة. وهي تعود للكاتب نفسه أو لشريك آخر معه في العمليّات الكتابيّة، كما أنّه أقرّ بوجود مواد أخرى تقع خارج الكتاب بالمعنيين الطباعي والمادي، لكنّها تبقى متّصلة به. أي ما يقال عن الكاتب والكتاب وعن أدبه عمومًا من قبل الكاتب نفسه في خطابه النقدي، أو يشترك بها مع غيره مثل المقابلات الصحفيّة والحوارات.
فالكتاب الشّعريّ تعبير، فيما الكلام عنه عرضٌ وتقديم وتسويق، وما يطلبه من مقاصد وما يحتاج إليه من تدبيرات. هكذا نغدو "أمام كاتب واحد لنَصّين مختلفين، موصولَين مادّيًا، لكنّهما متباينان تأليفيًّا،وفي استهدافاتهما". إلاّ أنّه من دون تمييز ضروري بين المواد في زمنها وفي تأليفها، تبقى مختلفة، خصوصًا في مقاصدها. وعلى الرّغم من أنّ هدف العتبات، بحسب جينيت، شرحي ونقدي، لكنّه أشار كذلك - بدرجات متفاوتة - إلى أنّ هذه المواد الكتابيّة المرفقة بالكتاب قد تقوم أيضًا على التسويق والترويج.
انطلق د. داغر من مفهوم "العتبات"، وبنى عليها، وعدَّلَها كما أضاف إليها، وانتهى إلى التمييز بين "عتبات الدّخول إلى الكتاب" وبين "عتبات الخروج إلى غيره". وهي ثلاثة في حسابه : "النصوص المصاحبة، النصوص المحيطة، والنصوص الموازية". وإذا كانت النصوص "المصاحبة" هي التي تجتمع في الكتاب، فـ"المحيطة" هي ما اتّصل به من دون أن تكون مطبوعة معه، في متنه، أمّا "الموازية"، فهي ما يحاذي الكتاب في زمنه التأليفي والثقافي والتاريخي. ويعتبر الحوار، بالتالي، واحدًا من النصوص "المحيطة"، ما يشترك بين الكاتب (حول كتابه، حول كتبه) مع شريك (الناقد، الصحفي...)، ما يهدف إلى استطلاع ما يقع بعد الكتاب، وما يسبقه، ويخفيه، ويعرِّف به. ولمّا كانت القصيدة بيتًا، فإنّ الحوار عتبته. ويتبيّن من خلال الاطّلاع على حوارات د. داغر أنّ اهتمامه بها، هو طريقة أخرى للتفكير في القصيدة، واستكمالٌ لدرسها، والذّهاب صوب مجهولها.
فمن حاور د. داغر – مثلي - كان شريكًا معه. هذا ما تبيّنتُه (في موقعه الإلكتروني) حيث يتصدّر الحرف "مع" مختلف الحوارات، ما يضع الكاتب والمحاوِر معًا في إنتاج النص عينه. ومن يتابع مجرى الحوارات، يتحقق من أن د. داغر يستجمع فيها نصابه الشعري كما نصابه الدراسي للشعر، ما يجعل للحوارات أهمية تتعدى التعريف بإنتاجه، بل تُدرج تجربته في غيرها، بين سابقها وبين ما ترمي إليه.
هكذا يتحدّث د. داغر عن رأيه في القصيدة العربيّة، معتبرًا نفسه "غريبًا" في المشهد الشّعري، لأنّه يُقبل على الشّعر إقبالاً مختلفًا، لا يقوم على خطاب وجداني، أو سياسي، ولا يجعل من القصيدة غناءً مستديمًا. ولهذا فهي قصيدة غير عاطفيّة، حيث لا آهات، ولا دموع، لا أناشيد أو مراثٍ، لا بهجة ولا مآسٍ. فانصراف داغر إلى القصيدة كان من دون التفكير في الشّعر ومن دون التطلّع إلى الشّاعر، فالقصيدة التي يخرج من كتابتها لا يُحسن الرجوع إليها، إذ تكون قد التمت أغضانها عليها كما في غابة.
يٌولي د. شربل داغر أهميّة خاصّة لبناء قصيدته، حيث الرّشاقة في الشّكل، والعناية باختيار المفردة، والتخلّي عن التفاصيل غير اللّازمة، والتكثيف في المحتوى. ينأى بالواقع إلى عالم مغاير، فتقيم الكلمات في قصائده من دون أطياف، ويتحوّل نصّه إلى لحظة حضور في الغياب.
ويبقى الشّعر هاجسه بدليل أنّه رفيق عمره، يتنفّسه ويتنفّس فيه. فاحتياجه للشّعر، لكتابة القصيدة، لا يصدر فقط عن هوسٍ في التّعبير، وإنّما أيضًا عن شاغل كيانيّ ووجوديّ، لكنّه ينفصل عن الأنا المعلاة من شأنها، أو التي تنصرف إلى الغناء بما تكتبه، سواء أكان موتًا أم حبًّا. فاحتياجه إلى الشّعر مثل شهوة غامضة.
وقصيدته تقف على مفترق طرق متعدّدة ومتعاكسة أحيانًا. هي تعرفه أكثر ممّا يعرفها، تعرف طرقها قبل أن ينتهي إلى اكتشافها. لذلك، تقع القصيدة عنده في الشّعر وخارجه، في الوقت عينه، وبعض النقاد ممّن درسوا شعره تحدّثوا عن كونه يكتب قصيدة "ما بعد قصيدة النثر"، بمعنى أنّ القصيدة تستجلي أفقًا جديدًا لها.
إنّ القصيدة تكتبه حين يكتبها، هي التي توصله حين يتوجّه إليها، وهذا ما يشدّه إليها. هي مستقبَل على الرّغم من أنّها تَصدر عن ماضٍ. وللشعر مصير يلازمه من دون أن يبالي بما يحيط به. فعالم الشّاعر لا يُدرك بالمعرفة التجريبيّة، وإنّما هو مزيج من الخيال والذاكرة. وليست قصيدته إلاّ انعكاسًا لهذا العالم المختلف. فنحن، مثلاً، لا يمكننا قراءة دلالة "الظلّ" المتكرّرة في شعره على أنّها مجرّد أثر للأشياء، ولا بوصفها خيالاً شبحيًّا؛ لعلّها الصورة التضمينيّة للمعنى، أو المعنى نفسه. يقول في قصيدة "الشجرة التي أجلس في فيئها":
"ما هو لي، هو له ولي،
وما له، يتصرّف به وحده...".
أمّا في قصيدة "عتبات" فيردف قائلاً:
"أهذه
حدود
وظلّي يلاعب أخيلة
وادعة في شقوق الجدران"
وعلى الرّغم من احتدام شعره بالظّلال والأخيلة إلاّ أنّ تجربته الدّاخليّة تفصح عن جماليّتها عن طريق قدرتها على الإصغاء، ما يجعل القبض على "الأنا" ليس بالمهمّة السهلة؛ فحضورُها متعدّد في الآخر: "أنتظرُ دوري، أنتظر غيري" ("عتبات")، "كنتُ أسترق النّظر إلى غيري" ("تربية الهواء")، "والأشياء والطبيعة" (شجرة، حصاة، ماء، هواء...).
من هنا، بعد بثّ الأنا في سواها، تتحوّل إلى "أنا" مثقلة بالعالم. بالتالي، الذات – لدى داغر – هي ذات الشّاعر وأكثر. والأنا الواردة في القصائد، هي "أنا" شخص يُقدّم إلينا ما يشاهده، من دون أن يُقحم رغباته، ولا مشاعره، بالضرورة في تحديد عالم القصيدة. وهذا ما يَنزع عن ضمير المتكلّم صفات الرومنسيّة، وما يدفعنا إلى التساؤل: هل استخدامه لضمير المتكلّم في مجمل القصائد هو تدبير وخيار يتماشيان مع هيئة النّصّ الشّعري؟
في الواقع، إنّ نصوص داغر الشعريّة المحكمة البناء، تجعل الدلالة تولد من البناء قَدر ولادتها من بقيّة العناصر. والمعنى عنده يُلتمس من الإشارات، والمُفترق من الضمائر، ويقيم في التضمينات، على ضفّة العبارات. هذا ما يميّز أسلوبه ويظهر الجهد المبذول فيه، إذ يَترك العنان لخياله الذي يلامس الأفق، ويندلق في ما بعد على الورقة.
إنّ الشّعر عند د. داغر ضوء. ضوءٌ للقارئ، بحيث تبقى الصورة زائفة، تقيم الأشياء في ظلّها وصداها، تقيم في وعدها، وتملأ بغيابها الحضور. لقد دخل عالم الشّعر كما يدخل غابة مجهولة، مليئة بالمخاطر، بقدر ما هي مغوية. وفيما كان يكتب قصائده، كان مشغولاً بفتح طريق جديد، يمنح، من خلاله، نصوصه الشعريّة شكلاً جديدًا.
فلا بروز لـ"أنا" ولا "أنتَ" أو "أنتِ"، بل رسمٌ لكائن وحيد يبحث عن الطريق إلى صورة للعالم. إنّ هذا النمط من الكتابة يؤسّس لشعريّة حداثيّة جديدة، وفقًا لتدابير وخيارات يتّخذها الشّاعر ليستحيل شعره فضاءً رحبًا لقراءات مفتوحة.
وإذا كان الشّاعر قد مضى في نصوصه الشعريّة، فإنّ القارئ يُعيد الخُطى فيها، لا سيّما أنّ الحياة هي بهشاشة عصفورة، وهي بحاجة دومًا إلى شاعر يحتفي بإيقاعاتها. وهذا ما ستبيّنه الحوارات المنتقاة داخل هذا الكتاب".
في 19/3/2020