(أحببتُ أن تطلعوا معي على ما اطلعتُ عليه، اليوم، في هذه الدراسة اللافتة، المنشورة في المغرب، للباحث اللبناني جوزف الشرقاوي، في مجلة "يتفكرون"، وتتناول نظراتي إلى مسائل متشابكة، بين: الحدود، والفن، و"الثورات" العربية).
 
"الفن هو رجوع ما كان مكبوتًا بأحلى صوره (...)، لأن التخيّل الفني يعطي للتذكر اللاشعوري صورة التحرر الذي قمعتْه قوانين الواقع التي تهتمُّ بالمردود المادي المباشر". انطلاقًا من قول تيودور أدورنو هذا، نرى أن هناك علاقة وثيقة بين الحرية وفعل التحرّر وبين الفن، خصوصًا وأن الفن ظاهرة اجتماعية، يتواصل فيه فنان منتج للأعمال الفنية مع جمهور متلقٍ لهذه الأعمال؛ وأن الحرية تعطي فسحة للإنسان من أجل التعبير، واتخاذ القرارات، واختيار السلوك الذي يناسبه، في بيئته ومجتمعه. وإذا كان مجال بحثنا يتحدد في الإنسان العربي، وهمومه السياسية، والاجتماعية، وفنونه، كان لا بدّ لنا من اختيار مفكّر جمالي عربي تبنّى هذه القضايا في كِتاباته، وهو البروفيسور شربل داغر.
من هنا، وجدنا أنه من الأفضل البحث في علاقة الحرية بالفن، انطلاقًا من الفنان، خصوصًا في نصّ داغر، "الفن والحرية"؛ وانطلاقًا من الجمهور العربي المتلقّي لهذا الفن، ومحاولات تحرّره من أنظمته السياسية في حِراك "الربيع العربي"، على اعتبار أنها أنظمة استبدادية، وبخاصة في نص داغر: "التظاهرة، أو الخروج من جسد السلطان".
في تعيين "الحرية" و"الحدود" عند داغر
يبتعد داغر عن تعيين مصطلح "حرية" لأنه يحمل معانٍ اعتقادية أو ثقافية تحّد الباحث في "نطاقات دلالية معيّنة". لذا سيستبدله بمصطلح الـ"حدود" نظرًا إلى ما يحمله من معنى الفصل بهدف التمايز مستخدمًا القوّة؛ وذلك بعيدًا عن أي "حمولات أخلاقية ودينيّة". كما هو الحال عند مصطلح "حرية". يبحث داغر في مصطلح الـ"حدود" الذي يلائم موضوع علاقة الفن بالقيود التي تحيط به، والتي من شأنها أن تحرّمه، أو تمنعه، أو تضبطه. ويبدأ هذا البحث بمعنى المصطلح عينه في اللغة العربية، فيجد أنه عبارة عن "خط مادي" يفصل في الجغرافية، كما في القيمة، بين حيّزَين مغايرَين، أو طبيعتَين مختلفتَين في ما بينهما بهدف التمايز عند الإنسان بحسب التراتبية. هذا مع العلم أن هناك "حدودًا" رمزية تفصل بين "التصوّرات، والاعتقادات، والأفعال، والأقوال"، بحسب ما يجوز أو ما لا يجوز التفكّر فيه، أو التلفّظ به. كما أن الـ"حدود الرمزية" تحتاج إلى واعز مادي، يمارس العنف الشرعي، إضافة إلى سلطات رمزية أخرى، يعوّل عليها الواعز المادي نفسه كـ"الأعراف، والاتفاقيات، والمعاهدات، والقوانين". من هنا، تهتمّ الـ"حدود الرمزية" بأمرَين متكاملين، وهما الفصل بهدف التمايز، من جهة، ومعرفة ما هو مسموح بلوغه، أو القيام به، وما هو ممنوع، في كل ناحية من الـ"حدود"، من جهةٍ أخرى. بعد تعريف "الحدود"، سنتوقف عند انتقالاتها الأربعة، حسب داغر.
انتقالات الـ"حدود" الأربعة
يرى داغر أن الانتقالة الأولى للـ"حدود" تتعين في "الجن"، وهو ما تمَّ التداول به في اللغات القديمة، لاسيما الإغريقية واللغات الهندية-الأوروبية، والعربية (قبل الإسلام). إن مصطلح "الجن" يحمل معنى "التابع"، بالإضافة إلى دلالات أخرى كـ"العبقري" و"المجنون" و"المتميّز". وهو يعطي الشعراء "كلامًا بليغًا" و"جميلاً" ومميّزًا عمّا هو مشترك بين الناس. ولم يقتصر الأمر على استخدام هذا المصطلح عند الشعراء، بل تعدّاه إلى سلوكات الناس المحيطين بالشاعر. فقد كان الشعب يقتل الشاعر الذي لا يَصدُق في تنبؤاته، مما ولّد حالة تنافس شديدة بين الكهّانة والشعراء، وأدّت إلى احتلال الشعراء مكانة العراّف ووظيفته. يطلب الشعراء من الجن - على اعتبار أنهم "قِوى وسيطة"، من شأنها أن تنقل الكلام البليغ من الغيب إلى الحاضر - "اختراقَ الحدود" بين العالم المادي والعالم الغيبي، عند نظم القصيدة: يعبر الـ"حدود" المرسومة بين العالمَين من أجل "جلب" القصيدة من "وادي عبقر"، وهو مكان يصعب على الإنسان أن يطأه عند الجاهليين. من هنا، يتصف الكلام المنقول من العالم الخفيّ بأنه يخرق العالم المنقول إليه بقوى غير بشرية، إذ إنه غير مرئي، ومسموع في آن؛ فيكون بذلك شبيهًا ببقية المخلوقات الأسطورية، من ناحية أنها نصف إلهية ونصف بشرية معًا. انطلاقًا مما تقدّم، رفض الإسلام العلاقة بين الإنسان والجن، واعتبرها محظورة، لأنها تميل إلى "اقتراف السوء" مما حدا بهم إلى فرض "قطيعة" مع الشعر من الناحية المعرفية: هكذا تكون فكرة الجن صيغةً أوّلية لـ"حدود" محظورة على المستوى الاعتقادي.
أما الانتقالة الثانية، حسب داغر، فارتسمت في فلسفة الإغريق والأديان التوحيدية عبر التمييز بين "سبب واحد"، أو "السماء"، أو "عالم المُثُل"، أو "عالم علوي"، أو "عالم مثالي"، من جهة، وبين "عالم النسخ المتدهورة"، أو "عالم علوي"، أو "الأرض"، أو "عالم منحط"، من جهةٍ أخرى. مع العلم أن الـ"حدود" عينها لا تُشكِّل انقطاعًا بينهما، بل إن هناك "مقايسة" أو "مناسبة" بينهما تتمثّل بتصوير العالم الخفيّ، في الجمالية الإغريقية وفلسفتها، وتتمثّل ببلوغ وسطاء العالم الكلّي وهو خفيّ على البقية. لكن هذا الوسيط ليس الجنّ نفسه، كما هو الحال في الصيغة الأولى، بل أصبح كتبًا مقدّسة يبحث فيها الإنسان بتمعّن ليجد معناها، أي معنى العالم الخفيّ.
كما ارتسمت "حدود" جديدة، في انتقالة ثالثة، حسب داغر، بين الفنان و"الطبيعة الإنسانية أو الجامدة"، بعد الـ"حدود" التي وضعتها الفلسفة الإغريقية أو الأديان التوحيدية. فأصبحت هذه الـ"حدود" أرضية المنشأ، إذ إن "الحقيقة موجودة في الطبيعة"، وتدعو الحقيقة عينها الإنسان إلى البحث عنها. علمًا أن الفنون، في هذه الانتقالة، قد أصبحت تنقل العالم الطبيعي بعد أن كان يقتصر دوره على الزينة والإخبار أو السرد. فقد انتظمت الفنون عينها ضمن هذه الـ"حدود" وفق "قواعد داخلية" تسنّها كل ثقافة على حدة، من جهة، ووفق "قوانين أسلوبية" أو "قوانين اجتماعية-أخلاقية" أو "قوانين سياسية" بدلاً من محرَّمات محظورة، من جهة ثانية. كما أن هذه القوانين تنقسم بين ما هو غير متَّفق عليه، أي "خاضع للأخذ والردّ"، وبين ما هو "اللاّ مفكَّر به" في المجتمع، فتقع في المركزية الإثنية باعتبار آدابها وفنونها قوانين عالمية من أجل بلوغ التطوّر.
أما بالنسبة إلى الانتقالة الرابعة، حسب داغر، فقد أصبحت الـ"حدود" داخل الإنسان نفسه، فتفصل بين "وعيه" و"لاوعيه"، ابتداءً من دراسات فرويد، ومن الأدب الروسي المتمثّل بدوستويفسكي. أصبح الفنان "هزيلاً"، و"هشًا"، و"متصدِّعًا"، و"ضعيف البنية" مما يجعله مبدِعًا؛ وذلك بعد أن كان "عبقريًا" في العصر الرومنسي في الانتقالة الثالثة؛ أو "شاهدًا على الحقيقة" في العصر الديني في الانتقالة الثانية؛ أو "ناطقًا أكيدًا من أقواله" في العهد السحري أو في الصيغة الأولى للـ"حدود".
وبعد أن عرّف داغر الـ"حدود"، ووصف انتقالاتها الأربعة، يموضعها في التاريخ الفنّي الإسلامي عبر درس تحريم الصورة عند المسلمين. وهذا ما سنتوقف عنده.
الـ"حدود" والـ"صورة" في الإسلام
يرى داغر أن"تحريم الصورة" قد اندثر، لكنه ترك بعض "المتبقيات" التي تتمثّل بالتدنيس أو بما هو دنيوي. لذا، أراد درس هذا التحريم في الإسلام، بدءًا من "دلالات الصورة في القرآن": يجد داغر أن مصطلح "صور" ومشتقّاته كـ"مصوّر" مرتبطتان بالخالق، ويُقصَد بها "تصوّر الخالق للمخلوق" قبل الخلق، وهي صورة غير خاضعة إلى غيرها من الصوَر، أو إلى أي أصل آخر، بل هي تتناسب مع مشيئته في الخلق. مع العلم أن "الصورة" ترتبط بـ"هيئة الإنسان قبل خلقه وبعده"، ويقوم بها الخالق، خصوصًا أنه المصوِّر، وذلك من دون الاعتماد على أنموذج سابق، بل يخلق من العدم. انطلاقًا مما تقدّم، انحصر استخدام مصطلح "صور" في مجال "خارج النطاق الإنساني"، بعد أن كان متداوَلاً بشكلٍ أوسع في الجاهلية. ولم يعد هذا الربط بين التصوير وفعل الخلق في الإسلام السببَ الوحيد المانع له، بل إن هناك سببًا آخر وهو العلاقة بين الروح والصورة. والمقصود بهذه العلاقة "المناسبةُ" بين العالمَين، أو القطيعةُ بينهما عبر جماعتَي "الصفاتية" و"المشبّهة": هكذا يتوصّل الفكر الإسلامي إلى "عملية تبعيد" بين العالمَين إلى حدِّ القطيعة. مع العلم أن هناك مفاهيم عدّة أسهمت في ازدياد وتيرة هذا التبعيد، وهي مفاهيم التعيين المتداوَل بها في المجالين، فيصبح تعيين ما هو علوي بنفي ما هو سفلي أو إثباته، أي أن العالم العلوي مستحيل الوصف والتشبيه. إن هناك حالة رفض لأي محاولة تقرّب من العلوي، أو التوسط بين السفلي والعلوي، وذلك من أجل "التمنّع عن وصف الله وتبرئته عمّا يصفه به المشركون". لذا، يصبح أي تعيين لما هو علوي مستحيلاً بالمقابلة مع ما هو سفلي؛ كما يستحيل أي تسمية له، أو أي وصف له، أو تقرّب منه، خصوصًا أن ما هو علوي يبقى بديعًا: إن "البدع" هي قوة علوية من شأنها أن تُحدث ما لم يكن سابقًا، أي الخلق من عدم، أي "بدء تام". أما التوهّم فيبقى خارج أي إمكانية، انطلاقًا من عملية الخلق.
أما في الوقت الراهن، فحالة التصوير في أماكن العبادة الإسلامية تكاد تكون معدومة، باستثناء صور للإمام علي أو أحداث السيرة النبوية. كما أن فيلم "الرسالة" وبعض المسلسلات التلفزيونية تمتنع عن إبراز صورة للرسول. في حين أن فيلم "المهاجر" ليوسف شاهين وأغنية مارسيل خليفة ("أنا يوسف، يا أبي...") أثارا ضجّة دينية، فاستجدّت، بالتالي، قضية الـ"حدود" القديمة في استحسان فنون معيَّنة واستقباح غيرها. من هنا، يتبيّن أن الـ"حدود" القديمة تبقى غير مخترَقة، على الرغم من التجديد في الأسلوب والمعالجة. ولكن يرى داغر أن هذه "الحدود تبقى مهدّدة بالزوال"، كما حصل مع قضية منع الموسيقى في الإيام الأولى من الثورة الإيرانية. في حين أن قضية الفتوى التي تجيز هدر دمّ سلمان رشدي قد تُشعر الإنسان بأنه يعيش في الـ"حدود" القديمة عينها، فيما هي مجرَّد "تدبير إداري" تقوم به "الإدارة الدينية للمقدّسات في سياق تنازعي يشمل دولاً بعينها"، ما يتشابه إلى حدٍ ما مع قضية "الحلول في جسد الله" عند الحلاّج، وبفتوى هدر دمِّه. ولكن الفرق يكمن في أن الفتوى بحق سلمان رشدي تبقى خارج دائرة التنفيذ، مما يدلّ إلى الإبقاء على الـ"حدود" القديمة عينها، من ناحية ما هو "ممكن إخباره" وما هو "غير ممكن إخباره". ولكن تبقى هذه الفتاوى من دون تنفيذ، بسبب الصراع الدائر بين الدول بعضها مع بعض، من جهة، وبين "مُديري المقدّس" في الدول عينها، من جهةٍ أخرى، خصوصًا وأن هناك غيابًا واضحًا للفصل بين السلطتَين السياسية والدينية، أي بين الـ"حدود" والقانون.
التحرّر بـ"التظاهرة" من الاستبداد السياسي
بعد أن بحثنا في حرية الفنان عند اختيار موضوعات الفن، بهدف الإنتاج، رأينا أنه من الأفضل البحث في تحرّر الجمهور العربي، من خلال "التظاهرة"، من أجل الخروج على السلطة، بحسب ما ورد عند داغر. فهو يبحث في ظاهرة "التظاهرة" على أساس أنها "بروز أو ظهور المواطن نفسه" انطلاقًا من مبدأ "العلانية". ويقصد داغر بها التغييرات الحاصلة على المستويين المعماري، والبنيوي الاجتماعي، في البلدان الإسلامية إثر الإستعمار: مع ظهور محال تجارية تعرض منتجاتها، وما رافقها من سلوكات اجتماعية، غير مألوفة، كتنزّه الزوجة وحدها للتبضع، أو للمتعة، أو برفقة زوجها. هذا ما كان مرفوضًا لأنه موضة غربية، تسمح للمرأة بالخروج إلى الشارع "مع حليلها أو خليلها"، مما يزيد الاختلال في المجتمع. فإذا كانت الموضة الغربية هي أولى أشكال الظهور إلى العلن، فقد أعقبتها - بين جملة ظواهر أخرى - "التظاهرة"... هكذا أراد داغر البحث فيها، وفي أسبابها التاريخية، والسياسية، والنفسية، والاجتماعية. مع العلم أن دراستها تبقى عصيّة على أي باحث في ظل غياب أي دراسة عنها في البلدان العربية، وفي ظلّ نِدرتها. وظلّت "التظاهرة" تعبّر عن اللاتوازن لمصلحة السلطة، خصوصًا وأن الحاكم يرى فيها خروجًا على سلطانه.
أما من الناحيتَين النفسية والاجتماعية للـ"تظاهرة"، فيجد داغر أن هناك "استعدادًا"، أو "تهيؤا"، أو "مؤثرات"، أو "دوافع متحركة" عند المتظاهرين أكثر مما هو فعل "كسر حاجز الخوف". ومن ثمَّ، فهي "تصدر عن إحساسات ودوافع ومحركات وآراء، وتستدعي تدابير وخبرات، كما تظهر في أشكال وإداءات، وتفضي إلى وقائع وحدوثات وأشكال تلقٍ وتقويم". إن هذا "الاستعداد" يؤثر على قوى قد تتألف من طبقة معيّنة، أو من فئة تتكوّن فيها طبقات عدّة، وتتمظهر من خلال حزب، أو أحزاب عدّة، أو منطقة، تتشارك فيها "مسارات فردية خالصة" لتشكّل خروجًا صعبًا أو خروجًا "بريًّا"، إذ يصدر عن هذا الخروج مواجهات بين الأفراد في "حقيقتهم المحدودة"، من جهة، وبين الأجهزة الأمنية، من جهةٍ أخرى. في المقابل، تتصف السلطة بأنها تتشكّل من أنظمة حكم "سلطانية" و"استبدادية" اقتصرت على "عهود الأُسر السياسية" و"التوريث السياسي" في البلدان العربية، منذ انتهاء "مجالس الصحابة" في عهد الخلفاء الراشدين.
أما من الناحية الجمالية، فقد تبيّن أن "التظاهرة" مشهد له "تعبيرات دالة، فردية، وجماعية". علمًا أن الفردية تتمثّل بتنوّع التعبيرات، في حين أن ما هو جماعي يتّصف بما يجمع المتظاهرين في تعبيرات لا تقتصر فقط على بروز المتظاهرين عند "مجيء الكلام"، و"انكشاف الجسد"، و"تعالي التطلّع"، "ورفع الصوت"، و"رفع اليد"، و"رفع الجسد نفسه". بل تتعدّاه إلى ما يدعوه داغر بـ"الإزاحة"، عندما تتدافع أقدام المتظاهرين مثلما تتدافع الكلمات في الجملة. كما يصف داغر جمهور "التظاهرة" بأنهم ممثلون كانوا في حالة غيبوبة، أو غيّبتهم السلطة، ثم أصبحوا "صارخين، مطالبين، ورافضين" بصورة مفاجِئة. انطلاقًا مما تقدّم، تَجمع التظاهرة بين ما هو فني وما هو سياسي، إذ إنها تشكّل شراكة بين المجالين بواسطة الإحساس.
خروج الفن من القصر ودوره السياسي
بعد أن جسّدت "التظاهرة" ثورة على السلطان، وخروجًا من جسده، وفتنة سياسية، خصوصًا وأنها وجه من أوجه تحرّر الإنسان العربي من نير الاستبداد السياسي، يجد داغر أن هناك "ثورة إبداعية" في الفن، تتمثّل بخروجه من قصر الإقطاعي، وبتوجّهه نحو الجمهور، ليدخل إلى السوق الرأسمالية. ومن أهم آثار هذه الثورة الفنية هي بناء مكانات اجتماعية متمايزة بين المبدعين عبر الصراعات في ما بينهم. إن هذه الصِراعات تتمظهر بقيام مدارس فنيّة عدّة، و"تحتكم" إلى الجمهور، بمعنى أنها تحصل على شرعيتها مستندةً إلى أذواق الجمهور المتباينة، لكي تغيّر في مقترحاتها وتعدّل فيها لتتناسب مع الأذواق عينها. لذا، أصبح الفن هو أحد تعابير "التفاعل" الحاصل بين الفنان، من جهة، وبيئته التي تقدّم له "طروحات المعنى المختلفة"، من جهةٍ أخرى. كما أن هذا الخروج أدّى إلى تغييرات في آلية اشتغال الفن، فيتشابه بذلك مع اشتغال الدعاية من ناحية الاتّكال على موضوعهما. انطلاقًا من هذا التغيير، أصبحت نجومية الفنان تمثّل "ماركة ضامنة للعمل الفني"، بعد أن كان الفن يستند إلى "الإبداع البصري" أو "الإبداع اللغوي" في ما مضى، ما معناه أن العمل الفني الحالي أصبح "باردًا" و"جافًّا" وغائبًا عمّا هو "راهن"، ومبتعدًا عن الإحساس، ومنقطعًا عنه، ليميل بذلك إلى ما هو "ذهني"، وإلى ما هو "مصنوع"، وإلى "المرجع" أو موضوعه. لذا، جعلت هذه الثورة المتلقّي متنبأً للمستقبل، ومتخيّله بصورة مسبوقة، لكنه يبدو متفاجأ به، وكأنه "يراه للمرة الأولى". كما جعلت الفنان يتوجّه إلى الجمهور، بدلاً من التوجّه إلى الحكّام، فيقترح الأعمال الفنية. من هنا، يصبح التشابه واضحًا بين العمل الفنّي والعمل السياسي، من ناحية التوجّه إلى الجمهور، والتوقّع، والاعتماد على لغتَين، جمعية وفردية معاً. وبعد تبيان العلاقة بين السياسة والفن، أين دور التحررّ السياسي للجمهور؟
المواطنة العربية والتحرّر
لقد أسهم الرومان في اكتشاف "أجهزة توسطية بين الإنسان والسياسة" من أجل حفظ حرية الجمهور في العيش الكريم، والسعادة، والاختيار، باعتبار أنهم "مواطنون" و"أصحاب سيادة"، على الرغم من تعاقدهم بشكلٍ إرادي مع الحاكم، وتوكيلهم حريتهم إليه، إلاّ أنهم يبقون أحرارًا. فالمواطنة هي نِتاج عملية تاريخية ولّدت بدورها تفككًا للبنى التقليدية، أو "علامة خروج" على المجتمع التقليدي، و"علامة بناء" أجهزة توسطية بين الشعب والسياسة، لتتخطّى الوعي نحو "التذرر الاجتماعي والاقتصادي". بناءً على المواطنة الرومانية، يحاول داغر تعريف المواطنة عند العرب، فيجدها تختلط مع مفاهيم عدّة، كـ"الإنسان، والفرد، والعضو في الجماعة"؛ ولذا يغيب مفهوم المواطنة عن العرب. فأين يتشابه الحِراك العربي، باعتباره خروجًا على جسد السلطان وتحررًا منه، مع القول الشعري؟
يرى داغر أن الحِراك العربي هو خروج الشبان والشابات "من عتمة التواصل الحاسوبي"، وهي صورة متطوّرة عن المنشور السياسي فوق الحائط، وعن "أحاديث المقاهي"، من دون أن تؤدّي هذه السلوكات في "الجدران الإلكترونية" إلى حِراك سياسي. وهذا ليظهر هؤلاء الشبان والشابات إلى العلن، وقد توحَّدوا في الأحاسيس والمشاعر من أجل بلوغ ما هو سياسي. علمًا أن هناك تشابهًا بين "الخروج إلى الشارع" والقول الشعري حين يتوجّه كلٌ من السلوكين إلى الآخر في ظلّ الغموض الذي يسود الملاقاة بين المتظاهرين، والذي يجعل الكلام غير مفهوم لحين ملاقاة المتلقّي "في منتهى المعنى".
ختامًا، لقد بحث داغر في الحرية وعلاقتها بالفن من خلال نصوص عديدة، إلاّ أننا أردنا اختيار هذين النصين، نظرًا إلى ما يحمله الأول من تعيين لمصطلحات أساس تتعلّق مباشرةً بالموضوع؛ وإلى أهمية النص الثاني خصوصًا أنه يعاصر "الثورات" العربية، والحِراك السياسي من أجل التحرّر من الاستبداد. وقد توصّل إلى مدى حريّة الفنان العربي في اختيار موضوعاته، سيما أن الحدود تتغيّر من جيل إلى جيل، وقد شهدت انتقالات أربعة سبق أن تكلمنا عليها؛ اما في قضية تحرّر الجمهور سياسيًّا من جسد السلطان، كما تحرّر الفن من قبضة الإقطاعيين، فقد حلّل داغر فشل هذه الحِراكات، كما فشلت "الثورات الإبداعية" في الفن حين اتصّفت بالصيغة الاستهلاكية. لذا، نرى أن هناك رؤية متشائمة عند داغر في قضيتَي الحرية والفن، وكما قال فوكو إن موت الله أدى إلى موت الإنسان. ألا نستطيع أن نقول الشيء عينه هنا: موت الفن وثورته الإبداعية أدى إلى موت الحرية؟
(مجلة "يتفكرون"، المغرب، العدد 14، السنة 2020).