الشعر يقع في لهيب العنف الداخلي، وتفكك المؤسسات في صورة مزيدة، فضلا عن تغيرات أكيدة في الذائقة الأدبية العربية، وفي خيارات القراءة والتذوق.
الأربعاء 2020/03/04
الإقبال على الشعر يتراجع للغاية
على الرغم من صعوبة متابعة حركة نشر الشعر في الأردن، وسوريا، والعراق، وفلسطين، ولبنان، وهي دول شعرية في المقام الأول، فإن الناقد الدكتور شربل داغر استطاع في بحثه أو تقريره المنشور في تقرير حالة الشعر العربي الصادر عن أكاديمية الشعر العربي بجامعة الطائف السعودية 2019 أن يضع يديه على الكثير من حركية هذا النشر في البلدان الخمس خلال عام 2018 حيث ينصرف التقرير بخاصة إلى التعرف إلى النشر الشعري في البلدان المعنية، بين دور نشر حكومية وخاصة، وبين دور وطنية وأخرى شاملة، وبين ورقية وإلكترونية ورقمية، بالإضافة إلى أصناف التأليف وأنواعه.
لقد عاد كاتب التقرير إلى مصادر عدة لإنجاز مهمته وبحثه، وخرج بنتيجة مهمة، وهي تراجع مؤسسات الدولة في الدول الخمسة المعنية عما هو من واجباتها، ما يشير إلى أن الشعر يقع في لهيب العنف الداخلي، وتفكك المؤسسات في صورة مزيدة، فضلا عن تغيرات أكيدة في الذائقة الأدبية العربية، وفي خيارات القراءة والتذوق.
ويوضح شربل داغر أن هذا التقرير لا يستهدف إحصاء استقصائيا لمجموعات الشعر، وكتب النقدي الشعري في البلدان الخمسة، وإنما يستهدف – بعد الاطلاع على مجموع كبير من الإصدارات – استخراج واستبيان وجهات معينة أكيدة في المدونة، من دون استبعاد إمكان خلو هذا التقرير من بعضها.
ويبدأ البحث في حالة القصيدة العربية على الوسيط المادي الجديد وهو الحاسوب، حيث بات جزء من نشر الشعر العربي متوافرا، ليس في كتب الشعراء ومنشورات الدور، وإنما في مواقع وصفحات إلكترونية يتكفل بها الشعراء أنفسهم أو من يعاونونهم في هذا الغرض، وبعضهم بات النشر اليومي بالنسبة لهم مستساغا، بل أحيانا ينشرون أكثر من قصيدة في اليوم الواحد، فبات من الصعب تتبع ما ينشرونه، وبدا تتبع المسار بين كتابة القصيدة وبين نشرها مختلا، ولم يعد بالمسار المعتاد أو المألوف، ما دام أن الشاعر لا يلحظ "اللحظوية" الإلكترونية، ولكنه على أية حال نشر حادث، قوي، يتعدى بكثير ما كان يحدث مع ظهور الطباعة عربيا.
حال النقد الشعري يتراجع بقوة، وقد يكون العمل على إنشاء جائزة خاصة بنقد الشعر محفزا كبيرا في هذا المجال، وقد تحقق هذا المطلب مؤخرا بإنشاء "جائزة الشارقة لنقد الشعر العربي"
ويذكر داغر مواقع عدة باسم شعراء أو لمواقع عامة مثل موقع "كيكا" أو "بانيبال" أو "ضفة ثالثة" ولكنه لم يذكر اسم موقع "جهة الشعر" لقاسم حداد.
وإلى جانب المواقع الشعرية، هناك الكتاب الرقمي، وقد ذكر الباحث بعض المحاولات العربية في هذا المجال سواء لشعراء من الدول الخمسة المعنية، أو غيرها.
ثم ينتقل إلى الكتاب الورقي وجهات إنتاجه مثل الهيئة السورية للكتاب التي أصدرت 26 مجموعة شعرية خلال 2018 على حين تراجعت دور نشر خاصة مثل دار "الآداب" في بيروت التي اكتفت بنشر مجموعة شعرية وحيدة للشاعر اللبناني شوقي بزيع عام 2017، ومجموعة يتيمة للشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين عام 2018، وبسؤال مديرة الدار عن أسباب ذلك، أجابت أن الإقبال على الشعر تراجع للغاية. والتراجع نفسه يُلاحظ على إصدارات المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ودار المدى، ودار الجمل، ورياض الريس التي نشرت اثني عشر كتابا شعريا خلال الأعوام 2015 – 2019. ويدافع الشاعر خالد سليمان الناصري مدير منشورات المتوسط عن فكرة مفادها أن دور النشر لا تبذل مجهودا كافيا في إيصال الشعر إلى جمهور القراء.
غير أنه في جميع الأحوال لا يزيد عدد النسخ المطبوعة من المجموعات الشعرية والدواوين أكثر من خمسمائة نسخة، بعد أن كانت ألفين في سنوات سابقة، بالإضافة إلى ملاحظة قيام الشعراء بطبع أعمالهم الشعرية بأنفسهم على نفقتهم الخاصة، في غياب أي دعم مادي لنشر الكتاب الشعري، مثلما يحصل في بلدان أوروبية مختلفة لدعم صدور الكتاب الشعري بشكل لائق للشاعر ومناسب له.
أما عن الأصناف التأليفية فيعترف كاتب التقرير أنه لا يستطيع أن يحصي وأن يستقصي جميع إصدارات الشعر في البلدان الخمسة المعنية في 2018 إلا أنه يقوى على استبيان أصنافها وأنواعها بالمعنى التأليفي والنشري تحديدا، غير أنه ينبه على إصدارات الشعر المكتوب بغير العربية الفصحى (مثل العاميات)، وهو شعر لا ينتبه إليه الدرس والفحص، وعلى وجود نشر شعري بالسريانية في العراق، (وهناك اتحاد الأدباء السريان في أربيل) ووصلت قصيدة النثر إلى هذا الشعر، وفي المقابل هناك "ابتعاث" للشعر العمودي في العراق حيث يجد هناك حياة ثانية. وفي لبنان يوجد مزيد من التجارب الشابة ينصرف إلى نوع كتابي هو أقرب إلى النثر الشعري منه إلى قصيدة النثر، وهي تجارب قريبة من التراسل الوجداني بالنثر المشوب بعاطفية هي أقرب إلى الرومانسية.
ويؤكد شربل داغر أن مشهد الشعر العراقي يختلف بين خارجه وداخله، ففي بلاد المنافي العديدة، لا ينقطع شعراء قصيدة النثر عن منازعهم السابقة، فيما تنامى الشعر العمودي داخل العراق، ما يرسم مشهدا على شيء من التباين.
ويرى كاتب التقرير أن الشعر ما عاد يقتصر على القصيدة والمجموعة الشعرية وديوان الشاعر فحسب، وإنما بات يشتمل على: مجموعة شعرية، مختارات، أعمال كاملة، مجموعة أو مختارات مترجمة من العربية إلى لغات أجنبية، مجموعة أو أعمال كاملة مترجمة من لغات أجنبية إلى العربية، كما تمكن من التحقق من وجود نوع كتابي آخر قريب من الشاعر، من سيرته تحديدا؛ وهو المذكرات أو السير الذاتية للشعراء. لقد اتسعت "أنواع" الشعر وتعددت القصيدة و"الديوان" الجامع.
حال النشر الشعري ينمو في بلدان ويتراجع في غيرها
ويعرض الباحث للإصدارات الجديدة في الأردن وفلسطين خلال 2018 مشيرا إلى التداخل في هويات الشعراء بين فلسطينيين وأردنيين. ويلاحظ التنامي في النشر الشعري في الأردن. كما يعرض للإصدارات الجديدة في سوريا والعراق ولبنان، منوها إلى تغيرات قوية في مشهد النشر الشعري في لبنان حيث إن دورا معروفة في نشر الشعر تكاد تختفي، أو تراجع نشرها مثل "دار الآداب".
وعن الشعر العربي المترجم إلى لغات أجنبية قال إننا لا نعرف سوى شاعرين عربيين يحظيان بنسبة ترجمة عالية إلى لغات أجنبية: محمود درويش، وبنسبة أقل أدونيس، ومع ذلك لا يمكن القول إن هذين الشاعرين أو غيرهما يحتلان بكتبهما الشعرية المختلفة حيزا أكيدا في الشعر المترجم إلى لغات العالم، ومع ذلك يلاحظ كاتب التقرير أن نسب ترجمة الشعر تتزايد بصورة مطردة.
ويتوقف عند الشعر الأجنبي المترجم إلى العربية، ويرى أن ترجمة الشعر الأجنبي إلى العربية تعاظمت بقوة أكبر، وقد اتسع هذا الناتج من خلال مشروعات مثل مشروع "كلمة" في أبوظبي، ولم تعد الترجمة تقتصر على الشعر الفرنسي والإنجليزي وحدهما، بل على الشعر الأميركي والإسباني والإيطالي والياباني واليوناني والفارسي والهندي والزنجي – الإفريقي وغيرها. ويذكر داغر على سبيل المثال ترجمة شعر "الهايكو" الياباني الذي يحصد متابعة وتأثرا كبيرين لدى شعراء عرب كثيرين، وأصدر الشاعر العراقي هاشم شفيق "أنطولوجيا شعر الهايكو الياباني، كما صدر كتاب "مئة قصيدة من الشعر الصيني" عن دار المدى.
ويبين كاتب التقرير العلاقة بين القصيدة والسرد، ويذهب إلى مقروئية الشعر موضحا أن المتابع لا يقوى على تتبع هذا الأمر، إلا أنه يلاحظ أن الشعر بات ينتعش في حلقات ضيقة حيوية في أحيان كثيرة، مع انحسار "المهرجانات" الشعرية الكبيرة العامة للشعر العربي، كما لا يفوته الحديث عن مجلات الشعر التي لا تزال نشطة في العراق، مع إشارة إلى مجلة "الحركة الشعرية" التي يصدرها الشاعر اللبناني قيصر عفيف منذ عام 1992 ولا تزال مستمرة، وأصدرت - حتى تاريخ تحرير التقرير – خمسين عددا.
وعن نقد الشعر يجد كاتب التقرير صعوبة في استبيان المشهد النقدي الموازي للشعر والشعراء في 2018 في البلدان الخمسة، وهو يلاحظ أن نقد الشعر لا يتابع بالضرورة النشر الشعري ما يثير مشكلة في حد ذاتها، كما يمكن التحقق من أن الإعلام الورقي والسمعي والمرئي لا يتابع بصورة موازية أو وافية، حراك النقد الشعري. وإن كان يلاحظ وجود حركة نشطة في النقد الأردني والفلسطيني، مع ملاحظة أن وفرة نشر الشعر في سوريا لا توازيها أو تواكبها وفرة في كتب النقد، وأن نقد الشعر في العراق لا يبدو بالغزارة التي كان عليها سابقا، والحال نفسه مع نقد الشعر لدى اللبنانيين.
ويعلق الباحث بأن هذا التراجع يثير أسئلة متعددة، ما يعني انصراف النقاد بصورة مزيدة عن تناول القصيدة بالدرس، وما يعني انصراف دور النشر عن طبع الأعمال النقدية.
ويختم د. شربل داغر تقريره عن دول العراق والشام بأن حال النشر الشعري ينمو في بلدان، وفي دور نشر، فيما يتراجع في غيرها، لهذا يدعو إلى قيام "مرصد لأحوال الشعر" يتابع منشوراته، ورقيا، وإلكترونيا، ورقميا، وفي كتبه ومجلاته، بحيث يقوى دارس الشعر على متابعته وفحصه ودرسه، بما يناسبه. وأخيرا يخلص إلى أن حال النقد الشعري يتراجع بقوة، وقد يكون العمل على إنشاء جائزة خاصة بنقد الشعر محفزا كبيرا في هذا المجال، وقد تحقق هذا المطلب مؤخرا بإنشاء "جائزة الشارقة لنقد الشعر العربي".