مع ليندا العثمان: أكتب إذ أرى
شاعر قبض على جمر الغواية، توهج في جدلية النص ورسم عوالم أبجديته كتابات متنوعة على حاشية الوجود. شربل داغر صاحب "فتات البياض" و"تخت شرقي" و"رشم" وصولاً إلى "حاطب ليل" و"شغف" و"غيري بصفة كوني" ما زال يحمل شغف الكتابة، يصر على البحث، عطشه لا يرويه أي نبع، ينتقل من حال إلى حال، وفي كل الأحوال يبقى الشاعر المتوهج المدهش الجميل الناقد المختلف الباحث عن المختلف في اختلاف الأحوال. شربل داغر ولاداته مغايرة وأزمنة شعره مولدة لأزمنة الحضور والتفرد. فشعره يشتمل على نقد ضمني لشعر آخر. شعره "بصاص"، لماح، يعلن الحياة على الحياة، يقول:
"خطواتي /في /نقراتي/
إلى أن ينجلي/ حجري/ رازحاً ومشعاً/
في أفق مبهم.
حاسوبي /مجازي المحول/ حقيق على زهرة/
يبست في دفتر من غبار/ فتندى راحة يدي/
في غفلتها عن كوني/ أتكلم/ بثقة الغائب/
عما يعود وإن ينساه/
عما يمتحنه بلهة الراغب في ملكه/
في هواء محموم".
* صدر لك كتاب في مجلدين بعنوان: "الفن والشرق: الملكية والمعنى في التداول"، عن "المركز الثقافي العربي"، ما مكانة هذا الكتاب؟ وكيف يندرج في سلسلة كتبك السابقة عن الفن؟
- كان لهذا الكتاب أن يصدر قبل كتبي السابقة كلها، إذ أنني عقدت العزم على البحث في هذا النطاق التأليفي منذ سنوات بعيدة، بل منذ انتقالي الأولي في تاريخ الفن وفلسفة الفن. فلقد تنبهت، من خلال دراساتي الأدبية، ولا سيما في "عصر النهضة"، من حقيقة الولادة الثانية التي أصابت الثقافة العربية، بل الحياة العربية، منذ هذا العهد. فلقد جرت في هذا العهد عملية تاريخية واسعة تمت بموجبها إعادة جدولة هذه الثقافة وإعادة كتابتها، فما عاد يقوى العربي على درس ثقافته أو فنه من دون درس ثقافة الاستشراق لهذه الثقافة ولهذا الفن.
تنبهت منذ سنوات بعيدة، إذاً، إلى لزوم مثل هذه القراءة المزدوجة لثقافتنا وفنوننا. هذا ما قمت به أخيراً بفضل رعاية الشيخة حصة الصباح، مديرة "دار الأثار الإسلامية"، التي اهتمت بهذا المشروع الطموح، الذي اقتضى مني العودة بعد التنقيب، إلى مئات الكتب والدراسات الفنية الأولى عن الفنون الشرقية والعربية والإسلامية (وفق تسمياتهم)، والتي ترقى في بعضها إلى القرون الوسطى تحديداً وإلى الفرنسية القديمة.
* صدرت لك في الشهر عينه مجموعة شعرية جديدة بعنوان "إعراباً لشكل" ويبدو أن الصلة بين الصورة التشكيلية والتعبير اللغوي مستمرة في هذه المجموعة ومنذ عنوانها؟
- نعم، على الرغم من أن للصلة هذه مسارات متعرجة للغاية، فلا يستقيم بناء القصيدة عندي من دون صورة. وهو موقف فلسفي، إذا جاز القول، قبل أن يكون فنياً. فأنا إذ أنظر إلى الشعر العربي، في قديمه وجديده، أخالني أمام خطاب يتناسل عبر التناسخ، عبر التعويل على سوابق ومعايير هي أبعد ما تكون عن المعاينة، عن المتابعة، عن التحقق من ما يجري. لهذا أقول في إحدى قصائد المجموعة: "أكتب إذ أرى".
وأتجنب في ذلك الرؤيا، مثل ما جعلها بعض شعراء العرب الحديثين أساساً للقصيدة: ليست لي رؤيا، ولا منظور، ولا دعوة أتوجه بها إلى غيري مثل من يقف فوق منبر ليدلي بالحقيقة على العيون الشاخصة إليه. فلا يستقيم المعنى في شعري من دون صلة بغيري، بما أمتحنه وأتحقق منه. لهذا أتخذ مفهوم "التجربة"، بمعانيها كلها، بعداً مؤسساً في تعبيري الشعري.
إلا إن للصورة حضوراً أوسع في المجموعة الجديدة، إذ تدور حولها، كموضوع، محاور عدد من القصائد، ولا سيما القصيدة المطولة، "نميمة إلكترونية"، التي تتردد دلالاتها في مناخات 11 سبتمبر المستمر في عالم اليوم.
* منذ "فتات البياض" مروراً ب"تخت شرقي" و"رشم" وصولاً إلى "حاطب ليل" و"شغف" وصدور مختاراتك الشعرية "غيري بصفة كوني" عن "دار شرقيات للنشر والتوزيع" في القاهرة، هل استطعت أن تروي عطش الشعر في داخلك؟
- هذا العطش لا يرويه أي نبع. وإذا روته مختارات أو مجموعات شعرية جديدة، فلكي تجدده وتستدعيه من جديد أشبه بسباق البدل في الرياضة، على إن الشاعر هو نفسه الذي ينتقل من حال إلى آخر، من سباق إلى آخر. هذا يعود إلى أن النزوع إلى الشعر، بل إلى القصيدة، يتعدى الاحتياج إليها ويتعدى تحقيقها نفسه. فالقصيدة هي الغامض فينا، هي ما يحركنا ويقلقنا ويبقى دفيناً أو ينبثق في نفور مفاجئ من دون أن نتعرف إليه في صورة مؤكدة. والقصيدة هي ما يسبقنا واقعاً إن أحسنا إصغاء إلى أنفسنا، إلى أصواتنا، وإن كنا نجد أنفسنا فيه بعد حصوله، بعد وقت. ذلك أننا، على ما أرى، نتبنى ما يبلغنا في القصيدة، ونوقعه بأسمائنا من دون أن يكون عائداً إلينا حصراً بالضرورة.
* دائماً ما ترافق الكتابة حالات من المعانات والمكابرة لولادة نص جدير بالعناية، بالنسبة لك كيف تتم ولادة النص الشعري؟
- تتم في صور شديدة الاختلاف، بين توقع واستعداد ومباغتة، وبعد عمليات صعبة أو فجائية وغيرها. والشاعر في ذلك مثل أي صانع آخر وإن اختلفت الطرق والمسارات بينهما. ذلك أن الكتابات القديمة والحالية كذلك، تحفل بنصوص وأوصاف وأخبار تصور الشاعر في خلوة ملكية، على أنها مسرح للألم كذلك.
المعاناة أو المكابدة التي نتحدث عنها معاناة أو مكابدة كتابية ليس إلا، وإن كان الشاعر فيها يتحقق من صعوبة إبلاغ، ومن قلة حيل الكلمات أحياناً في قول المرغوب أو المطلوب منها. هي قريبة من معاناة التشكيلي حين يعيد ويستعيد ما يصوره، أو حين يشطب اللوحة تماماً ويتحقق من أنها لم تفضي إلى شيئ قابل للاحتفاظ به.
إلا أن للنص الشعري ولادات مختلفة لا واحدة. فهي ولادة هينة أحياناً، تكاد تجري من دون أي عناء، أشبه بتدوين منزل على بياض الورقة. وهو ما حدث لي إذ وضعت قصائد قصيرة طبعاً مثل تدوين لها من دون أن أقصدها أو أتوجه إليها صراحة: هي قصيدة تولدت في غمار كلمات، في غمار البحث كما في الرمل عن الوديعة.
* كيف قبضت على جمر الغواية، على جمر الشعر خاصة في النص الذي اعتبرته الأول في مسيرتك الشعرية؟
- لنقل إنني وجدت في الشعر هواية فتنتني بعد العاشرة من عمري، إذ دعوت ذات يوم أحد أصدقائي إلى سماع ما كتبت، بعينين مندهشتين مما فعلت. والغريب في الأمر أنني لم أكتب بعد ذلك ما يذكر من القصائد إذ كتبت تأملات وغيرها من معين النثر. كانت علاقتي بالشعر متقطعة، إذا جاز القول، في عهد المراهقة، إذ كتبتها في قصائد متفرقة وفي لحظات حارة ومتسرعة في آن. لم أنظر إلى الشعر نظرة فيها مقادير من الطلب الإلحاحي والمستمر عليه إلا في سنتي الجامعية الأولى، حيث تتالت القصائد، وتنوعت بين عامودية ونثرية، وفي قضايا ومناخات مختلفة. وإذا بي أنتهي قبل أسابيع قليلة على نهاية عامي الجامعي الأول إلى كتابة قصيدة ما زلت أذكر عنوانها فقط "وأينعت أزهارنا على القحط"، وأرسلتها بالبريد إلى الشاعر أنسي الحاج رئيس تحرير "الملحق" الأدبي لجريدة "النهار"، الذي كان قبلة أنظار الأدباء الحديثين في بيروت وغيرها طامعاً في نشرها في بريد القراء. وإذا به ينشرها إلى جانب نصوص الأدباء المكرسين، مما جعلني أحترف من حيث لا أدري. بل بلغ الأمر بالشاعر الحاج بعد شهور أخرى في سنتي الجامعية الثانية، إلى القول في افتتاحيته: "كلمات... كلمات... كلمات"، رداً على أدونيس، صاحب مجلة "مواقف"، الذي نشر قصيدة لي هو الذي نشر لداغر للمرة الأولى.
* حضور الجسد في "رشم"، هل هو تعبير عن فعل إيروسي له دلالته الرمزية، أم هو محاولة لوصف الجسد بصفته بيتاً اجتماعياً تجري عليه ممنوعات بعد أن استدخلها فيه؟
- هو هذا وذاك في آن، في أشكال من التداخل والتلابس والتمايز بينهما. ففي "رشم" تتداخل العلاقة بين الأنا والآخر، بين الذكر والأنثى، بين قارتين، بين ضفتين واقعتين في بلد مشقوق ومتصل: "كما لو أن الأرض نصفان / يتلصصان / هذا على ذاك / في اشتباه الحدود / وقلق الرغبات". وهي أكثر من علاقة إذ تتغير الأحوال بين طرفين تغيرات تتيح الانتقال كما في رحلة، أو تتيح التداخل كما في حفل تنكري، أو تتيح التغيير كما بعد انكشاف الذات لنفسها في لحظات الحب.
فالجسد العربي، كما قلت وأقول، بيت اجتماعي، تقليدي بالضرورة في عاداته وسلوكاته، في ما يسمح به ويمتنع عنه. وهذا لا يصيب عادات أو سلوكات الجسد في الشارع أو مكان العمل في البيت، وإنما بين الزوج وزوجته، بين الثنائي أياً يكون حتى وإن كان طرفاه وحيدين، من دون رقابة في غرفة مغلقة. ذلك أن الجسد يستبقي معه، عند بعضهم، سلوكات المجتمع نفسها فيصبح رقيباً من دون تكليف بالضرورة.
هذا يعطل الجسد ويفقده لذاذته المتاحة والممكنة ويجعله السجن والسجان في آن. وهذا لا يصيب حياة الجسد في أحواله الداخلية والحميمة وحسب، وإنما يصيبه أيضاً في حياته العامة، إذا جاز القول.
* يقول الدكتور مصطفى الكيلاني عن مجموعة "فتاة البياض" أنها تحمل شبقية خاصة، هي شبقية الشعر الحديث الذي يفتض بالقلم صمت الورقة، ويغامر في الانتصار للفراغ على إيجاد المخاتل. إلى أي مدى تفق أو تختلف معه في ذلك؟
- ما يقوله الدكتور الكيلاني ذهاب بعيد في فهم الشعر الحديث، بما فيه شعري. وهو الذهاب لالتقاط الاندفاعة الوجودية، الموقعية، التي يبادر بها الشاعر صفحة بيضاء، صفحة الشعر، أي الذهاب بقوة كبيرة، وبرغبة عارمة، فتتحرر اليد الكاتبة من ثقيل عاداتها وسلوكاتها، وتقبل على الشعر إقبال الحبيب على الحبيبة من دون عوائق او قوابح مهتدياً بدفق شهوته وحسب.
* ما علاقة القصيدة بالزمن؟ وهل وجدت في علاقة القصيدة بالزمن بالعيش التاريخي؟
- طبعاً وهي علاقة طلبتها بما هي حاضنة لما أقوله. فالعيش والتاريخ يعبرنا مثلما يحملنا في ما نقوله ونعبر عنه. هو النهر والمجرى الذي نسبح فيه، إذ لا تقع القصيدة خارجه، ولا تنطلق من خارجه أيضاً. هناك خفة في القول وجهل في معرفة الشعر عند شعراء ونقاد يخالون أنفسهم خارجين عن النهر عينه، كما لو أنهم يبتدعون ما لا يقع بين خطواتهم، وفوق طاولاتهم، وكما لو أنهم قادرون على اجتراح معنى من عدم. فملكات الشاعر في الشعر ملكات تاريخية في صورة لازمة، عدا أن سياق استقبالها وتأويلها لا يمكن أن يكون إلا تاريخياً. لهذا فإن علاقة الشعر بالزمن لازمة، مولدة للقصيدة ولأشكال قبولها، وبين زمن وآخر. وهي علاقة باتت أشد وأقوى مما كانت عليه في الزمن الماضي، في الشعر التقليدي القديم. بل أجد في علاقة الشعر بالزمن العلاقة المحددة لحداثة الشعر نفسها. فالشعر القديم قلما اعتنى بالجاري، بالحادث، إلا في تجارب قليلة، كما عند ابن الرومي وأبي نواس، وانصرف إلى متن وجداني في الغالب، يكاد يستقي الشعر من موروث الشعر، لا من الحياة نفسها، ومن تقاليد الكتابة واتفاقاتها وقواعدها في القول والغرض والنوع وغيرها، لا من معايشات الوجود ومكابداتها ومأمولاتها.
* كيف تصف العلاقة بين اللفظ واللون في "رشم" مع الفنان البحريني جمال عبد الرحيم، أو في "شغف" مع الفنان المصري الدكتور محمد أبو النجا؟
- العلاقة متغيرة في التجربتين، إذ أنها مع عبد الرحيم طلبت نوعاً من التناظر بين القصيدة والمحفورة الفنية، قام على تأويل النص الشعري تأويلاً تشكيلياً، فيما سعت تجربة أبو النجا إلى علاقة أكثر عضوية بين الشعر والتشكيل. فعند عبد الرحيم تقوم المحفورة في جانب والمقاطع الشعرية في جانب ملازم لها، فيما أنتج أبو النجا كتباً فنية، تمازج فيها الشعر بمواد التصوير تمازجاً قلما نجده في التجارب الشعرية – التشكيلية المماثلة، حتى أنني شاركته، بناء لطلبه، في الكتابة فوق حوامله الفنية.
* ألم تستنزف الصورة الكلمة، أو العكس، بصفة أن كلتيهما فن متفرد بذاته؟
- هذه الأعمال الإبداعية تنتسب إلى فن التصوير والمحفورة، وليست أعمالاً تشكيلية – شعرية، إن دخل الشعر أي بضعة سطور أو النص تماماً في نسيجها المادي والشكلي واللوني. هي أعمال تعود إلى عبد الرحيم وأبو النجا، مثلما يعود غيرها إلى الفنانة اللبنانية إيتيل عدنان التي أنتجت دفترين فنيين، واحد بعنوان "فتات البياض" وآخر بعنوان "رشم" أيضاً.
بهذا المعنى لا يمكن القول بأن هذا العنصر طغى على ذاك أو استنزفه، بدليل أن ثلاثة فنانين، عبد الرحيم وعدنان ومال الله، أنتجوا أعمالاً فنية انطلاقاً من القصيدة نفسها، "رشم". وهو ما يظهر في الأعمال الفنية نفسها حيث أنها شديدة الاختلاف والتمايز فيما بينها، عدا أن كل عمل منها يحيل بدوره على تجربة الفنان نفسها ويذكر بها.
العلاقة بين الشعر والتصوير شديدة التعقيد: فيها تعالق أكيد، وفيها تحريض على ممارسة التصوير بعد حدوث هزة انفعالية وجمالية عند قراءة قصيدة ما. وهذا ما يحدث للشاعر أيضاً، إذ تدفعه رؤية لوحة إلى كتابة قصيدة.
* هل يعلو دائماً صوت الناقد داخلك على صوت الشاعر؟
- يعلو من دون شك، ولكن بعد كتابة القصيدة، لا خلال كتابتها. صوت الناقد يعلو إذ يعمل على التشطيب والحدف والتعديل وغيرها من العمليات التنصيصية. وهو أمر لا نجده عند جميع الشعراء، إذ أن بعضهم يكشف في ممارسته للقصيدة عن قلة معرفة ببناء القصيدة: قد يكون هذا الشاعر صاحب موهبة كبيرة إلا أنه لا يحسن قيادة الكلام في صورة سوية. ويزيد من تفاقم هذه الحالة احتكام المجموعة الشعرية في حالتها الطباعية النهائية إلى الشاعر نفسه. كم أقرأ مجموعات شعرية لا يحسن فيها الشاعر، على سبيل المثال، استعمال أدوات التنقيط، فضلاً عن أن دور النشر العربية لا تمتلك في عداد العاملين كتاباً يعملون، كما في دور النشر الكبرى في الغرب، على إعادة تصحيح النص، واقتراح تعديلات على الكاتب بالتالي.
* قمت بالكثير من الترجمات، وترجمت أشعارك إلى الكثير من اللغات: في رأيك هل تنال الترجمة من النص الأصلي وتعمل على تفكيك بنيته الأصلية؟
- الترجمة تقع حكماً بين النقل والتأليف، مهما علت أمانة المترجم في عمله. ذلك أن اللغات لا تتطابق أبداً، ويستحيل إيجاد معادلات تامة بين لغتين. بل يزيد من حدة المشكلة كون العمليات هذه تشمل الشعر، لا الرواية أو المسرحية وغيرها. فالشعر يبقى الاشتغال العالي في اللغة وبها، إذ يقترب من الدلالات فيحيد بها عن جاريها، ويقترب من التراكيب النحوية فيبتعد في أحيان كثيرة عن المستعمل والمتفق عليه في الأساليب الكتابية. فكيف لترجمة أن تستقبل ما يربك ويقلق العبارات والمعاني في ركونها، في استعمالاتها المعجمية؟!
للترجمة طبعاً أن تكون شديد الأمانة، إلا أنها ليست ممكنة إلا بما تتيحه أيضاً ملكات المترجم نفسه في الترجمة، وفي معرفة اللغتين. لهذا تقع على قصائد جميلة من دون أن تكون أمينة تماماً، وعلى ترجمات متعددة للقصيدة الواحدة، وعلى قصائد أمينة من دون أن تكون جميلة. بات من اللازم – على ما أقول وأدافع – أن نقر بأن للترجمة مقاماً تأليفياً خاصاً بها، وبأنها ليست طيفاً أو شبحاً هارباً أو متدهوراً من نص على أنه الأصل.
* صدرت لك في السنة المنصرمة، في القاهرة، مختارات شعرية بعنوان: "غيري بصفة كوني" عن "دار شرقيات للنشر والتوزيع"، فماذا أضافت هذه المختارات على تجربتك؟
- هذه المختارات عزيزة على قلبي، والداعي إليها التواصل مع الشاعر والقارئ المصريين، خاصة وأن مجموعات الشعر قد لا تبلغ القارئ المصري إن لم تطبع في مصر. إلا أن إصدار المختارات في هذا التوقيت علامة خاصة، وهي المشاركة في لحظة حيوية في الشعر المصري قلما عرفتها بهذا الاتساع والتعدد في تجاربها الشعرية المختلفة. فالشعراء المصريون يتعاظمون عدداً، وتتوالى عمليات الإصدار في صورة مذهلة، بما فيها المجلات المعنية بالشعر وغيره، وتتنوع التجارب الشعرية نفسها وتتخالف، فضلاً عن الصراعات الحادة، حول الشعر وفيه، قلما نجدها بهذه الحدة العالية في أي بلد عربي آخر، بما فيها لبنان نفسه. إصدار المختارات هي طريقتي في المشاركة في هذه اللحظة الحيوية لمصر وغيرها بالتالي.
* في رأيك أللقصيدة أن ترتبط بحدث ما؟ وما مدى ارتباط قصيدتك بالحدث؟
- لكل طريقته في مقاربة الحدث، ولكل حريته في عدم مقاربته كذلك. امتنعت في شعري عن مقاربة الحدث، إلا أن شعري يضج بالوقائع والحدوثات والمجريات، من دون أن تحيل على وقائع وأحداث ومجريات بعينها. فالزمن هو الذي يجري في قصيدتي، لا هذه الحادثة المعروفة بعينها.
* كيف ترى بعين الناقد والشاعر معاً المشهد النقدي العربي في ظل اجتهادات نالت من مكانة النقد ورصانته؟
- لا يسلم النقد العربي حالياً من ظواهر الشللية وتبادل المنافع الأخوانية بين شعراء ونقاد وغيرها من العلاقات البعيدة عن الشعر والنقد في آن: فهذا شاعر يهدي قصيدته إلى ناقد، بعد أن كتب عنه هذا الأخير مقالة إيجابية في شعره، وغيرها من الفواتير المستحقة والمسددة. هذا ما يحدث كثيراً في الصحف والدوريات، خاصة وأن شعراء يمسكون في الغالب بمقدرات الصفحات الثقافية في غالب المطبوعات العربية اليومية والشهرية وغيرها.
هذه الظواهر تتفاقم مع تراجع التيارات والموجات الحزبية والإيديولوجية والجمالية وغيرها في البيئات العربية، بحيث أخليت الساحة لعلاقات نفعية قصيرة ومتقلبة في الغالب، نلقاها في انقلابات دراماتيكية بين شعراء ونقاد ممن كانوا شديد الاتصال فيما بينهم.
(جريدة "السياسة"، الكويت، 28 تشرين الثاني-نوفمبر 2004).