مع زياد العناني :
أمقت الكلام عن قصيدة الحدث لأنّها تتهاوى في العالم المتكاثر
على غرار شعراء كثر يقف الشاعر اللبناني شربل داغر ليصرخ في المجاملين وأصحاب كذبة الأهمية بقوله: لا تنسبوا الإبداع إلى الأفعال الجليلة لأنّ ما يخفي أو لا نتنبّه إليه هو أنّ المبدع يتسلّى فيما هو يعمل، ويلهو فيما هو يكدّ، ويعبث بالموجودات فيما هو يفكّر فيها. ومع هذا الرأي الحاذق ينسّق داغر ما طرح بصورة مغايرة عن الالتزام وألعاب التمثيل التي يمارسها بعض الشعراء لإثبات جدّيتهم والتلطّي أو التخفّي تحت عناوين مستبعدة ومتخاصمة. ويرى صاحب مجموعة "فتات البياض" أنّ أدوات الشاعر باتت في عهدته، وهو يذهب بها مذاهب شتّى، حتى أنّه قد يناقضها في القصيدة نفسها. ذلك أنّ الإبداع نوع من اللعب الأكيد الذي يضعنا أمام احتمالات مفاجئة مسلّية ولاهية وغير مكلفة.
وصدر له، إضافةً إلى "فتات البياض"، أربع مجموعات شعرية: "تخت شرقي"، "رشم"، "حاطب ليل" و"إعراباً لشكل"، (...) وغيرها من الكتب.
حول تجربته الإبداعية ورؤاه النقدية كان لـ"الغدّ" معه هذا الحوار.
* يسعى الشعراء دائماً إلى تقديم اقتراح جديد مع كلّ مجموعة شعرية جديدة، ما هو اقتراحك الجمالي الجديد في مجموعة "إعراباً لشكل"؟ وبماذا تختلف عن المجموعات السابقة؟
- في المجموعة الجديدة قصيدتان طويلتان، ومجموعة كبيرة من القصائد القصيرة، الملتقية حول عنوان إجمالي واحد. وهي في اجتماعها المركّب هذا حاصل كتابة شعرية لا تستغرق منّي وقتاً طويلاً في اندفاعاتها الأولى وإنّما في معالجاتها التنقيحية اللاحقة. إلاّ أنّها مجموعة تشدّني من طرفين متباعدين: واحد يمسك بيدي ويقودني إلى "الشارع"، إلى شارع الطفولة في بيروت، والثاني يشدّني إلى وهج النار الممتدّ في شريط "نميمة الكترونية"، وهي نميمة العولمة التي تنقضّ علينا بينما نواجهها بحيلة البائس المستبدّ. هاتان القصيدتان الطويلتان تمضيان بعيداً في السرد، وفي اختبار طاقات النثر على أن يكون شعراً. والمجموعة في ذلك سعي إلى بلورة قصيدة هي أشبه بالبيت: لها باب أساسي وأبواب داخلية ونوافذ وممرّات وفضاءات مجلوة ومعتمة تتناهى إلى الناظر بمجرّد الدخول إلى هذا المناخ.
هي قصيدة تقترب من الحدث لأول مرّة في شعري، إذ تعالج عواقب أو اعترافات ما بعد 11 سبتمبر، وتتبيّن الموت في الصورة. وهي قصيدة تلقي نظرة إلى الحنين الذي يستبدّ بمكان النشأة والتكوين، نظرة الفرح الذي يلاقي أشياءه القديمة مثل متخصّص في الآثار، وهي نظرة تأمّل فيما لم تكن عليه النشأة. وهي بهذا المعنى قصيدة لا تكتب السيرة بل عنها، متقاطعة في ذلك مع قصائد سابقة في مجموعة "حاطب ليل" تحديداً. أمّا مجموعة القصائد القصيرة فهي متفرّقة في مساراتها، وفي ما تنطلق منه وتؤول إليه، إلاّ أنّها تتحرّى عن السري والغامض والمحيي في القصيدة، إذ تتولّج بموضوعاتها فتبدو منقادة إليها أكثر ممّا تشكّلها واقعاً.
* ألا ترى أنّك قد غيّرت رأيك السابق الذي طالب بابتعاد القصيدة عن الحدث؟
- لا أريد أن أطلق أحكاماً في الشعر العربي الحديث. لذلك إنّ الجواب في هذا الأمر يحتاج إلى قراءة متوسّعة ومتأنية، كما يحتاج إلى إزالة صور سوء الفهم الثاوي في خطابنا النقدي. قد يكون الشاعر أدونيس، في نصّ شهير لتعريف الشعر الحديث في العام 1975، هو أول من دعا في صورة جلية بين شعرائنا إلى القطيعة مع الحدث، متكلماً حينها عن الشعر بوصفه "رؤيا". وهو قول في الحداثة يخالف في صورة أساسية ما قال به معرِّف الحداثة الأول في العالم، بودلير، حين ربط الحداثة بالعابر، بالزمني، بل الموضة حتى. فيما يحمل الحديث عن "الرؤيا" (عند أدونيس)، في تضاعيفه، مرتجيات ومشتهيات في القول تأخذ من النسب الديني بعضاً من حصانته ودعواه، ومن النسب الإيديولوجي السياسي بعضاً من شرعيته وتطلّعه إلى التمكّن من القارئ. والحديث عن "الرؤيا" - إن أردت التبسيط - لا يختلف عمّا يقوله "النصّ" (القرآني) بمعنى ما، أيّ أنّ الشاعر له "كلمة"، وله "رسالة"، وهو بقدرته على التسمية يجعل للغة سلطة تتعدّاها بل تسعى بها إلى غيرها إلى التمكّن من القارئ، جاعلة منه منضوياً لا محاوراً، ولا شريكاً فيما تقوله القصيدة من كلام ومن رسائل.
أمقت الكلام عن قصيدة الحدث، ذلك أنّ ما نسمّيه بالحدث يتهاوى تحديداً اليوم في هذا العالم الإعلامي المترامي والمتكاثر، إذ باتت الصحيفة مثل التلفزيون، مثل قنوات الاتصال الالكترونية، تحتاج لنشاطيتها. ما يعنيني من الشعر هو العلاقة مع الزمن، وهي علاقة تفترض المعايشة والمتابعة والاحتكاك والمعالجة ومعاودة النظر فيما تؤول إليه. علاقة تتوسّل الوصف والإخبار والمعاينة والتقاط الصور المقرّبة والانتباه إلى الصور المؤطرة سلفاً، والوقوف خصوصاً عند علاقات البشر بالأمكنة التي يعيشون فيها، وبالأدوات التي يستعملونها، وبالهواء الذي يعبر فيهم وهم ساكنون... هذه العلاقة بالزمن هي أصغر ما يمكن أن يبلغه الشعر. أمّا الحديث عن الحدث بوصفه مناسبة أو توظيفاً لمعاني مدبّرة سلفاً لا يعني كونه الوجه الآخر لخطاب حداثي له نبرة تدعي الإمساك بالمشهد الكلي وبالمعاني الخالدة. ففي نبرات ما يسمّونه "الحدث" هناك نوع من التعالي الذي قد يتحوّل إلى خطابية متكرّرة ومجوفة من عصب إنساني حار ومتجدّد.
* كشاعر وناقد، هل أنت مع الرأي القائل بموت الشعر في المستقبل أم أنّ هذا الرأي مجرّد تخرصات نقدية لا طائل من إطلاقها؟
- الشعر مثل غيره من الفنون حيّ، أي يعيش ويتغيّر، أي ينقضي بعض ماضيه وتنفتح له آفاق جديدة. وهذا ما يصيب غير الشعر قبله وانتقاماً من الشعر. فالشعر عاش لقرون، وفي غير حضارة، سيداً يعين وحده الجمال الإنساني. وهذا يصحّ في حضارتنا وعند الأوروبيين وغيرهم. هذه السيادة انتقصت، وخلد الشعر إلى مواضع أقلّ ادّعاء وأكثر سرية. فما خسره من مكانة اجتماعية في البلاط، أو في السوق، كسبه في تأثيث خلوة دافئة للإنسان المتميّز. لهذا قد تكون العلامة المميّزة لحداثة الشعر في العالم هي احتياجه إلى أدوات أخرى، وإلى طلب حوارية مختلفة مع القارئ. هذا ما أنزل الشعر والشاعر من عليائهما، ومن المواضعات والاتفاقات الجماعية والبلاغية والفنية، وأصبحت القصيدة الحديثة نصاً "مفردناً"، كما يحلو لي أن أقول: نصّ في عهدة الشاعر لا في عهدة عمود الشعر، وللشعراء الحديثين في ذلك فنون وفنون يتصرّفون بما يشاؤون، حتى أنّ بعضهم يسعى إلى الشعر من أبعد سبله، وهو النثر، ويعتمد على ما كان يتجنّبه الشعر العربي القديم، على سبيل المثال، مثل المعاينة البصرية الشديدة، والإخبار السردي المتتابع، فضلاً عن تعويل متفاقم على الصورة بمعانيها السينمائية، أي الحيوية المتحرّكة. أعرف أنّ هذه الحالة محيّرة للناقد قبل القارئ، بل يمكنني القول إنّها محيرة للشاعر قبل هؤلاء. ذلك أنّ أدوات الشعر باتت في عهدته، وهو يذهب بها مذاهب شتى حتى أنّه قد يناقضها في القصيدة نفسها. إلاّ أنّ الشعر، مثل غيره من التجارب الإنسانية، مثل الصوت الإنساني أساساً، كما في مقامات الارتجال، يجرب ويمرن ويتوصّل إلى تدبيرات في المعالجة الشعرية تروق له ويقرّ بها. والناظر اليوم إلى أحوال القصائد العربية المتأخرة يلاحظ استقرارها أو تجمعها حول تدبيرات معينة في إخراج الصنيع الشعري إلى اللغة والقارئ. وهي تجارب غنية فيما سعت عليه وتبنّته، وإن كان بعض هذا الشعر تتكفّل به أحياناً التجريبية وحسب من دون بناء نقدي يجعل من التجريب إمكاناً لنسق. فبعض الشعر في بلادنا يفتقر إلى معاودة النظر فيما انتهى إليه، وفيما يجب أن يكون عليه، عندما يمثّل للقارئ. فهناك ركاكة وإسفاف وتبذير وقول الشيء وعكسه في المكان عينه، وتجريب طريقة جديدة في التركيب من دون بلورتها ولا استغلالها الكافي. وبعض هذا الشعر يفتقر إلى التفكير في الصنع الشعري، وهذه سمة الشعراء الكبار إذ يتنبّهون دائماً إلى أنّ القصيدة هي مقترح جمالي بوصفه مقترحاً بنائياً في المقام الأول. فالشعر لا يعيّن بما يقوله بل بكيف يقوله، فحين يأتي معنى القصيدة مثل أحجار تأتي في مواضعها بصورة هينة، فهذا يعني أنّ الشاعر يرصف وقد يكون بناءً تقليدياً في أحسن الأحوال.
* في مجموعتك السابقة شغلت بالمرأة. الآن وبعد هذه التجربة الطويلة كيف تنظر إلى المرأة وهل ما تزال أثيرة حديثك الشعري؟
- دائماً كانت المرأة حديثاً شعرياً، كما هي امتحان لإنسانية شعرنا: أي إن أراد أن يكون فعلاً إنساني النبرة فعلى المرأة أن تكون أحد موضوعاته الأثيرة. أمّا في شعرنا فالقصيدة تبدو أحياناً مثل تسجيل ملحق، أو دعوة مسبقة، في علاقة حبية أو جنسية، أو هي موضوع أشبه بالممدوح في قصائد المدح القديمة: نتكلّم عنها بما يفيد مكانة الشعر، لا ما يجمعه بها. وقد يكون من الطريف والمفيد نقدياً أن نستخرج من الشعر عن المرأة صفات المرأة في نوع من المقارنة مع صفات الممدوح في الشعر القديم. فمثل هذه المقارنة قد تؤدّي بنا إلى الانتباه بأنّ علاقة القائل بموضوع القول واحدة ونفعية في آن. فالشاعر يتحدّث عن الحبيبة على أنّ حديثه عنها يتحوّل إليه... ونزار قباني خير مثال على ذلك. في شعري يتكشّف البعد الإنساني لعلاقتي مع المرأة، وتتهاوى المسبقات التقليدية من أيّ نوع كانت.
وأنا أرى أنّ نطاق الحبّ هو أكثر النطاقات المغيبة فعلاً عن الشعر، على الرغم من كثرة قصائد الحبّ المحتوية على تعبيرية عاطفية متكرّرة، والتي تجمل الحبيبة بقدر ما تجمل الشاعر، ولا تجعل من الحبّ تخلياً عن النفس والجسد و"انوجاداً" في الآخر، وانتفاء فيه بهدف الوصول إلى عودة مختلفة منه، والذهاب إليه من جديد بعزيمة أمضى وعواطف مشعّة. فالحبّ هو أصعب الشراكات الإنسانية وأجملها، وهو الإنسانية الممكنة في عهدة البشر.
* كأنّك تنظر إلى المرأة نظرة تصوفية أو طوبائية، ألا ترى أنّ هذا التصوّر شبه حلمي، ومنفصل حتى عن شبه الواقع؟
- هذا الكلام فكري فيما هو حسّي في أساسه. فلو تعود إلى كلامي السابق لوجدت فيه وصفاً حسياً للعملية الجنسية. وهو ما يعنيني، سواء في الرغبة نفسها، أو في الكتابة عن الرغبة، حيث أنّهما متشابكتان. وما أقوله في الفكر عشته في الحسّ، أي في العيش الحرّ خارج الأنماط والأعراف، أي في الدخول في تجارب تنبني في الحركة نفسها، لا في الاعتيادات المسبقة. وهذا يحتاج إلى تأهيل لأنفسنا وأجسادنا في الرغبة، مثل الفارق الذي يحقّقه الراقص التعبيري - إن شئت المقارنة - عبر خبرته بجسده، وبقدراته التعبيرية، وما يحققه الإنسان العادي الذي يتصرّف مع جسده مثل آلة لا مثل جسم حيّ. ففي الحبّ تشكيل راقص، وفي الحبّ التذاذ يجعل ما يحيط بالحبيبين فضاءً حيوياً مشعّاً.
* قصيدة النثر حديث مشاغبٍ، معارك تدور، إقصاء وتكفير، كيف تنظر الآن إلى هذه القصيدة؟
- يعنيني، بداية، أن أصحّح خطأ لغوياً ونقدياً شائعاً، كنت من جملة مرتكبيه. فقد بتّ أمتنع عن تسمية هذه القصيدة بقصيدة النثر، كما في الكلام الساري، بعد أن تنبّهت إلى أنّ هذا اللفظ التركيبي مستقى من الفرنسية أساساً، ومن دون أن يوافق ما يقوله الكلام الفرنسي في هذا الشعر. فلو شئت ترجمة دقيقة له، أقول هو: القصيدة نثراً أو القصيدة بالنثر. وهو اختلاف يتعدّى الترجمة والنقل، ليبلغ المضمون نفسه. ففي القول الفرنسي تشديد على أنّ ما يقوم به الشاعر هو بناء القصيدة ولا يعني الذهاب إلى النثر لبناء قصيدته، إلى حيث للقصيدة أن تكون، أن تنبني. ولو تتبّعنا المشهد الشعري حالياً، لتبيّنا أنّ التجارب، التي تنضوي تحت هذا النوع، تحتوي الكثير من هذه المعضلات والمشاكل. إلاّ أنّها، في مجموعها، وقبل تقييم هذه التجربة أو تلك أو الحملات الصحفية التي تشبه حفلات الهجاء السياسي، لا تغيب الحاصل الإجمالي التالي: القصيدة نثراً تستغلّ وتوفّر، حالياً، بتجاربها وموضوعاتها وأشكالها وبالمقترحات الفنية والجمالية التي تعرضها، الفضاء الحيوي الأرحب في الشعر العربي.
وما يعنيني قوله أيضاً، في صورة إجمالية، هو أنّ القصيدة نثراً هي التي عنت أكثر من غيرها، في التجربة الشعرية العربية، الفردية في التعبير. ففي هذه القصيدة نقع على فردانية مبرمة في التعبير. فهي قصيدة لا تقال في تظاهرة، ولا في حاكم، ولا في المدح، بل في تجارب حميمة وخصوصية في المقام الأول. وأعتقد أيضاً أنّ للقصيدة نثراً تاريخاً، في تجريبنا، وفي توليدها لأشكال مبتكرة في البناء والتركيب وصيغ في التأليف، لم يستفد منها الشعر فقط، وإنّما النثر أيضاً.
هذا لا يعفيني من ملاحظة أنّ بعض القصائد تكاد تكون من الهذر الكلامي فقط، ومن الاستعمالية اللغوية التي تفتقر إلى أيّ تجديد. ذلك أنّ بعض تجارب القصائد نثراًَ تنسى أو لا تعرف تماماً أنّ الشعر يبقى، بين الممارسات اللغوية المختلفة، الممارسة الأعلى اشتغالاً وتطلباً من اللغة، أيّ استعمالها بغرض تجديدها، أيّ الانطلاق من معان ومن تراكيب والوصول بها إلى غيرها. الشعر هو إزاحة المعنى عن جاريه، وهو تبلور شكل أثناء الكتابة، لا وفق صورة مسبقة للبناء. هذا البناء الحرّ والمفتوح قد يتحوّل عند بعضهم إلى استعمال للغة في أفقر استعمالاتها ومدلولاتها، وإلى تكرار نمطية في البناء جافة ومعهودة.
(جريدة "الغد، عّمان، 7 كاتون الثاني-يناير 2005).