مع سوسن اليحيا: الترجمة حياة ثانية لقصائدي

 

صدر للشاعر والباحث اللبناني شربل داغر كتاب شعري بعنوان: "عتمات متربصة"، باللغتين العربية والفرنسية، عن "دار لارماتان" في باريس، أعده وترجمه الدكتور نعوم أبي راشد، واشتمل على قصائد من مجموعات الشاعر المختلفة: "فتات البياض"، "رشم"، "تخت شرقي"، "حاطب ليل" وغيرها. ولقد قدمت دار النشر الشاعر بقولها: "ناقلٌ، بل مُهرِّبٌ سري، بين العلامات والثقافات. شاعر الغيرية، والعابر بصنادل ممزقة فوق دروب لها من الأحجار كتب، وهي كتب عن الذات كما عن الآخر. قصيدة متجذرة في ما يُعاش، ولها من الحاسوب مجاز محمول. قصيدة حاملة لرغبة في إزاحة الحدود، وبلبلة اللغات. صوت الشاعر تراجيدي وحميم في آن، يعبر عن صعوبة أن يكون، أن يعيش حراً في وضعية تقليدية، نزاعية، وأن يكون ذاتاً متكلمة".
(...)
* ها أنت في باريس من جديد، ولكن مع كتاب لم تكتبه فيها، بل تعود القصائد المترجمة في غالبها إلي ما كتبته في بيروت. كيف ذلك؟
- ها أنت ترين أن الحياة ليست مبنية وفق تدبير. فيها رواج ومجيء لا ندري فيه ما إذا كنا نذهب أو نعود، أو نتمشى ليس إلا. «أنا مشاء، ليس إلا»: قال رامبو، وأستعيد قوله من جديد، بل أضيف عليه أنني قد أتبين مسالك في القصيدة تحددني أكثر مما تحددني الإقامة هنا أو هناك. هكذا تؤرخني القصيدة أكثر من السجلات والجوازات وتأشيرات السفر...
من القرية التي أتحدر منها لا أرى البحر. له وجهة فقط. الجبل أفقي، وهو ما يحدني واقعاً، إذ أن ما وراء الجبل يسحرني عند الغروب، وأعلم عندها أن الشمس انتقلت إلى غيري...
هكذا أطل على الخارج. فضاء يسبقنا ويبقى بعدنا. فضاء لنا ولغيرنا. إطار لوحة نرسم فوقها ما نشاء. وهو نافذتنا على العالم أحياناً. لكل شُباكه، أو شرفته، من دون أن نلتقي في غالب الأحيان. لنا وحسب عيون ريبة وخشية واشتهاء للقريب. ننظر إلى بعضنا البعض شزراً. ما أن ندرج فوق رصيف يدرج الآخر فوق رصيف مقابل. في هذه العداوة ما يثير، ما يحرض أحياناً، وفيها من الغباوة أيضاً. جميل أن يكون للزيتون أكثر عصير، وللعنب أكثر لون...
* وماذا تقول في الترجمة، وأنت مترجم شعر كذلك؟
- استسغت ترجمة أبي راشد لقصائدي، وهو مترجم قدير ومشهود له بالكفاءة، في ترجماته المختلفة، أو في دراساته النظرية في الترجمة وعنها. ترجمته حياة ثانية لقصائدي، تتجدد أمام ناظري مكتفية بما هي عليه. هذا ما أشعر به بعد انتهائي من كتابة قصيدة، فكيف لا يكون الشعور ذاته، بل أكثر، مع قصيدتي المترجمة!
* انتقدتَ في غير كلام لك اعتماد بعض الشعر الحديث على اللغة التالفة: لو توضح موقفك في صورة أوفى.
- اللغة التالفة تالفة ولا تصنع شعراً مميزاً لكونها تالفة. أما القول بأن هناك شعراً أجنبياً، أميركياً بالخصوص، قد عوَّل على اللغة التالفة، بل اليومية، فهو قول خاطىء لا يدرك حقيقة هذه التجارب. فقد تكون لغة الشعر مستقاة من سجلات الكلام الاعتيادي إلا أنها مبنية، ويشيع الشعر في جوانبها، في عوالمها الغريبة والدافئة. ذلك أن بعض شعرائنا خلصوا إلى هذه الطريقة، وطبَّعوها، جعلوها محلية، وحولوها بما جعلها نمطاً استعمالياً بل مفتقراً إلى الشعر.
أتفهم بالطبع مساعي شعراء عرب في الاقتراب من عوالم مهمشة وكائنات ومفردات مرذولة، مبعدة عن القصيدة، كما لو أنها غير جديرة بها... هذا ما فعله شعراء قدامى مثل امرىء القيس وأبي نواس وابن الرومي، وغيرهم أيضاً، إذ كتبوا غير ما يقال في البلاط، أو أمام بركة الخليفة، أو في حضرته. بل قالوا ما يجمع الشاعر بأصحابه، في حانة، حول وليمة، بينه مستعماً وبين صوت مغنية، وبينه وبين عابر في شارع، وبينه وبين فراشه مريضاً...
أتفهم هذه المساعي الجديدة، ولا سيما عند شعراء شباب، لأنها تخاصم بعض الشعر الحديث الذي أنتج فصاحة جديدة في الشعر، واستكان إليها. إلا ان تجديد الشعر لا يقوم فقط على الوقوف على ضفة أخرى، أو على انتهاج سبل مضادة. هذا لا يكفي إن لم تصحبه رغبة في التأليف المحض، لا في الاستعمال المستسهِل لعملية الشعر.
فما تنساه مثل هذه القصائد هو أن كتابة الشعر اشتغالٌ عالٍ باللغة وفيها. وهو اشتغال يتيح تكثير الدلالة، ويجدد ويغير الاستعمالات الجارية للغة.
المهم هو كيف تكتب، وليس ماذا تكتب. بدليل أنني لا أتنكب، في عدد من قصائدي، عن إدراج مفردات شديدة العامية أو خصوصية الاستعمال، مثل: «المبعوج» و«يبعط» و«السنكسار» وغيرها الكثير.
يبقى أن أميز، أخيراً، بين بعض هؤلاء الشعراء وبين هذه الطريقة الشعرية، إذ أنهم شعراء، لهم موهبة أكيدة، وتشيع في قصائدهم مناخات شعرية أخاذة...
* تعتبر من رواد قصيدة النثر، ولك فيها - على ما يقول غير ناقد - طريقتك الخاصة. كيف ذلك؟
- قد يكون لغيري إجابة شافية وأنسب في قصيدتي مما لي أن أقول فيها. أسعى على أية حال إلى أن أكون مخلصاً بل متفانياً لما أعمل عليه في الشعر. إلا أن الجواب الشافي يتعين في تحديد، بل في تسمية هذه القصيدة، وهي عندي: القصيدة بالنثر، والقصيدة نثراً، خلافاً لما هو مستعمل في العربية. وفي ذلك أكون أميناً للتسمية الفرنسية التي تأتت منها التسمية العربية (poème en prose )، كما أكون أميناً لما تحمله التسمية من حمولات تطلب من الشعر أن يتعامل مع مواد النثر على أنها مواد الشعر. هكذا يتم تغليب مفهوم »الشعرية« على غيره، كما يتم إخضاع عوامل بناء القصيدة لهذا المقتضى.
فالقصيدة بالنثر تعني العمل في خلاء اللغة، في مشاعها، وفي نطاقات استعمالها وتراكيبها المختلفة، بخلاف الشعر النظمي الذي يعمل في نطاق محدود ومحدد من اللغة العربية على أنه الجدير بالشعر وحده. ما يميز القصيدة بالنثر عن غيرها هو أن الشاعر قوام عليها أكثر من أقرانه الشعراء الآخرين، بما يمحضه القدرة المتعاظمة على التحكم والتفنن والتجريب بها. كما لم تعد هذه القصيدة في خدمة غيرها، أميراً ومرجعية، وفي إعادة تأسيس رمزي لها، وإنما باتت تخدم نفسها، كيانها.
* ماذا يعني هذا الكلام في بناء هذه القصيدة؟
- تصعب علي مثل هذه الإجابة، لأنها تطلب تبسيطاً لما هو قيد العمل بنائياً في هذه القصيدة في صور مبتكرة ومتغيرة في أحوال كثيرة، ولما يقع في التأرجح كذلك بين ابتناء القاعدة وبين تعطيلها.
سعت سوزان برنار، على ما معروف، إلى استخراج سمات بنائية لهذه القصيدة ابتداء من قصائد فرنسية معروفة، إلا أن تجربتها لم تعرف النجاح المطلوب بدليل أنها لم تُعتمد إلا من باب الاستعراض التحليلي، لا من باب التعويل النقدي عليها. ومع ذلك كانت محاولتها جادة، فما العائق في ذلك؟ ان كل سمة بنائية عند برنار صالحة وغير صالحة في آن، في هذه القصائد مجتمعة أو في هذه القصيدة وحدها. وهو ما سبق أن تنبهت له في وجه من أوجه بناء هذه القصيدة، في كتابي «الشعرية العربية الحديثة»، وهو البناء الإيقاعي، إذ تحققت من أن لهذه القصيدة طرقاً إيقاعية، تنتظم وتنقطع في آن، تتواتر وتتعطل في القصيدة عينها... لهذه الملاحظة قيمة كبيرة، إذ يمكن معاينتها في غير وجه من وجوه بناء هذه القصيدة: ما يصلح سمة معتمدة في هذه القصيدة قد لا يصلح في قصيدة ثانية للشاعر عينه... وهو ما جعلني أميل في قول متأخر إلى تسمية هذه القصيدة بالنص المفردن، أي الذي يعتمد على مقادير تحكم بنائية وجمالية عالية من الشاعر، وخلافاً لأية قاعدة، بما فيها القاعدة التي يفترعها شاعر بعينه وفي القصيدة عينها.
* تحفل قصيدتك بأدوات التنقيط، وهو ما يخالف الطرق الكتابية لدى شعراء عديدين، كيف تبرر اللجوء إلى ذلك، وأنت الدارس لدور هذه الأدوات في كتابك: «الشعرية العربية الحديثة»؟
- هذه الأدوات باتت جزءاً من عدة الكتابة العربية منذ مطالع القرن العشرين، وخصوصاً من عدتها المظهرية. إلا أن لها دوراً أبلغ، وهو تمييز القصيدة في مفاصلها المختلفة، أي أن لها دوراً تعبيرياً بالتالي. وهو ما أعول عليه في القصيدة. فهي أدوات أتصرف بها في تنظيم المعنى وإظهاره، بما تتيحه من إبراز لتدرجات وانتقالات وانقطاعات وغيرها. وهو ما أعانني كثيراً في مطولاتي الشعرية.
يعتقد البعض بأن التخلي عن أدوات التنقيط يفيد في محض القصيدة حداثتها، والمقصود بذلك هو زحزحة وتشويش احتمالات التركيب فيها، وهو خيار في الشعر. إلا أن هناك خيارات أخرى تتيح مثل هذه الاحتمالات المتداخلة، ولكن في تركيب الجملة، وليس في شكل ظهورها وحسب. والعائد إلى شعر رامبو وغيره من رواد الحداثة الشعرية يتحقق من استعمالاتهم المتكررة لأدوات التنقيط، وفقاً لحسابات شعرية وجمالية بينة.
* ماذا عن علاقة الشعر بالقراءة، وأنت تتحدث عن وضعية جديدة باتت تطلبها القصيدة الحديثة، وهي انصرافها إلى القارىء في جلسته الانفرادية، لا في حفل عام.
- بات الشعر يكتب لكي يقرأ في صورة أساسية، وإذ أضعه أكتبه، فلا أتلوه على مسامعي. وهو ما أتحقق منه أكثر، عملياً، إذ أضطر أحياناً إلى تلاوة بعضه في لقاء، في أمسية. وهو ما أعايشه أيضاً تلاوةً في الأمسية، فلا أتبين ما إذا كان لي أن أتوقف - دائماً - في نهاية السطور، وهو ليس منتهاها في أحيان عديدة أم أن علي ملاحقة الجملة حيث لها أن تتوقف؟ ومع ذلك أجد في القراءة ما يخرجني من فعل الكتابة-القراءة نفسه، ما يضع الألفاظ في سريانها، في سويات عصبية، نبرية، قبل أن تكون تركيبية، لفظية. فأجدني ملتبساً في ما كنت أختفي فيه وأعرفه، وفي ما كان مخفياً فيَّ من دون أن أعرفه قبل أن بنبثق فجائياً في تدافعات كلام سبقتني بل استقبلتني في القصيدة، حيث أنها ما يأتي إلي فيما أنا فيه. أهذا ما منعني من إلقاء بعض قصائدي إذ أتأكد تماماً من أنها »تفضحني« فيما يتعداني ويشملني في صورة مبرمة، لا عودة منها؟
* تتحدث في غير قول عن «التذاذ» و«لذاذة» في النص، حتى أنك تقول: «لذة الكتابة فيه». ما تعني بذلك؟
- النص هو الرغبة في القيام بعمل، بما يرضي الإنسان في الكاتب، والكاتب في الإنسان. بما يرضي، بما يجعل الالتذاذ بالعمل ممكناً وحاصلاً.
انتشاء جارٍ، وقبل البلوغ، على أن فعل الانتشاء يتعين في الجريان، وهو قيد العمل، لا في بلوغ جهة بعينها، ولا في وصول.
الإقبال على ارتياد مناطق مبهمة، على إزاحة حدود، بوصفها ما يجلب اللذة، ما يحرضها: الالتذاذ، لا لذة بعينها.
هو التحسس، المراودة، واللعب إجمالاً. هو ما يجعل التوتر ممكناً، وما يحيط الجسد بنورانية شهوانية: فما أن يسعى إلى الإمساك بشيء، يتوقعه أو يشعر به قبل إمساكه، في المدى المشع و«المكهرب»، الواقع بالتالي بين اليد والشيء.
أأقول: الكتابة عملية جنسية، أم أقول إن الجنس عملية كتابية، مجازية ومادية في آن؟
* أتتحدث عن الحبيبة أم عن القصيدة؟
- إقبال شهي عليها، سواء هذه أو تلك، قصيدة أم حبيبة، بما يتعدى مشيئتي، في انصرافي البعيد، أياً كانت أداتي، على أنني أتحقق مما قلت في «رشم»، أي من «فجاءة الألفة».
* تكتب القصيدة الطويلة، لكنها تختلف عن غيرها: كيف تحدد هذه الفوارق؟
- انساقت غير قصيدة في شعري إلى القصيدة الطويلة، من دون أن تقترب من غيرها. ذلك أن هذه تتعين بطول نَفس الشاعر، إذا جاز القول. وهو في ذلك أشبه بالملهم، بالقائد، الذي له أن يقول في موضوعات مختلفة، في وقفات يتيح لنفسه فيها أن يكون نرجسي العبارة، أو نبوياً. وهما وجهان لقول واحد. أما في بعض شعري فقد انسقت إلي المطولة لاعتبارات واقعة في السرد أساساً، في بناء الموضوع، في تنقلاته ووقفاته. قصيدة سردية، إذن، من دون أن تخلو أحياناً من غنائية خافتة لا تمليها حاجة شعراء-منشدين إلى الإنشاد، إلى أن يتصدر صوتهم جوق الشعر - أياً كان هذا الشعر - وإنما تمليها تقلبات الكلام الشعري في تغيرات نبراته ومقاماته.
- تتجنب قصيدةً نرجسية النبرة، إذا فهمت جيداً؟
- لا أسعى، ولا أكون في القصيدة ذاتاً متواضعة، مثلما يحلو للبعض القول، وإنما أقيم في الحوار، في التفاعل، في ما يقيمني في علاقة لازمة مع غيري. هكذا لا أصدح بالشعر، وإنما أُسر به لغيري، معه، مع الكائن أو الكائنات التي تقيم في حيز القصيدة مثل وجوه في لوحة، أو أطراف جمل في حوار... فالقصيدة هي في هذا التوق، في ما يتبعه ويثيره من مراوحة ومداورة ومباغتة، أي في هذه الحركات المتناهية في تشابهها وتخالفها، في هذه الحركة التي «تستقيم في تكرارها»، و«تنتشي تباعاً»، كما قلت في «رشم».
* يشتمل شعرك على شواغل فلسفية بينة، بين الذات والآخر، بين الأنا والجماعة، بين الصوت والكتابة، وفي ذلك تبدو غريباً في المشهد الشعري العربي. أليس كذلك؟
- لماذا الخشية من علاقات لازمة بالضرورة، أياً كان الشعر، بين الشعر والفكر؟ ذلك أن الفكر نسغ ينمي الشعر ولا يفقره أبداً، طالما أنه يتحسس المنطقة الرخوة، الغامضة، بين الحس والتأمل، بين المعتم والشهي. وما أخشاه في كلام بعضهم هو هذا التوكل على فتنة اللغة بنفسها، التي لا تعدو كونها افتتاناً نرجسياً بقدرة الشاعر على اجتراح القول الشعري، الذي هو رجع بعيد لنبوية ما. وهو في تعابير مدرسية شعرية انصراف شديد وعال إلى رومانسية الشعر والشاعر...
ولا تعدو الخشية من الفكر في الشعر أن تكون إعادة إنتاج جديدة لفصاحة ما، لـ«إعجاز» ما هو مبتغى الكتابة منذ التحدي القرآني.
* لا تنفي، إذن، علاقة الفكر بالشعر. ولكن كيف تراها؟ كيف هي في شعرك؟
- للناقد كما للقارىء أن يميز بين امتثال القصيدة، بين تجنيدها لفكر دعاوي وتبشيري- وهو ما عرفناه في الشعر العربي، حتى الحديث منه - وبين اشتمالها اللازم على الفكر.
والفكر، عندي، ليس في ما يسبق الكتابة، ويوجه الشاعر، بل في ما يمثل كتابياً، في ما كُتب ويخضع لغير قراءة بالضرورة. وهو في العلاقة التي ينشؤها الفكر مع ما يقول، أي في شكل القول على أنه دال على وجهة القول، أي ما يشدد عليه، إن شدد، ويخفف منه، وما يَقنع به ويجعله محل احتفاء وتقدير.
* سؤال أخير: بما تجيب إن لم أسأل السؤال الأخير؟
- إذ تسأليني أجيب طبعاً، ولكنني أتساءل بدوري لكي أجيب، لكي أتبصر وأتحقق مما يمكن أن يكون عليه جوابي: ليس هذا من باب الحذر، وإنما من باب معرفة ما يسبقني ويتعداني على أنه مني

(مجلة "نزوى"، مسقط، العدد 47، 2006).