مع حافظ محفوظ: القصيدة تجربة تتعين في جريانها
* كان شعرك منطلقاً لتجربة مسرحية في تونس مؤخراً. كيف تنظر إلى هذه التجربة؟
- إنها تجربة مثيرة، ما كنت أتخيل وقعها الانفعالي علي، عندما وافقت على عرض الشاعر والمسرحي التونسي سالم اللبان للقيام بهذا العمل مع مجموعته المسرحية "الجسر الصغير"، بمبادرة من "جمعية الثقافة والفنون المتوسطية". تحكمت بي ليلة العرض في المنستير مشاعر متناقضة، إذ ترى للكلمات عصباً ووجوهاً وحركات تسري أمام ناظريك، أنت وغيرك، فيما قد يعبث في هذه الكلمات الهواء السري لتجربة حميمية.
وهذه التجربة بدت مغايرة عما كنت عايشته مع فنانين عرب عديدين اتخذوا من قصائد لي أسباباً للتشكيل. أمام اللوحة تبقى متفرجاً بمعنى ما، أما في العمل المسرحي فالمتفرج الذي هو أنا يتجول فوق الخشبة وينصرف عني بقوامه المخصوص.
التجربة حيوية، فهي تعرض مستويات القصيدة كلها لامتحانات، لتجريبات ممكنة. فعدة المسرح أقوى بما لا يقاس من عدة التشكيل، ولا سيما عندما تنتعل الكلمة خفين خفيفين لحركتها.
* هل عمد المسرحي إلى سيرة مسرحية في ما فعل؟
- عاد اللبان إلى قصائد مبنية في بعضها على قدر من السرد السيري، مثل "حاطب ليل" تحديداً، أو إلى قصيدة "كانت" وغيرها. غير أنه سعى إلى تمثل حوارية بينه وبيني تنبني وفق علاقة مع البحر، بين المنستير وبيروت، بما تحمله هذه الأمكنة من تواريخ قديمة (مع الفينيقيين) وحالية ومتجددة. هذا ما جعل الخشبة المسرحية في هيئة سفينة تستقبل وتودع في آن، مثلما يشير إلى ذلك عنوان العرض: "عتبات للرحيل... وللوصول أيضاً".
* يحتاج تذكر البدايات جرأة عالية. ففيما نعدد خصالها نروم التخلص من شوائب فيها. لو عدنا ثلاثين سنة إلى الوراء ورأيناك تخطط لهذا الحاضر. هل سنعرفك من كلماتك أم من خارجها؟
- بقدر ما هو جميل هذا السؤال هو مربك، إذ يستدعي أو يستثير فينا محنة المراجعة، بقدر ما فيها من خسارات وخيبات ومن خطوات قليلة ثبتت في مواضعها. فالماشي تحدو به نوازع وتدافعات غير التي تمعن فيه إذ يجلس على حافة الطريق...
لا أحسن جواباً عن هذا السؤال، لأن فيه ما يحض على المحاسبة أكثر من تعداد ثمار القطاف في سلالها، وأنا الذي تحدثت، إثر رامبو، عن "حذاء جريح". لا أحسن تذكر البدايات لأنها ما كادت أن تنطلق حتى توقفت، بفعل الحرب بل الحروب في لبنان. وهي بدايات لها طعم الخديعة، بل الأكذوبة الدامية. وهو ما لا يعكسه التاريخ العلني لقصائدي: فنشر مجموعتي الشعرية الأولى، "فتات البياض"، في العام 1981، اشتمل على ما كان قد نشر في مجلة "مواقف" (ابتداء من العام 1971)، وعلى ما كتبت قبل الحرب خصوصاً، فضلاً عن قصيدة طويلة وقصائد قصيرة متفرقة تلت إقامتي في باريس (ابتداء من العام 1976). ما أريد أن أشير إليه هو أنني انقطعت عن الشعر قبل نشر مجموعتي الأولى. وكان نشرها – بتدبير من الصديق الشاعر محمود درويش – إعلاناً مضللاً عن استمراري، بل عن بدايتي الاحترافية. هذا ما يكشفه واقعاً توقفي اللاحق عن النشر، فيما عدت إليه بعد سنوات بصمت وخفر ومن دون نشر.
كان لي أن أتخلى عن الشعر مثلما تخليت عن جلود عديدة، واهية، ما حمت جسدي من عبء الجريمة التي بلبلت لساني، بما أعياني عن أي قول. فلقد تحققت حينها من أن "الحداثة"، التي أعلنت ضجيجنا لا صوتنا، لم تكن سوى جلد خفيف ردني إلى جسدي الصامت، إلى تاريخه الفعلي بوصفه تاريخ الذات الكامنة. وجدت أنني، مثل شعراء زملاء في الجامعة أو في شارع الظهور العلني، نتحدث عن "الحداثة" بلغة "تعليمية"، لا عيشية، إذا جاز التشبيه. لغة فصيحة منتقاة، تكتبنا فيما نظن أنها صوت لنا. تنكرت، بداية، للشعر بوصفه شريكاً، وإن بأدوات أخرى، عن الفضيحة الدامية. هكذا بدت أصابعي ملطخة ب"دم فاسد"، نقلاً عن رامبو، الذي رافقني في تلك الأيام التي هزت كياني في المنفى، وجعلتني في نوع من التربية مع النفس، أعود إلى المدرسة من جديد، إلى الإصغاء لنفسي، إلى تدبر أسباب علاقة مختلفة مع الذات، ومع الغير، ومع الشعر تالياً. وهو ما يشبه الولادة الثانية واقعاً...
لهذا يصعب علي، في متاهة مثل هذه، أن أتعرف على ما يدلني على نفسي، خاصة وأن لسان التذكر أبدل حكماً نكهة الأشياء بما لا قدرة لي على استعادته بأمانة - واهية في كل الأحوال.
* سبق ولاحظت أنك في نصوصك إنما تضع نفسك وسط تيارين: تيار أصوات وتيار صور، وعبور هذا وذاك خلالك يفتح على الذات المشرعة على قلقها. هل الصوت القائم أو العابر ضديد الصور المغلقة أم أنك تحرك الصوت والصورة بتشكيل خاص لضمان توازن ما؟
- لجأت من باب الوصف إلى مثل هذا التعيين الثنائي، من دون شك. فالشعر يطبق على كلماته مثل صدفة بحرية، لا نحسن معها وصفاً أو تفكيكاً أو تفنيداً تفصيلياً له. وإذا كان لي أن أجيب عن مسألتي الصوت والصورة في شعري، لقلت في الأولى بأنني أتحرى الصوت في ما أقول، لا المتكلم الضاج، إذا جاز مثل هذا التفريق. وأريد من هذا القول بأن شعراء وشعراء في بلادنا يميلون إلى إبراز المتكلم في القصيدة أكثر من الصوت نفسه الذي يشتمل عليه الكلام. وفي هذا تجنب للصراخ، وللغناء العالي، ولرفع القصيدة مثل يافطة تعلي من مكانة المتكلم الاجتماعية قبل الشعرية. بل سعيت في عدد من قصائدي إلى تمكين أصوات مختلفة من القصيدة، بل سعيت في تجربتين غريبتين في شعري، في مجموعتي الأخيرة "لا تبحث عن معنى لعله يلقاك"، إلى جعل النص الشعري أقرب إلى فضاء تكالم، بما لا يتيح تعييناً لأنا المتكلم في القصيدة. وهو ذهاب في التحري عن الصوت، بل عن الأصوات، خلف الهوية المتكلمة، وفي التحري عن القول في الجملة.
وهو ما أسعى إليه في أشكال أخرى، وهو السعي لأن يكون التكلم نفسه قولاً غير رفع الصوت العالي. وهو ما قاله جان-بيار فاي على الأرجح في حديثه عن "الخافت" في شعري؛ وهو ما عنته إيتيل عدنان ربما إذ تحدثت عن "المائل" في قولي الشعري. وإذا كان لي أن أشبه هذه المساعي بصورة لقلت بأن المتكلم لا يعلو قصيدتي - إذ يكتبها - مثل الخطيب على منبره: فهو قد يكون مبثوثاً في ثتايا القول وليس متكلماً صريحاً او جهاراً، وهو قد يتردد في أفعال التسمية فلا يصادر بقوله كل ما تقع عليه الجملة، وهو قد ينتبه إلى ما تقوله الأشياء في حركتها الخاصة أكثر مما تقوله عينه أو وجدانه أو مشاعره في العلاقة بها...
أما الحديث عن الصورة، فأقول فيها قولاً مبرماً يكاد يشمل شعري كله، وفي مراحله المختلفة، وهو أن الجملة لا تنبني فيه من دون صورة. وهو قيام وجودي للصورة، إذ يحيل على العالم المحسوس والمرئي؛ وهو قيام تشكيلي أيضاً إذ أن الصورة تفيد في شكل أو لون أو حركة بذاتها مكتفية بها من دون تمثيل أو ترميز بالضرورة.
* أسمع في كتاباتك صوتين: هناك، أولاً، صوت الناقد بالمعنى الأرحب للكلمة، الرافض للمعنى الجاهز، المعطى البدهي؛ ثم هناك، ثانياً، صوت التشكيلي المحول للمادة من الرؤية إلى الرؤيا، الواهب أفقاً متحركاً للوجود. أقصد بهذا الانشطار، أو - لا ضير – لنقل الانفصام. لأن النص الشعري يبدو لديك استباقاً لأثر، أي محاولة للكشف. هل تبنى القصيدة على أنقاض أهرامات من المعاني أم هي سليلة النبوءة والكشف؟
- تطلب مني في سؤالك دخولاً إلى مشغل الشاعر أو محترفه، وهو مشغل ذاتي، داخلي، قبل أن يكون محل عمل وممارسات ومعالجات. ومثل هذا الطلب صعب، في بعضه على الأقل، إذ يطلب مني الكشف عما لا أعرف واقعاً. فالشعر يبقى عصياً، مهما تهيأت له أسباب من النقد، والوعي، وأسباب من النهي عن أمور ومن استحسان أمور... ويزيد من ارتباكي كوني أتجنب التعبير عن الشعر، أو عن تحديد هويته، بلغة الكشف والتنبوء والاستباق وغيرها من المعين الهايدغري، الذي لي معه، في نطاق التفكير الفلسفي في عدد من كتاباتي، مواقف نقدية معلنة.
وإن سعيت إلى الإجابة لقلت بأنني إذ أكتب القصيدة فأنا أنتقد غيرها من دون شك، طالما أنني أسعى إلى تدبر مسالك وهيئات لقصيدتي تميزها وتجعلها مخصوصة. وهو ما انتبه إليه غير ناقد وشاعر، حيث القصيدة في شعري انبناء مختلف يتحقق منه القارىء بمجرد رؤيته فوق ورق المطبعة. ذلك أنني أدافع، على سبيل المثال، عن معمارية للقصيدة تعلنها لقارئها الذي هو الناظر إليها أيضاً.
وفي كلامك عن ابتعادي عن المعنى الجاهز، أو عن المعطى البدهي، أجيب بأن مجرد السعي إلى التسمية يعني واقعاً مشية ما وغير معتادة للجملة في ما تقبل عليه، وفي الكيفية التي تحدد إقبالها هذا. إن مجرد الإقبال المختلف، كما للمصور في لقطة تصوير، يغير المعنى، أي المعطى والجاهز بالتالي. وفي ذلك تكون القصيدة قد شقت سبيلاً يحيد عن المألوف، ويحيد عن الجاري، ويجعل القصيدة تنبني في صورة مفاجئة بالضرورة. إذا شئت أن تسمي هذا الإقبال المختلف على القصيدة "كشفاً"، فلا مانع عندي، إذ أنني طالما كتبت بأن كتابة القصيدة "تجربة" في حد ذاتها، تتعين في جريانها، مثل تجربة تصوير لوحة لا تعلم بنهايتها إلا عند الانتهاء منها. بهذا المعنى تكون القصيدة غير مسبوقة، مدهشة، إلا أنها لا تقع إلا في أفق المعنى.
* فيما تمدح تجارب شعرية أخرى المكان وتعمل على إبلاغه المعنى، نرى أنك لا تنتبه إليه كثيراً وإذا فعلت فلمجرد التسمية. ألا يستميلك المكان؟
- لا يستميلني المكان في ذاته، إلا بالقدر الذي يروي ويسرد ما لي مع المكان، وما له معي. هذا ما يمكن تبينه في أكثر من قصيدة، مثل: "حصى لصيرها الصاحي"، و"الشارع"، و"المقهى جريدة" وغيرها. ذلك أن المكان يربينا فيما ننصرف إليه، نكبر فوق أحجاره فيما نظن أننا نطير أو نبتعد عنه. كما تتعدى هذه العلاقة جانب السيرة، جانب التربية الوجودية، لتطاول سياق أية قصيدة. إذ أن القصيدة لا تقوم من دون مشهدية، من دون سياق وجودي يبنيها وينشرها. وهو ما يحتم لزوماً انبناء القصيدة في مكانية ما.
* أنا أعارض الشاعر الفرنسي جان-بيار فاي الذي يقول إن في بعض شعرك "غنائية خافتة"... ما ألاحظه هو طغيان الغنائية التي أفهمها، لا على أساس تمحور القول على مدار الذات (الشاعرة) فحسب بل على اعتبارها أفق القول، أي غاية وعلة وجوده، وهي في الإيقاع، وليست في المعنى، كما يتبادر إلى ذهن البعض. عموماً تقع الغنائية في قراءة النص، وليست في كتابته. كيف يمكن الحديث عن غنائية الإيقاع أو إيقاع الغنائية؟
- أعتقد بأن في هذا القول اجتهادات وتفسيرات متعددة حول الغنائية، ولا يستقيم معناها أو الجدل حولها من دون تعريفات يتم التوافق عليها. ويتضح من سؤالك أن لك وجهة أو موقفاً من الغنائية تجتهد في طرحه والدفاع عنه. وهو اجتهاد يختلف – على ما تصرح – مع قول فاي في شعري. لهذا يتناول السؤال مسائل عديدة، تشتمل على خلفيات نظرية متعددة هي الأخرى. لهذا سأكتفي في جوابي بتلمس بعض أوجه هذه المسائل. أوافقك القول، بداية، بأن الغنائية تحتاج إلى إعادات نظر متعددة، طالما أنه يصعب وجود شعر - على ما أرى – من دون غنائية، أياً كان نوع هذا الشعر أو جنسه: فالقول الشعري يدور، وإن في أشكال مواربة أو خافتة، على لسان الذات المتكلمة حكماً. والإيقاعية، أياً كانت، خافتة أو موقعة، تحمل بالضرورة نفس المتكلم، أو توقيعه الغنائي.
إلا أن الشعر يختلف كذلك في مقادير غنائيته، أو أوجه حضورها في القصيدة. ولعل هذا المعنى الأخير هو الذي قصده جان-بيار فاي على الأرجح. وكان يريد من ذلك، وفي معرض حديثه عن قصيدة "حصى لصبرها الصاحي"، الحديث عن صوت العناصر، ولا سيما الحجر، في تكوين مشهدية القصيدة وتحكمها بالمعنى. كما أشير كذلك إلى أن أصواتاً بعينها تتخلل هذه القصيدة أو غيرها، وتمسك بالقول الشعري على أنه قولها المخصوص، عدا أن قولها هذا يتعين وفق لمسات غنائية في تناولها لما تتحدث عنه. في هذه الحال تصبح الغنائية "صوتاً" أو "دوراً" في القصيدة، حيث أن إجمالي القصيدة ينحو ببنائه صوب وجهة أخرى، هي الوجهة الدرامية على الغالب.
* يحتل السردي مكاناً أثيراً في شعرك. أتمانع إذا قلت لك إن الشعري فيها هو السردي بامتياز؟
- لا أمانع أبداً في أن تقول ما تشاء، وفي أن تختلف معي وأختلف معك، خاصة وأننا نقترب من دقائق ولطائف في القول الشعري. ويزيد من تشديدي على هذا الموقف كوني أشاركك الراي في ما تقول، وإن لا أمحضه القيمة عينها، أو التقدير عينه. هذا ما يتعين في قصائدي الطويلة – وهي كثيرة في شعري -، فمن يكتب هذا النوع الشعري ملزم حكماً بإيجاد رابط لشعريتها قلما نجده في غير السرد، أو المسرح، وهو نوع من السرد بمعنى ما.
* اقترحت تسمية جديدة لقصيدة النثر هي "القصيدة بالنثر" أو "القصيدة نثرا"ً... ألا ترى أن في ما اخترت من تسمية تعسفاً على الشعر؟ كيف نكتب القصيدة بالنثر؟ هل يمكن المصالحة بين ضربين من القول، كل مكونات أحدهما يتباعد طرداً عن مكونات الآخر؟
- لاقتراحي سببان: واحد يتوخى الدقة في الترجمة، إذ يطلب ترجمة أكثر صحة لهذه القصيدةK مثلما راجت تسميتها في فرنسا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وتفيد هذه التسمية (poème en prose ) "القصيدة بالنثر" أو "القصيدة نثراً"، لا "قصيدة النثر"، مثلما شاع في الكتابات العربية. أعرف بأن التسمية التي أقترحها أصعب على التلفظ من التسمية الرائجة، إلا أنها أصح من دون شك. وهو مقترح مطروح على التداول بأية حال...
أما السبب الثاني فيعود إلى معنى انبناء هذه القصيدة: فقد استرعى انتباهي في كتابتها، في تجارب عربية عديدة، أنها نوع من الذهاب بالشعر إلى النثر بدل أن تكون الإتيان بعناصر النثر أو مكوناته إلى الشعر، بل إلى القصيدة. وهو تمييز دقيق من دون شك، إلا أنه ليس شكلياً أو واهياً. هو تمييز يقع في صلب بناء هذه القصيدة. وهو ما يحتاج إلى عرض وتبين بما يتيح الجواب عن سؤالك.
فالجمع بين الشعر والنثر غير مقبول، ولا سيما في الكتابة العربية. هذا ما استقرت عليه أنواع الكتابة وقواعدها، بما فيها الفنية والجمالية. إلا أن هذا الافتراق المشدد تعسفي بدوره، يعكس تقليداً (أي نظاماً موضوعاً ومتبعاً) أكثر مما يعكس حقيقة الكتابة، وحقيقة اللغة، وحقيقة القيم الجمالية. فالجملة هي أساس كل نص، سواء أكان شعراً أم نثراً. وسبيل بناء الحملة يقوم على تتابع من الحركات، بين تصويت وصمت، أياً كان شكل التتابع، نسقياً كما في العروض، أو متقطعاً أو معدوماً كما في النثر. وهذا ما يشمل الجانب البلاغي من الجملة أيضاً، حيث أن النثر ينبني وفق محسنات قد تقل عما هي عليه في الشعر، أو قد تزيد، مثلما نلقى ذلك في بعض كتابات المتصوفة أو عند أبي حيان التوحيدي...
يمكنني أن أعدد الأمثلة، إلا أنني سأكتفي بواحد أخير، وهو أن الدراسات البنيوية تطلب من درس الشعر, من "الشعرية" كما تسمى، نظاماً درسياً لإنتاجات اللغة، بل لغيرها أيضاً من الإنتاجات التي لا تعتمد على اللغة الإنسانية لغة لها، بل لغات المرئي والحركي وغيرها، مثل اللوحة أو الفيلم أو المسرحية وغيرها. فكيف لا يمكن الجمع بين مكونات الشعر والنثر؟! ولما لا يكون مثل هذا الجمع نوعاً من التحدي، إذ يعرض اللغة إلى امتحانات جسورة وغير مسبوقة، بل يعرض الذائقة الإنسانية لامتحانات مفاجئة هي الأخرى.
بهذا المعنى أقول بأن "القصيدة بالنثر" قصيدة برزخية، واقعة على التخوم، على الحدود، بكل ما تعنيه هذه الإقامة من مخاطر وشطط وإغراءات وحلاوات غير مألوفة. لهذا تمثل هذه القصيدة التجريب بأبعد حدودهP وتمثل كذلك مساعي في التقعيد المختلف والصعب في آن. ومن قال لك إن هذه القصيدة تصل أو تبلغ حالة "تمامية"، أي تامة ومستقرة النشأة والهيئة؟ ألا تكون بالأحرى حالة من شقاق الكلام ومن تمامه أيضاً، من قيام القاعدة ومن تعطلها، في آن؟ ومن قال لك بأن هذه القصيدة تسعى إلى "المصالحة" أو تبلغها؟
* أتعني أنك تستحسن الإتيان ببعض أساليب النثر إلى الشعر؟
- نعم. وأعني بذلك أموراً عديدة، تطاول المبنى كما المعنى في القصيدة، كما تطاولهما معاً في تراكيبهما المتشابكة. هذا يصح في أساليب تناسب النثر، في جاري الكتابة، ويخاصمها الشعر عادة. وهذا يصح في تراكيب الجملة بين ما هو مستساغ في النثر، أو في الشعر، كلاً على حدة.
أسوق مثالاً على ما أقول: يبتعد الشعر، في صياغاته، عن التحديد، عن التقريب، مستحسناً الإطلاق والتعريف العالي، فيتحدث الشاعر عن الحب لا عن حب، عن الندم لا عن ندم... يتحقق القارىء – لو عاد إلى قراءة متأنية لشعري – من أنني لا أتمنع عن استعمال: أكاد أن، أو بالكاد، أو غيرها من العبارات والتراكيب التي تخفف من إطلاقية المعنى وتجعله محدوداً، مجزوءاً، معدوداً.
* تعنى في صورة بينة ببناء شكل للقصيدة، وهذا يظهر في هيئتها الطباعية. أتطبق ما سبق أن درسته في "الشكل الخطي" في كتاباك "الشعرية العربية الحديثة"؟
- ولما لا؟ إلى هذا، أليست القصيدة شكلاً فنياً، وله جماليات بالضرورة، معمارية وغيرها؟ فأسطر القصيدة لا تنزل فوق الصفحة الطباعية نزولاً أعمى، إذا جاز القول، بل نزولاً فنياً. هذا خياري على أية حال، إذ لا أعتبر القصيدة في هيئتها الأخيرة تدويناً لما سبق إعداده في الذاكرة، كما في الشعر القديم. وتتعين هذه العناية المعمارية في السطر، في السطور، في العلاقات بين سطرين متحاورين ومتباعدين... وهذا يشمل جمعاً من سطور، أو مقطعاً، أو العلاقات بين المقاطع... وأتوسل في ذلك بأحجام الحرف الطباعي، حيث أن السطر الأول في عدد من قصائدي هو العنوان كذلك. كما أتوسل بالفسحات البيضاء، بأدوات التنقيط، إغفالاً أو استعمالاً لها...
* من أين يتأتى هذا الشكل؟
- يتأتى من حاصل العمل الجاري في القصيدة أثناء كتابتها، وبعدها أيضاً في عمليات "التنقيح" كما تسمى؛ وهو لفظ لا يروق لي إذ يشير إلى عملية شكلية محض، فيما هي عملية بنائية قد تطيح بحاصل القصيدة أو تصوغها من جديد. غير أن قولي هذا لا يغيب عن ذهني كوني أبقى محدداً بحدود الصفحة وبما تتيحه بنائياًً.
هكذا فكرت مرة في أن أوزع الكلام في القصيدة بين عالي الصفحة وأسفلها، إلا أنني تخليت عن هذه الفكرة، ولا أمتنع عن ذكرها، عملاً بخلاصات تجربتي في التسلل عبر الحدود، والاحتفاظ بحاصل الحركتين ذهاباً وإياباً، أو بالعرض. تخليت عن الفكرة إذ أنها كانت ستنتظم وفق علاقة إلزامية بينه العالي والسفلي في الصفحة، وإن نبهت القارىء إلى ذلك. عدا أن هذه الفكرة كانت ستعطي الكلام السفلي في الصفحة مرتبة "دونية" ملزمة له، وهو ما لا أريده له أبداً، إذ أن له، في حسابي، قوامه الخاص، الذي لا يقل رتبة عن غيره في سبل الكتابة.
* لو تحدد في صورة أبين وأكثر تفصيلاً علاقة الشعر بالصفحة الطباعية.
- هذا ما تنبه إليه شعراء منذ "تخلع" القصيدة العربية، أو تحررها من قالبيتها القديمة. هذا ما شمل الخروج على العروض صوب ما سمي ب-"قصيدة التفعيلة"، أو "القصيدة بالنثر". ولو عاد القارىْ إلى قصائد ترقى إلى خمسينات القرن الماضي، مثل "أنشودة المطر" لبدر شاكر السياب، لانتبه إلى أن الشاعر لا يتورع، على سبيل المثال، عن تخصيص لفظ وحسب، مثل لفظ "مطر"، بالسطر الشعري كله؛ وهو لفظ يقع في أقل من تفعيلة، ما لا تجيزه حسابات العروض ولا حسابات الشكل الشعري. بل بلغ الأمر، في قصيدة أخرى، حدود تفكيك اللفظ إلى حروف، وإلى تخصيص كل حرف من حروفه بسطر...
ولهذا سببان على الأقل: يعود السبب الأول إلى أن القصيدة العربية لم تعد مسبوقة الشكل، بفعل تحكم العروض التام بهيئتها وبقالبها الشعري. ويعود السبب الثاني إلى أن الشاعر العربي، ولا سيما شعراء "القصيدة بالنثر"، انصرف إلى ما يمكن تسميته بالكتابية الحاسمة. هذا يعني أن الشاعر بات يواجه الورقة وفق حركات قد لا تختلف، في بعض معالجاتها، عما يصيب الفنان التشكيلي إزاء الحامل المادي، وعن معالجاته المختلفة فوقه: القصيدة اشتغال لغوي، لا تدوين قولي.
ولو شاء القارىء الانتباه إلى أحوال القصيدة المتأخرة لتحقق من وجود معالجات مختلفة باتت تجتمع وتتنوع في تشكيلات متعددة: هذا يصيب الألفاظ فوق السطر، وبين السطور المتتابعة. فما عاد السطر ينتهي، أو يتوقف في نهايته الطباعية عند وقوعه على فاصلة أو نقطة فاصلة أو نقطة، وإنما باتت للشاعر تدبيرات بل سياسات يتصرف بموجبها بألفاظ القصيدة، ويوزعها مثل مواد صالحة للنظر بقدر ما هي صالحة للقراءة.
* هل تخضع هذه المعالجات لسياسة أم لأكثر من سياسة؟
- لا يستطيع الدارس جمعُ هذه السياسات والتدبيرات في استهدافات واحدة أو منسجمة، إذ أنها مختلفة ومتباينة، وتحتاج إلى جلاء وتبين ودرس بالتالي. فقد تصيب هذه المعالجات نسق القراءة، أي تتابعها فوق سطر، إذ يضطر القارىء إلى النزول على السطر من دون مبرر، سوى استنساب الشاعر لذلك. وهذا يشمل الاستعمالات المختلفة لأدوات التنقيط حيث الشاعر "يتلاعب" بها، أو يستغل إمكاناتها بما يبلبل أو يوجه القراءة، في هذا الاتجاه أو ذاك.
يضيق الكلام، هنا، لدرس هذه الأحوال المختلفة، إلا أنها تلتقي على إظهار هيئة للقصيدة العربية. وهو ما تحفل به القصيدة، على تفاوت وتباين فيما بينها. حتى أن الدارس بات يجعل من الهيئة هذه مجالاً لمحاكمة القصيدة، والتحقق بالتالي من "حداثتها".
وهو ما يقرب القصيدة العربية كذلك من "تشكيلية" غيرها من الفنون، وما يجعلها كذلك تلتقي حول أسباب جمالية لها أن تجمعها بغيرها. ولهذا يمكن الدارس الكلام، في بعض قصائد الشعر العربي الحديث، عن معمارية ما لها.
هذا ما يجعل العين تقرأ شكل القصيدة، لا ألفاظها وحسب، وتتحقق لها بالتالي "صدمات سارة" بالمعنى الجمالي، فضلاً عن الشعري والثقافي.
* يبدو أن من الموجات المستحدثة موجة "التحاور مع الآخر". هل تعتقد أننا في وضعية تسمح لنا بمحاورة الآخر؟
- سؤالك جريء وعميق في آن؛ وهو يذكرني بما سبق أن قلت بأننا صرنا "موضوعاً" في السجال العالمي ولما نبلغ بعد مرحلة "الذات"، وفق التعيين الفلسفي الذي يميز بين "موضوع" و"ذات".
أما على الصعيد الشعري فقد عنى لي الحوار مع نفسي على أنها غيري في أحوال كثيرة، مثلما يفصح عن ذلك اسم مجموعتي: "غيري بصفة كوني" ولقد أوليت هذا الحوار، بل هذا التفاعل، قيمة كبرى، شعرية بقدر ما هي إنسانية. وهو ما يتعين في "التجربة"، في تجربة الحب أو في تجربة الكتابة نفسها، على أنهما، في أحوال كثيرة، أشبه بالأوعية المتصلة، أو المتماسة، أو الشفافة.
* تحمل إحدى مجموعاتك الشعرية في عنوانها لفظ "إعراب": أله مثل هذه الأهمية لكي يتصدر العنوان؟
- للإعراب أهمية لازمة في أي مبنى لأنه يحدد المعنى في التركيب العربي، فكيف إذا كان المبنى شعراً. إلا أنك تقصد شيئاً آخر في السؤال، على ما أظن، وهو أنني أقدم في مقاطع، لا في جمل أو ألفاظ، على وضع الحركات الإعرابية أحياناً في صورة ملزمة للمعنى، وأمتنع عن ذلك في أحيان أخرى. هذا صحيح. وهو ما أجعله بتصرف الشاعر، في تكفله الحر بما يقوم به، بما يتيح احتمالات عديدة للمعنى، فتزيده ولا تقصره على قليلها، بما يعدده في احتمالات.
* غير أنك تسقط حركات الإعراب أحياناً بما يبلبل اتساق الفهم؟
- ... أو يفتحه على احتمالات عديدة. فالمعنى مراوحة أو تردد أو احتمالات مختلفة، ربما تكون متعاكسة. فالمعنى أحياناً افتراضي، احتمالي. طيف وعتمة وظلال ملتبسة. هكذا قد يخرج المعنى إلى عتمة ظليلة أو إلى مشهدية خافية ومبقعة. ذلك أن المعنى يتسرب أحياناً، أو "يزوغ"، أو لا يتحدد بما يمكن حصره...
* كما تعتني كثيراً بالعنوان، حتى أن لك "سياسات" فيه على ما أرى. وأنت ماذا ترى؟
- أوافقك القول في أن للعنوان "سياسات"، أي عديدة ومتنوعة. وأتحقق من تنوع هذه العناوين واختلافها، مثلما أتحقق من فعالياتها المتنوعة تبعاً لأدوارها المتعددة. فالعنوان أشبه بالاسم العلم يشير إلى صاحبه من دون أن يفضي إليه بالضرورة، فضلاً عن أن له محلات ظهور وأدوار ورهانات متباينة. فقد يقع العنوان، مثل بطاقة زيارة فوق قصيدة، أشبه بإعلان عنها، فيكون تمهيداً استباقياً، أو تلخيصياً لها، أو منتهى لحركتها البادية. وهو إعلان انطلاق أو وصول، مثل قطار فوق سككه. وقد يأتي العنوان لصيق السطور، لا منفصلاً عنها: عنوان وسطر أول في القصيدة، بما يبلبل دور العنوان ويعدده كذلك. هكذا يكون بداية غير ابتدائية، غير تدشينية بالضرورة؛ بداية تفتح شهية الكلام الشعري. وقد يأتي الامتناع عن وضع عنوان مستقل، منفصل، عن القصيدة تعبيراً عن امتناع أعمق وأعقد، وهو الامتناع عن توجيه الكلام الشعري في شارع معنى، أو في وجهة قراءة. وفي هذه الحالة الأخيرة يتحرر الشاعر، بداية أو لاحقاً، من إمالة الكلام الشعري، من توجيهه، فيستغرق فيه، ويخوض فيه، كما سبق أن قلت غير مرة. ووجب القول في هذا المجال إنني وضعت أحياناً عناوين لقصائد قبل كتابتها، لهوى تمثل في تركيب لغوي، أو في جزء منه، بما يلزم الكتابة في "مقام" للقول، مثل الحديث عن مقام في الموسيقى الشرقية، ولكن ليس أكثر من ذلك.
* يقول معظم الشعراء: أحب القصيدة التي لم تأت بعد. ما تقول في هذا الطرح؟
- هذا قول لا يعني شيئاً، وإن يردده شعراء كثيرون بعد أدونيس، وهو الذي ردده بدوره بعد ستفان ملرمه. فهو قول يلزم الشاعر بالتجديد، ويؤجله في أن، ما يعفي الشعر المنتج من النقد، من جهة، وما يمحض الشعر عموماً صفة الخلق المتجدد، من جهة ثانية. هكذا ينعم الشاعر، واقعاً، بحسنات الجدة، المرجئة تصريحاً والمحصلة لصيت الشاعر واقعاً، وينعم الشعر بحصانة وإن يتم تأجيلها لوقت آخر.
هذا يرسم صورة مستجدة في أدبياتنا عن الشاعر: صورة قلقة، متسامية، إلا أنها تسعى للتخلص، للتملص من التاريخ، من المسؤولية الشعرية والثقافية التي يضطلع بها أي شاعر.
(تونس، 2006).