مع ليندا العثمان: القصيدة موضوعاً للقصيدة
الشاعر الأديب الدكتور شربل داغر قدم منذ العام 1981 أكثر من ثلاثين مؤلفاً في الشعر والأدب والجماليات والترجمة والنقد والكتابات الإبداعية. وآخر إنتاجه في مجال الشعر: "لا تبحث عن معنى لعله يلقاك"، عن "دار شرقيات للنشر والتوزيع"، وهو يكتب فيما يخصه لقارئ لا وجه له، كما يقول، ويسعى إلى الانطلاق من العالم، من محسوسه، ومعايناته فيه، لا من أي مكان آخر؛ وهو يغرف من العالم اليومي، من مشاهده وصوره وحكاياته وشخوصه.
في مجمل ما كتب يجيء شربل داغر من نبض الكتابة وحركية حضورها، من المطابق المشهدي حيث اللغة عنده والصوت ومسرح الضوء في كلام التفرد.
* صدرت لك مجموعة شعرية جديدة بعنوان "لا تبحث عن معنى لعله يلقاك" عن "دار شرقيات للنشر والتوزيع" في القاهرة: كيف تقدمها للقارىء؟ وماذا عن عنوانها الذي يختلف تماماً عن عناوينك السابقة؟
- تماماً. فعنوان المجموعة الجديدة يتألف من جملتين متعالقتين، وهو ما لم أعمد إليه في السابق حيث ما كان العنوان يتعدى اللفظ الواحد أو اللفظين، أي الجملة الاسمية الواحدة. العنوان الجديد مستقى من إحدى القصائد القصيرة. ولقد راق لي هذا العنوان إذ يناسب في جانبه القولي، الإرسالي، المباشر، مبنى القصيدتين الطويلتين الأساسيتين في المجموعة. وهما قصيدتان تتوسلان المحاورة ذات الطابع المسرحي. وهو عنوان أقرب إلى أن يكون بالتالي جملة، بل جملتين في حوار.
* بل قمت بأكثر من ذلك، إذ عمدت في النص الأخير في المجموعة، إلى جعل العنوان يتوزع في جملتين بين متكلمَين، إذ يقول الأول: "العباقرة يصلون سريعاً" ويقاطعه الآخر بالقول: "...والحمقى أيضاً". هناك شاغل مسرحي صريح في هذه المجموعة.
- ربما، غير أنني لم أتقصد كتابة الحوار، ولا المسرحة في هذه المجموعة. لا، قد لا تصدقي إذا قلت لك بأنني انقدت إلى مثل هذه الكتابة من دون قرار مسبق. هذا يصح في النص الأول: "جثة شهية"، لا في النص الثاني الذي ذكرت. مع النص الأول بدأت بقصيدة وإذا بي انقدت إلى الكلام عن ورقة كما لو أنها خشبة مسرحية، وعن هذه وتلك مثل صفحة إلكترونية... هكذا عرف هذا النص، في جمله الأولى، تدافعاً قريباً من تموجات حوارية، ما لبثت أن تبنيتها بل أن نسقتها في تتابعها الحركي.
* أكنت تحلم وأنت تكتب أم تكتب وأنت تحلم؟
- كنت هذا وذاك في الوقت عينه، أشبه بالعمل المسرحي إذ يدور عملان أو حركتان أو حواران فوق الخشبة المسرحية عينها، على أن العمل الأول يجري تحت الضوء والثاني في العتمة مع أصواته المبهمة. على أنني تنبهت كذلك إلى أن العملين هذين يمكن لهما أن يتوزعا في فضاء كتابي واحد، في الوقت عينه أو واحداً بعد الآخر. انقدت في كتابة النص الأول مثلما يدخل المتنزه أو المكتشف في غابة: يتقدم فلا يرى حتى المواقع التي تحط فيها أقدامه. يتقدم من دون أن يتبين لحركته أفقاً غير الأغصان الملتفة على بعضها البعض. إلا أن هذا يدوم لبعض الوقت، أثناء كتابة النص، طالما أن الشاعر ملزم بمعنى ما بأن يتوقف في لحظة ما وبأن يقول لنفسه: ما أفعل؟ هل أستمر؟ إنه قرار "استراتيجي"، عملاً بما يقوله بعض الدارسين عن "استراتيجية المؤلف". وهكذا كان...
* أيعني هذا أن النص الأول على الأقل نص عفوي؟
- يصعب علي قبول هذا الاحتمال، إذ أنه يصعب، من منطلق دراسي بحت، قبول مثل هذه العفوية أو التلقائية، ولا سيما في أفعال أعتبرها، مثل كتابة الشعر، أفعالاً اجتماعية، مهما قيل عن تفردها أو عن خصوصيتها. ولو عدت بعقلية المفتش أو المتفقد لأشعاري السابقة لتحققت من أن صورة الخشبة المسرحية ماثلة فيها، كما المتكلم والملقن والممثلين وغيرهم. لا بل يمكن أن أفيد أنني كتبت قصيدة طويلة، "المقهى جريدة"، قبل هذين النصين، وقد اشتمل قسم فيها على مقطعين يتبادلهما متكلمان في الوضعية نفسها: ماذا يقول جالس في مقهى لأنثى تروق له في مقعد مقابل له؟ وماذا تقول له الجالسة في القعدة عينها؟
* ولكن أما خشيت من إدخال هذا الأسلوب إلى عدتك الشعرية؟
- لا، أبداً. مثل هذا الأمر أراحني في نهاية المطاف، وبعد إعمال التفكير في ما أقدمت عليه. فلقد تنبهت إلى ان شعراء القصيدة بالنثر لم يعمدوا أبداً – في حدود ما أعرف – إلى إدخال مثل هذه التقنية إليها. فهذه القصيدة استوعبت أساليب عديدة من خارج الشعر والشعرية، مثل الوصف والسرد واللقطة وغيرها، على ما كتب شعراء في قصائدهم، وعلى ما درست في غير كتاب ودراسة، وعلى ما قلت كذلك في مقدمة مجموعتي الشعرية الجديدة. لما لا يكون الأسلوب الحواري واحداً من جملة الأساليب التي استفادت منها القصيدة بالنثر؟
* لنعد إلى مجموعتك الجديدة: يبدو الموت حاضراً بقوة فيها.
- هذا صحيح في النص الأول في المجموعة الذي يجعل من الموت واقعاً يتناوله عدة متكلمين بالمعالجة بين الحركة والقول. وهو كذلك استعارة تشير إلى موت آخر يتخلل الحركات ويميت الحياة نفسها، ويومياً.
هذا يذكرني بواقعة حصلت لي ذات يوم، في القاهرة، أثناء صعودي في جوف الهرم الأكبر في الجيزة: لم أكن يومها أعرف حقيقة ما أقدم عليه: كنت أنساق مثل غيري إلى تفقد الخلود، على أنه ينتظرنا في آخر المشوار. اقتضى الأمر منا صعوداً متتابعاً... صعدت في البداية من دون أن أصعد واقعاً، إذ ما كنت أشعر بالخطوات، ولا بثقل الصعود نفسه. لا بأس! الخلود يقع في نهاية الصف المتصاعد من الزوار. توالى الصعود بعد الصعود من دون أن نصل. ولم يعد التراجع ممكناً بأي حال، ولا التوقف. فهناك غير زائر، غير صاعد، ينظر إليك بقسوة ما أن تدير ظهرك إلى الخلف، ما أن تتوقف أو تخفف من سرعتك... انتهيت إلى الوصول في نهاية المطاف. وجدت فسحة يتوسطها ناووس فرعوني. هرعت إليه فإذا به خال من أي أثر. كانت خيبة أملي قوية توازي حجم الجهد المبذول في الصعود.
هذه الصورة لم تفارقني، إذ تنبهت يومها إلى أن السياسة هي هذه، هي في القدرة التي لها في الإيهام، ليس إلا، في أنها موجودة فيما قد تكون غائبة.
هذا الناووس الفارغ لعله هو الذي أثار مخيلتي إذ أوجدت في هذا النص، وهو "جثة شهية"، مكعباً خشبياً يتوسط الخشبة التي تدور فيها أحداث النص. هذا المكعب الذي قد يخفي ولا يخفي، وقد يكون وهماً أو واقعاً، وقد يكون في نهاية المطاف ما ينتظرنا نحن الدائرين حوله.
* ألا يعني هذا أنك تكتب للمسرح، ولكن بقالب شعري؟
- ردة فعلي التلقائية على هذا السؤال هي الجواب بالنفي. فأنا إذ كتبت هذين النصين اللذين تشيرين إليهما، لم أكن أعمل، ولا أطمح إلى كتابة مسرحية، ولا إلى مسرحية شعرية. فمثل هذه الأنواع الأدبية والشعرية معروفة. أتيت إلى هذين النصين من احتياجات أخرى وجدتها تسبقني إلى ملكتي الكتابية. ويمكنني أن أعترف بأنني كتبت هذين النصين بيسر غريب، وفي وقت سريع أيضاً. هذا يعني طبعاً أنهما كانا نصين "مشغولين" قبل أن يتنزلا في السطور.
طبعاً في إمكاني أن أجد سوابق أو ممهدات لهذين النصين في ما كتبت في السابق، حتى في دراساتي النقدية: فلقد توقفت ملياً في شعر صلاح عبد الصبور ومحمود درويش لأتحقق من جانب القول في الكتابة، ومن الأصوات المختلفة التي تعبر أو تصادر ملكة المتكلم في النص الشعري.
لعلي طلبت في ما كتبت شيئاً آخر، غير القصيدة التي أكتب عادة، شيئاً من الحوار، من التفاعل مع ما يحيط بي. هي أشبه بخروجي إلى ساحة عمومية، على أنني أديرها وحدي. هي اندراج في شارع، بين متظاهرين، بين مشيعي جنازة، بين من تطالهم كاميرا التلفزيون ويتعاملون معها على أنها توصل رسالتهم إلى أمهم أو إلى بنت الجيران.
* ألا يكون لهذين النصين صلة بالتظاهرات التي عصفت في لبنان بعد اغتيال الحريري؟
- ربما، وقد شاركت في إحداها، بعد انقطاع طويل عن الاشتراك في أي تظاهرة. عدا أن مشاهد بيروت هذه هي أيضاً مشاهد في غزة وبغداد والقاهرة والبحرين وغيرها. وهي مشاهد تختلف عما كنت أعرفه أثناء دراستي الجامعية من تظاهرات، ومن طرق انتظام في الصفوف، ومن شعارات، ومن هيئات إنسانية. كانت التظاهرات التي اشتركت فيها فيما مضى مختلطة، وكنا نخرج فيها إلى الشارع من دون حجاب، لا للذكور (بعكس ملثمي بعض التظاهرات الحالية)، ولا للنساء (فيما لو ترك لهن دور غير إطلاق الزغاريد والبكاء واللطم على الخدود).
* لعلك تخرج من عالم حميمي إلى عالم خارجي، إلى عالم السياسة كما في قصيدة "نميمة إلكترونية" في مجموعتك السابقة: "إعراباً لشكل"؟
- الملاحظة موفقة، وتكشف طبعاً عن طلبي في أن أكون مع غيري حيث هم، ولكن كما أراهم وكما أرى إلى ما يحدث لي ولهم، وإلى ما يصيبني مع غيري، في القصيدة وفي خارجها. هي طريقتي إذا شئت في "التموقع"، من دون أن أفارق كينونتي، ولا نظري إلى ما يحيط بي ويشملني.
تحضرني الصورة الختامية في الفيلم الفرنسي، "يوم أحد في الريف"، ويقوم فيها المصور في محترفه بفتح النافذة على الحديقة الخارجية، ويعيد تثبيت الحمالة المسندية التي وضع عليها لوحته - التي هي قيد التصوير - بما يسمح له بأن يرى إلى الخارج فيما يصور.
* إلا أنك تعود في المجموعة الجديدة إلى شيء من السيرة. أليس كذلك؟
- نعم، إلا أن ما يحركني يتعين في حاضري. أو أنني أعود إلى شيء من السيرة ابتداء من إلحاح حالي، إذا جاز القول. ولو شئت أن أعود إلى ما قاله الشاعر الفرنسي ستيفان مالرمه لذكرت أنه تحدث عن "ضرورة خلق كل شيء من جديد بواسطة الذكريات". وهو ما قاله بودلير بدوره قبله: "ذكرياتي الغالية أثقل من الأحجار". ولو شئت أن أعود إلى ما قاله راينر ماريا ريلكه في "رسائله إلى شاعر شاب" لذكرت بأنه دعا هذا الشاعر إلى البحث دوماً عن ينبوعه الداخلي، وهو مملكة الطفولة، ففيها يتموج الشعر ويخضل بأغصانه.
وإن كان لي أن أعترف لذكرت أيضاً بأنني تمنعت – وأنا في باريس طوال 18 عاماً – عن التذكر في الكتابة، وتجنبت بالتالي منزلقات الحنين الطبيعية. أما وقد عدت إلى لبنان، فقد اختلفت الكتابة طبعاً، بين ما تعاينه وما تتذكره، بين ما تتحسسه وما تستعيده. في هذا الرواح والمجيء تقوم دوماً القصيدة، إذ أنها تنبني دوماً على مقادير من التذكر، من الاستعادة، فيما تقوم كذلك على الإنشاء، أي على الفعل الحاضر.
* يستوقفني في مجموعاتك الشعرية، واحدة تلو الأخرى، كونك تجعل من القصيدة نفسها موضوعاً شعرياً. وقد تكون الشاعر العربي الوحيد الذي جعل من القصيدة موضوعاً لقصيدة، بل لشعر متعاقب. أليس كذلك؟
- هذا ما افتتحته في شعري منذ مجموعتي الأولى، منذ قصيدتي "فتات البياض"، حيث جعلت - كما تقولين - من الشعر موضوعاً لقصيدة، بل لقصائد. لطالما أثارني موضوع بناء القصيدة، على أنه الموضوع الشعري بامتياز. هذا ما أجمعه في القول أحياناً عن أن القصيدة تتعين في أنها مرآة وفي أنها نافذة تفضي على غيرها، وفي آن. وهو ما يمكن تقريبه من المسرح كذلك، من تقنيات برتولت برشت فيها، من المساعي القولية والحركية والعرضية التي تجمع بين العمل المسرحي الجاري وبين حركة إقبال الممثلين عليه، ما يجعل المسرحية تقوم، وما يجعل العاملين فيها يمثلون ويتأملون في ما يقومون به.
ولهذا يبدو لي سر كتابة القصيدة سراً جديراً بالملاحقة، بالتتبع، بالتفقد، بمحاولات المراودة والتحرش والتعرف. وهو ما تستطيعه القصيدة، وهو ما تستعذبه أيضاً، إذ تنزلق القصيدة فيما تتعين، وتتسرب فيما تتركز، وتصل إلى غيرها فيما تتوجه إليه.
* وهذا ما يتضح في وجه آخر في تجربتك، وهو أنك تجعل من الاسم "شربل داغر" مادة شعرية في شعرك.
- هذا ما يتضح منذ مجموعتي الأولى، في كلامي في قصيدة عن "شربل". وهذا ما تأكد في أكثر من مجموعة لاحقة، ولا سيما في الأخيرة، حيث أن "المتكلمين" يسخرون بل يتندرون مما يقوله أحدهم، المدعو: "شربل داغر"، أو "ش. د.".
هذا يريحني في العلاقة مع نفسي، إذ يتيح لي مسافة من التبين، مسافة من الحوار بيني وبين نفسي، فلا أنصرف إلى القصيدة انصراف الخطيب إلى جمهوره الصاغر، ولا الخالق إلى مخلوقاته الطيعة. يخيل لي أحياناً – في نوع من المداعبة – أن الشاعر الحديث يكتب قصيدته كمن يدخل إلى الحمام صباحاً ويستمع إلى غنائه، ويصفق له كذلك.
* غير أن ما تقوله يذهب إلى أبعد من حدود المداعبة.
- لا أنظر إلى المداعبة نظرة خفيفة، بل جسيمة، إذ أنه يراودني الاعتقاد بأن الطريقة المثلى - أو إحدى هذه الطرق - إلى انتهاج سبيل القصيدة هو مداعبتها، مراودتها عن نفسها، أي تجريب أشكال ووضعيات تخرج بها القصيدة من طورها، وتخرج من معتادها. هكذا تتأمل القصيدة نفسها إذ توقع نفسها في "مقلب"، في مفارقة قد تبعث على الضحك. وها أنا أتحقق مرة جديدة مما يجمعني بابن الرومي، هذا الساخر النادر – مع أبي نواس – في فضاء القصيدة القديم.
إلا أن ما أطلبه من اللعب عموماً – وله وجوه مختلفة في شعري - يتعدى اللعب نفسه، ويصب في ما أسميه ب_"نقد الأنا". فالقصيدة العربية، بقديمها وبقسم واسع من جديدها، قصيدة الفحل، قصيدة النفوذ، قصيدة التأكد من سلطة الأنا ومن ممارستها لقوتها، لتمكنها من الكلام، ومن أثره، ومن وقعه الاجتماعي.
* لكنني أتبين في ما تقول وجهاً آخر، سبق أن أكدت عليه، وهو التخفيف من إمساك الشاعر بقصيدته، أليس كذلك؟
- ربما نجد في هذا أساساً آخر لما سقته من كلام عن حواري الممسرح في النص الشعري. فقد يكون الإقبال على حوارات طريقة في التخفي، في التوزع، في أن يكون هناك في القصيدة متكلمون عديدون، لا المتكلم الواحد والوحيد، الذي هو أحياناً أشبه بالخطيب في القصيدة العربية. فالحوار الممسرح يتيح إدخال واقع ما إلى النص، مباشرة، من دون التشبيه أو المجاز أو الترميز، كما يتيح أيضاً تبديل مواقع انطلاق الكلام، وتوزيع معانيه. فلا تتوافر للقصيدة وجهة لازمة، أكيدة، لقولها وأنما تسلك القصيدة في اتجاهات متعددة، وفي آن.
* أيمكن التوقع بأن نصوصك ستكون محل مسرحة من قبل مسرحيين؟
- لا أعرف. ما أعرفه هو أن الشاعر والمسرحي التونسي سالم اللبان تنبه إلى المسرحة الشعرية، أو الممكنة في شعري، من دون أن يكون عارفاً بنصوصي الجديدة هذه مطلقاً. أما عن سؤالك فأنا لا أملك جواباً عنه. ولا أعرف أساساً ما إذا كانت نصوصي تثير أو تحرض مخيلات مثل مشروعات مسرحيين. هذا متروك لهم، مثلما هي القصيدة في عهدة القارىء والناقد
(جريدة "السياسة"، الكويت، 6 تموز-يوليو 2006).