مع حسن عبد الموجود : ضد الواحدية في الشعر
يبدو أن الشاعر اللبناني شربل داغر أكثر تفاؤلاً في نظرته لمستقبل الشعر المصري من معظم المثقفين المصريين أنفسهم.
التقيت به لأحاوره حول كتابه الجديد "لا تبحث عن معنى لعله يلقاك"، الصادر مؤخراً عن "دار شرقيات"، إلا أن الحوار تشعب إلى قضايا الشعر المصري وعجز النقد عن ملاحقته وتجاهل الإعلام له.
كما تطرق الحوار إلى الحديث عن مصطلحه "القصيدة بالنثر"، وسمات قصيدة ما بعد الحداثة، وموت الناقد الأدبي في مقابل ظهور الناقد الثقافي.
* هناك من يرون ان الشعر المصري يتراجع ويعيش أسوأ مراحله، فهناك استسهال في عملية النشر، وعدد الشعراء أصبح كبيراً بشكل لا يصدق. ما رأيك؟
- أعتقد أن في الكلام قسوة غير منصفة للشعر المصري الحالي. أولاً أرى أن وفرة صدور المجموعات الشعرية في حد ذاتها ليست مؤشرا سلبيا عن الشعر بل هي دلالة علي حيوية هذا الشعر... حدة المنافسات والجدال تجعل الشعر بالضرورة حياً.
الملاحظة الثانية هي أننا دائما ننساق إلى نظرة اسميها "واحدية" للشعر، بمعنى أن هناك تصوراً واحداً للشعر نحتكم إليه وهو مقياس التقدم والتأخر في هذا المجال، فيما الشعر على ما أراه مجموعة من التجارب تتسم بمقادير من التنوع. والشعر بتعدد مناحيه خرج على منطق "الواحدية" الجمالية التي حكمت الشعر العربي طوال قرون وقرون.
أن يتم الكلام عن غث وسمين في الشعر فهذا أمر اعتيادي وإن كنت لا أنفي أن هناك استسهالا في كتابة الشعر ونشره في بعض الأحيان. أعتقد أن التربة نفسها تؤدي بحكم جريانها إلى نوع من التنافس، وهي لن تلبث أن تصطفي شعراء وتسقط شعراء، بل تتقدم إلى أفضليات وخيارات أخرى. بهذا المعنى لا أستسيغ هذا الحكم المعياري تجاه الشعر المصري.
طبعاً أنا أفهم ملاحظات البعض حول الضعف الفني في عدد من المجموعات الشعرية، وهو الذي أدى إلى ما أسميته بالتراجع في بعض مظاهر الشعر المصري، ولكن بحكم معرفتي به أؤكد أنه لم يعرف بتاريخه المتأخر على الأقل مثل هذا الإقبال على طبعه.
حمية السجال اليوم لم تعد مقتصرة كما في الماضي على صراعات أبطالُها عباس محمود العقاد أو صلاح عبد الصبور أو غيرهما من الشعراء. الآن تجدها في الجامعة، والمنتديات، والمقاهي، وعلى صفحات الجرائد... رقعة الجدل حول الشعر تتوسع وتتعدد وتتنوع وهذا مؤشر إيجابي في حد ذاته.
* إذن لماذا حدثت قطيعة بين الجمهور وبين الشعر، والناس لديهم استعداد لدفع ثمن رواية لا الديوان؟
- هذا أمر طبيعي، لا يحدث في مصر فقط وإنما يحدث في بلاد العالم كلها. أولا لدينا صورة خاطئة بعض الشيء عن رواج الشعر: أين كان رواج الشعر القديم؟ كان يتم في البلاط أو مجالس العلماء أو بين الشعراء والنقاد. رقعة الشعر كانت ضيقة وليست بالشكل الذي يفترضه البعض دون تبصر ودون تفكير في حقيقة المشكلة.
الأمر الآخر يخص الشعر الحديث فهو مثل الفن الحديث يحتاج إلى عين مثقفة لكي تراه وتقرأه. في الفن القديم، الكلاسيكي على سبيل المثال يكفي أن تروي دقةُ الرسم جمالَ الموضوع لكي تقول إن هذا الفنان جميل. الآن لا تستطيع أن تقف أمام لوحة وتحكم عليها بالمعايير نفسها، إن لم تكن لك ثقافة فنية بالمعنى الأسلوبي للكلمة. وهذه نحصلها في البيت، والمدرسة، وأمام شاشة التلفزيون، وفي الشارع وأنت ترى الإعلانات. أقول: دون هذه الثقافة الأسلوبية لا تستطيع أن تتعامل، لا مع بيكاسو ولا فان خوخ، ولا كل موجات الفن الأوروبي والعالمي. وهذا يصح أيضاً في الشعر.
وعلينا قبل أن نتكلم عن صعوبة العلاقة بين الشعر والجمهور أن نسال: ماذا تفعل الحكومة لصالح الشعر؟ ماذا تفعل وزارة الثقافة، والجامعة، ومؤسسات الإعلام، والبلديات والجهات المسئولة لصالح الشعر، ولكي يكون الشعر حاضراً، ومجالا لبلورة وتنمية الذائقة الجمالية للتلقي نفسه؟
أنت اليوم تستطيع أن تتحدث عن ذائقة فنية خاصة بالمسلسلات التليفزيونية والأفلام، لماذا؟ لأن المسلسل التليفزيوني والفيلم السينمائي موجودان في كل بيت بحيوية وحضور قوي. أنت لا تستطيع - إن لم تتوفر هذه الظروف والشروط - أن تقول إن الشعر ضعيف أو أن تقبله ضعيف مع أنني أقر أن تقبله ضعيف واقعيا.
* هناك ارتباك في خريطة الشعراء لا أعرف من المسئول عنها: فثمة من يصرون على وضع حدود جيلية (سبعينيات وتسعينيات) مع أن هناك شعراء سبعينيين مثلا يكتبون القصيدة الجديدة ومنهم محمد صالح، وحلمي سالم ومحمد سليمان.
- لا أقر بقسمة الأجيال. لقد تم تصنيفي أيضاً ضمن جيل السبعينيات مع حلمي سالم، ورفعت سلام وجمال القصاص. لا أقر بها لأنه لا معنى دقيقاً لها. الشعر يتغير ويحافظ في الوقت نفسه على مقادير تميز تجربة هذا الشاعر أو ذاك. هناك شعراء يثبتون ويتحصنون فيما يكتبون، أقصد في خياراتهم الفنية والجمالية. وهناك شعراء يعاملون بقدر من الانفتاح أو التقبل الأشياءَ الجديدة إلى غير ذلك... هذه خيارات الشعراء وليس لنا أن نقول إن هذا الخيار هو الأكثر صواباً وصحة. ما يجب أن نأخذ بالنا منه جيداً هو مدى قدرة هذه التجربة بالمعنى الفني في أن تكون ثرية ومتميز وفيما يمكن أن تشكله من إسهام مجدد في الشعر العربي.
* كل الجماعات الشعرية سقطت أو انتهت... هناك فردية شديدة في التجارب الشعرية، هل لأنه ليس ثمة اتفاق على جماليات معينة للشعر الآن؟
- درست في عدد من بحوثي مسالة التيارات والمذاهب في الشعر العربي الحديث، وخلصت إلى مجموعة من الأفكار، وهي أن نشأة هذه التيارات والمذاهب في شعرنا تمت، في الغالب، بناء علي تأثرات ذات طابع ثقافي، مثل إقبال شعراء عرب على الرمزية في فترة ما بين الحربين، أو الإقبال على استلهام الأساطير في شعر الخمسينيات، يعود إلى التأثر بتجارب عالمية وجد فيها الشعراء نموذجا يصلح للتمثيل والاقتداء به واتباعه بمعنى ما. وهناك أيضاً تأثرات حدثت بناء على حسابات أيديولوجية سياسية قامت في أساس تكوين عدد من أجيال الشعر أو جمعياته. في العقود الأخيرة تغيرت أمور بسبب ضعف الإيديولوجيات، وتعددِ المذاهب والأساليب الشعرية المتبعة في الشعر العربي الحديث، واتساعِ رقعة الثقافة الشعرية. هذا يعني أن الشاعر المصري أو اللبناني كانت له، في فترة ما بين الحربين، معرفة بشعر العالم تكاد تقتصر على شعراء فرنسا وألمانيا وانجلترا و أميركا فقط لا غير. أما شاعر اليوم فيعرف عددا أوسع من شعراء البلدان المذكورة على وفرة تجاربها، كما يعرف شعرا في اليابان... خريطة الأشكال والأساليب في الأجيال الجديدة أصبحت صعبة القراءة، وهي على درجة من الخفاء، بل هي على درجة عالية من اللعب. وهذا يدل على نضج في التجربة، وعلى تعامل فني مع الشعر، وليس تعاملا أسلوبيا أو إيديولوجيا مع الشعر. شاعر اليوم ينتبه على سبيل المثال إلى طريقة بناء الجملة عند شاعر ما آخر، تروق له فيأخذ بها ويحاول أن يبني جملته انطلاقا منها. أو يلاحظ عند شاعر آخر كيف يبني قصيدته بالمعنى الشكلي المعماري، وهو ما يمكن ملاحظته في الجانب البصري للقصيدة. وهذا يشير كما ذكرت إلى تأثرات الشعراء ومعرفته بأشكال أخرى من الشعر تصدر في بلدان مختلفة.
* معظم الشعراء يشكون من تجاهل النقد لهم أو عدم متابعة لما يصدر هنا وهناك. ما رأيك؟
- آراء هؤلاء الشعراء ليست متطرفة، وتشير إلى وجه من الصحة في درس النقد للشعر العربي الحديث. النقد لا يزال غير مواكب كفاية لغنى التجارب الشعرية العربية. وأحيانا الجامعات ليست المكان المناسب في بلادنا لدرس الشعر أو لنقده أو حتى لتأريخه. قسم كبير من نقادنا اليوم يعتنون بدراسة الشعر القديم، ومن يعتنون بدرس الشعر الحديث - ولا أريد أن أقول إنهم قلة، لأنهم ليسوا كذلك - ينصرفون إلى أمور في درس الشعر لا تلبي حاجات الشعراء. أسوق مثالا: "القصيدة بالنثر" موجودة في البلاد العربية منذ خمسين عاما، وهناك مئات من الشعراء يكتبونها اليوم، أما في نقدها فنحن نلاحظ عدداً هزيلا من الدراسات والكتب التي تناولت هذه التجربة وشعراءها على اختلافاتها وتنوعها. الأمر الآخر هو أن الصحافة الأدبية لا تقوم بدورها في الأغلب، كما يجب أن يكون عليه هذا الدور، بمعنى أن النشر فيها تتحكم به أحيانا حسابات شللية وصداقات وتبادل منافع وأمور أخرى مما يفسد عملية النقد وتقديم المنتج للقارئ بالطريقة المناسبة. طبعا يبقى أن هناك جهات أخرى في المجتمع، هي المدرسة، والجامعة، والبيت، وغيرها، وعليها أن تتكفل بإيصال الشعر، بعرضه، بنقده، بتعميم الثقافة الفنية اللازمة لتقبله والحكم عليه وفرزه وغربلة أصحابه.
* ما رأيك في كتاب للدكتور مصطفى الكيلاني: "شربل داغر: الرغبة في القصيدة". ماذا تقول فيه؟
- لا يمكنني أن أبدي فيه رأياً لسببين: السبب الأول لأنه كتاب عني، يعالج تجربتي الشعرية، والسبب الثاني لأنني لم أنته من قرائته بعد، فقد استلمت نسخته في القاهرة قبل أيام قليلة. ما أستطيع التشديد عليه هو أن الدكتور الكيلاني ناقد مرموق، يمتاز برصانته المنهجية وعمق تناوله الفكري للشعر، فضلاً عن أنه يكتب النقد بلغة شديدة الرونق والأناقة، حيث هي لغة مبدع بقدر ما هي لغة ناقد. ولقد كانت لي في هذه الكتاب مفاجأة جميلة، إذ نشر فيه قصيدتي الأولى التي نشرتها في صيف العام 1971، وكنت قد نسيتها فعلاً، وما نشرتها في أي من كتبي الشعرية السابقة.
سيكون هذا الكتاب مفيداً من دون شك لمن يهتم بشعري، وبالتفسير التأويلي للشعر، فضلاً عن أنه يشتمل على توثيق موفق لعدد من الكتابات والدراسات التي تناولت شعري في أكثر من لغة. ولقد قام الكيلاني بتقديم مختارات من شعري، وبنشر مقابلات صحفية مركزة عن تجربتي الشعرية الأخيرة.
وما استوقفني في كتابه، في قرائتي السريعة له، هو أنه أقام مبنيين للدراسة النقدية: واحد، هو الدراسة نفسها، وآخر هو الهوامش التي ضمنها معلومات كثيرة والتفاتات ذكية لعلاقات بين قصائد ومجموعات مختلفة في شعري، بما لا يرهق نص الدراسة ويبقيها مسترسلة.
وأشد ما استوقفني في قرائتي العجولة هو أنه اختار الشواهد في متن دراسته بحساسية وذائقة شعريتين عاليتين، ما لا نجده في أحيان كثيرة عند عدد من النقاد. فهؤلاء يوردون في دراساتهم شواهد ليست من أفضل ما كتبه الشاعر، وبما لا يناسب أحياناً مضمون التحليل النقدي.
* أليس في مقدور قصيدة التفعيلة أن تفعل ذلك؟
- لا، أبداً. فقصيدة التفعلية هي أمام هذا التحدي أشبه بالعمل النظمي التقليدي الذي له أن يقولب ما يستقبله، سواء أكان شعراً جيداً أم رديئاً. ولا تملك هذه القصيدة بالتالي الطواعية المناسبة لاستقبال وامتحان قدرات تعبير متنوعة.
* ماذا تكون قصيدتك في هذه الحالة؟
- ما توفره هذه القصيدة لنفسها ولقارئها شيء مختلف، وهو بناء فضاء للقصيدة لا يقع في التخييل وحسب، كما هي عليه أي قصيدة أساساً، وإنما يقع في بناء فضاء افتراضي تتمثل فيه الأشياء والهيئات، لا الكلمات وحسب.
وهو ما يمكن قوله في قصيدة مطولة ثالثة في هذه المجموعة، وهي قصيدة: "المقهى جريدة". فهذه القصيدة ترسم عالم المقهى، كما ترسم الفضاء الافتراضي ولكن الحقيقي في آن معاً للشخوص الذي ترتاده يوماً بعد يوم، بما فيهم الكاتب المدعو شربل داغر. فللمقهى فضاء افتراضي، إذ يأتي رواده إليه في تمثل مختلف لحياتهم، ولرغباتهم في الحياة. المقهى هو أشبه بمسرحهم، بمنصة عروضهم المتبدلة والمشتهاة. وهذا ما يمكن أن تجده في فضاءات قصائد أخرى.
* وأين تضع نفسك وسط من تتحدث عنهم؟
- أنا حيث لا تجدني إذ تطلب تفقدي أو البحث عني. وهو السبب الدفين الذي دفعني في اتجاه هذا النوع من القصيدة الذي أجترحه. فأنا لطالما انتقدت في القصيدة العربية تحكمَ الشاعر بها، إذ يكتبها بوصفه خطيبها، أو الناطق فيها بوصفه المالك الحصري لها. هكذا وجدت في هذه الصيغة التي أقترحها حلاً فنياً وعملياً أيضاً للقصيدة التي أطلب، وهي قصيدة لا تتعين في متكلم واحد، وإنما في عدة متكلمين. فضلاً عن أنني أوجدت في هذين النصين المطولين متكلماً هو: ش. د.، أي من يحمل الحرفين الأولين من اسمي الأول ومن اسم عائلتي، ما يصعب أو يبطل إمكانية نسبة باقي الكلام الشعري إلى ش. د.، أو إلي بشكل صريح.
* إلا أنك في ذلك تخرج من القصيدة، أليس كذلك؟
- أخرج منها فعلاً إلى فضاء مختلف هو الفضاء الذي يتكشف في مدى النص، وفي سياقات مادية وديكورية معينة. بل أخرج من القصيدة، ومن المسرحة، إلى خارج الشعر نفسه. قد تكون كتابتي لهذين النصين شكلاً من أشكال خروجي إلى الشارع، إلى التموقع في عدد من مسائله. فهذان النصان يدوران حول الموت المتعدد الأشكال، وحول العنف الماثل في حوار الناس والدال على اقتتال أهلي...
هذا قد يعين شكلي في أن أتدخل فيما يتعدى نطاقي الخاص ويشملني.
* ألا يظهر هذا كذلك منذ عنوان هذه المجموعة الذي يقوم على المناداة؟
- فعلاً. مجموعتي هذه تختلف في عنوانها عما كانت عليه عناوين مجموعاتي السابقة. فأنا لأول مرة لا أستعمل جملة اسمية للعنوان بل جملة فعلية. كما إنني لا أستعمل ألفاظاً أو تراكيب لفظية قديمة، مثل "رشم" و"حاطب ليل" و"إعراباً لشكل" وغيرها، فأحملها حمولات جديدة، وإنما أستعمل كلاماً يكاد أن يقترب من الكلام اليومي، بل المباشر. بل يمكن قول المزيد في العنوان الجديد وهو إنه يقوم على جملتين، قد يقولهما أو يتوجه بهما إلى القارئ متكلمان متباينان، أو ربما قال متكلم الجملة الأولى ثم توقف ليستعيدها أو يعدلها أو يستدرك ما سبق أن قاله فيها. وهذا المعنى الأخير يناسب خصوصاً مضمون النصين المطولين اللذين تحدثت عنهما للتو.
* ألهذا صلة بما قدمه الشاعر والمسرحي التونسي سالم اللبان الذي عاد إلى بعض شعرك لمسرحته قبل عام؟
- لا، خاصة وأنني كتبت هذين النصين قبل تجربة اللبان نفسها.
* وماذا تقول في تجربته، وهي ليست الأولى التي تعامل فيها فنانون مع شعرك؟
- هي تجربة مختلفة بمعنى أن المسرح إذ يأتي بكلام القصيدة إليه فعليه أن يحافظ بمعنى ما على اللغوية التعبيرية التي في القصيدة، أما في التشكيل فإنه يسلك سبيلاً مختلفاً، بل أكثر تحرراً وتفلتاً من المسرح نفسه.
هذه التجارب راقت لي، بعيدا عن اهتمامها بشعري نفسه، إذ أوجدت صلات ضمن دائرة المتخيل بين الشعري والبصري.
* إلا أن شعرك لم يقترب من الغناء، أو لم يقترب منه مغنون. لماذا؟
- هذا لا أحسن الجواب عنه، ولن أكلف نفسي الإجابة عنه على أي حال. إلا أنني أعتقد في جميع الأحوال أن غناء الشعر أمر ميسر ومتداول، إلا أنه أقل تحريضاً وإثارة وغنى مما هي عليه علاقة الشعر بالفنون الأخرى.
* هل يمكن القول إنك استفدت من دراستك لعلم الجمال في شعرك؟
- هذا ما لا يمكنني أن أتهرب منه إن طلبت الهرب أو التملص، فكيف وأنا أطلب هذا بل أنادي به. فأنا أرى أن بعض شعرائنا لا يولون قصيدتهم العناية الجمالية المناسبة. كما أرى أن بعض شعرنا يبدو مثل تدوين أعمى لما يسقطه فوق الورق الطباعي، فلا يبنيه واقعاً. هكذا لا ينزل السطر الشعري فوق الورقة نزولاً فنياً أو معمارياً، عدا أن القصيدة تبدو مثل خطبة، لا مثل نص كتابي للقراءة، ولاستعادة القراءة.
* سبق أن لستعملت في هذا الحوار كما في كتابات سابقة لك تعبير: "القصيدة بالنثر". لماذا؟ ماذا تعني؟
- أستعمل هذه التسمية، كما اقترحها، في ترجمة أمينة لما يقوله التركيب الفرنسي الذي تعود إليه هذه التسمية تاريخياً. كما يمكن استعمال تسمية أخرى أكثر استساغة ربما للذائقة العربية، وهي: القصيدة النثرية. طلبت من هذه التسمية شيئاً آخر، إضافياً، وهو أن أولي القصيدة عنايتي وتركيزي. فكتابة هذه القصيدة لا تعني، في حسابي، الذهاب بالقصيدة إلى النثر، بل الإتيان بالنثر إليها. هذا ما حاوله غيري، وهذا ما أسعى إليه معدداً وممتحناً قدرات النثر المتنوعة في أن يكون شعرياً.
* إلا أن البعض يرى بأن قصيدة النثر لم تصل بعد إلى أن تكون ما يشبه الملامح العامة لها. هل أنت مع من يرون ضرورة لحدوث ذلك أم أنك مع أن تكون لكل قصيدة جمالياتها؟
- هذه القصيدة ما حظيت بعد بما يناسبها من درس فني وتاريخي لها. وهذا يعود إلى عدة أسباب، منها أن المنظور العروضي يتحكم بالمنظور النقدي حتى عند نقاد يخالون أنفسهم قريبين أو مدركين لطبيعة هذه القصيدة المختلفة. والسبب الآخر يعود إلى كون هذه القصيدة قابلة لتشكيلات متباينة، قد تستجمع في القصيدة الواحدة الشيء وعكسه، مثل التركيز والتمطيط، والجملة القصيرة مثل الجملة المطولة، والموسقة مثل تدافع الكلام المتلاطم... هذا ما يصعب من دراستها، إذ أن على الناقد أن يبني القاعدة ثم لا يلبث أن يتأكد من بطلانها، أو من تعدلها أو تغيرها. لهذا سبق أن كتبت بأن القصيدة بالنثر، أو القصيدة النثرية، ليست شكلاً شعرياً، وإنما هي ميدان شعري، وهو مفتوح على احتمالات تركيب متعددة.
وهذا يعني أن علينا أن نعاين هذه القصيدة في تحققها النصي، الذي قد يحمل مقادير من التشابه والتتابع لدى شاعر أو في إحدى مجموعاته، وقد يحمل انتقالات وتبدلات ضمن القصيدة الواحدة. ولو شئت تقريب الصورة لقلت بأن هذا هو ما يحصل تماماً في الفن الحديث، حيث تجد مثل هذه التشكيلات المتكررة أو المتباينة في معرض واحد لفنان.
لهذا لا أبالغ في القول إن قلت بأن هذه القصيدة هي أغنى بكثير مما تبدو عليه في النقد.
ولهذا وجب على النقد أن يعاينها كما تظهر، كما تتعين، لا أن ينزل عليها، إذا جاز التعبير، بعدة جاهزة، فتبدو عصية عليه أو متمنعة.
- تكتب الشعر، تمارس الترجمة وتكتب في تاريخ الفن وجمالياته. كيف توفق بين هذه كلها؟
- هذا بيتي، وله غرف كثيرة فعلاً. هكذا أقيم في ما أوثث له، عدا أنني أستقبل غيري فيه. هكذا وجدت في الكتابة ما يلبي نهمي وفضولي، سواء في الشعر أو في المعرفة. وأنا لا يكفيني الحديث عن غرف وإنما الحديث خصوصاً عن الممرات الواقعة بينها، وعن النوافذ التي فيها. فهذه الممرات تقيم علاقات وصل وفصل، هي التي بين صنوف الكتابة المختلفة التي أتدبرها. فترجماتي لا تعدو كونها غرفة خلفية لشعري نفسه، حيث أنني ترجمت لشعراء عرفتهم وأحببتهم، ولشعراء طلبت تملكهم عبر الترجمة. هذا ما يجعل التلصص نوعاً من السكنى الأليفة إذا جاز القول. وهذا ما يمكن أن أقوله في دراساتي الأدبية أو الفنية إذ أنني بنيت لها مقاربات منهجية وإجرائية، تصلح لهذا الميدان كما لذاك.
كما وجب التنبه في بيتي هذا إلى أن له نوافذ عديدة، تفضي إلى خارجه، من جهة، كما تفضي نافذة فيه إلى غرفتين وفي آن معاً. فأنا حين أقول في قصيدة: "أكتب إذ أرى"، أتلصص كذلك إلى ما أجريه من درس في الغرفة المجاورة.
("أخبار الأدب"، القاهرة، 18 آذار-مارس 2007).