مع شادي صلاح الدين : للحداثة سياقات ملزمة
يبدو الشاعر اللبناني شربل داغر في كتاباته مغريا بالنقاش والتلقي، بالإعجاب والصدام في آن لأنه من الشعراء اليقظين، الباحثين عن انتصارات داخل اللغة ونجاحات للحدس الشعري واكتشافات في حقل التفكير.
ولا ينسي داغر أنه ممارس محترف للنقد الأدبي وأن له اسهامه في نقد الشعرية العربية، لذا، فهو يقبل على قارئه بعدته النقدية حتى في موضع انشائه شعرا، فيفصح عن موقفه من الشعر والكتابة وكأنه يسوق قارئه إلى طريقته في النظر إلى الأشياء وبناء القصيدة، أو كأنما يبرر لقارئه ما اقترفه من لعب ومعمار، أو لنقل: ربما يصيح في وجه قارئه كالشرطي: أنا أقبض عليك بحكم سلطتي اللغوية وبفضل عدتي النقدية وهما بياني ومصدر حجتي، وقد يبدو شربل داغر خلافا لكل ذلك مدافعا عن طريقته في القول ومنافحا عن بيته اللغوي بسياج نقدي يمكن تجاوزه اذا اهتدينا الى المدخل حيث تجد الممر إلى القصائد والعناوين وما بينهما من فراغ مسكوت عنه.
داغر صدر له من قبل دواوين “لاتبحث عن معنى” و”إعرابا لشكل” و“فتات البياض“ و”تخت شرقي“، و”رشم“، و”حاطب ليل“. في هذا الحوار تحدث داغر عن همومه النظرية، والحداثة الشعرية العربية، والميزان الجديد الذي ينبغي على النقاد اعتماده، وجرأته اللغوية ،وحرصه على العربية في ذات الوقت، وعدد من القضايا الأخرى.
• ماذا قدمت التجارب الشعرية العربية؟
- الجواب على هذا السؤال طويل ومعقد وشائك وعلى مقادير من الوضوح والغموض في آن معا، لأن الحداثة أعينها منذ منتصف القرن التاسع عشر في الشعر العربي‘ ولا أعينها بعد ذلك في منتصف القرن العشرين، إذ أنني أنظر إلى الشعر العربي – في عصر النهضة تحديدا – على أنه حمل مقادير من التطوير لا نوليها أبدا العناية الكافية ، وهذا يتمثل أولا في عدد من المضامين الشعرية الجديدة التي تشير بشكل خاص إلى علاقة جديدة بات ينشئها الشاعر مع موضوعات الشعر ، وهي علاقة باتت تتعين في متابعة الشعر لحركة الزمن، والعلاقة مع الزمن أعتبرها السمة الأساسية للحداثة أو لدخول القصيدة في نمط جديد هو النمط الحداثي ،هناك تغيرات حصلت في المسألة المتصلة بالوزن وبالقافية وهذا ما يتعين أيضا في ظهور ما أسميه المجموعة الشعرية ، فنحن منذ العام 1858 مع الشاعر اللبناني خليل الخوري بدأنا نتعرف على شيء جديد هو المجموعة الشعرية، وليس على الديوان الشعري الجامع لشعر شاعر .
من جهة أخرى، الحديث عن الحداثة حديث يحتاج إلى مراجعة قد تصل بالتجارب الشعرية العربية في مختلف البلدان العربية، حيث إن لها وتائر مختلفة، فما عايشه بلد أو عايشته مجموعة شعرية في بلد يختلف زمنا وفنا عما عاشه بلد وتجربة فنية أخرى، وبالتالي يصعب درس الحداثة الشعرية في العالم العربي بشكل عام وإجمالي، ويصعب درس ذلك من دون درس السياقات التاريخية المتبدلة والمتباينة بين بلد وآخر .
هناك أيضا مقادير من الوضوح والغموض في الإجابة عن هذا السؤال تتصل بمستويات القصيدة الحداثية، ومدى نجاحاتها في هذا الأمر أو ذاك ، كل أمر من أمورها، وكل مستوى من مستويات بنائها يحتاج في حد ذاته إلى تتبع ومعاينة، وتوصل بقدر أو بآخر إلى حكم ما.
إلا أنني في الإجمال أرى أن تطور الحداثة في الشعر العربي يتصل بمفارقة أساسية وهي أنه لجهة الأشكال البنائية والتجديدات والتنويعات البنائية حصل هناك تطور كبير، وتغير كبير أيضا، فقصيدتنا العربية مختلفة بصورة كبيرة عما كان عليه الشعر العربي قبل مائتي سنة، فكيف قبل ألف سنة؟ ولكن هذا التطور البنائي على مستوى الأشكال والأدوات، أجد أنه لا يتناسب تماما مع الصوت الشعري في القصيدة العربية الحديثة، فالصوت الشعري في القصيدة العربية الحديثة يكاد يكون أو يذكر أو يستعيد بعضا من دور الشاعر القديم، من دور ناطق القبيلة، من دور الشاعر الفحل، من دور الشاعر الذي يتكهن بما هو عليه الغيب‘ إلى غير ذلك، يعني هو شاعر مشدود بمعنى ما إلى وظيفة قديمة وتقليدية - على ما أظن– في الشعر العربي القديم.
• هل المسألة تقنية أم وعي له أبعاد اجتماعية؟
- هي هذا وذاك، مثل التمييز بين أن تشتري سيارة، وأن تصنع سيارة، بين أن تستهلك وتستعمل، وبين أن ترى نموذجا غربيا فتدرسه وتتأثر به، وتحاول أن تتمثله، أو تنسج على منواله، أو تنطلق ابتداء منه صوب تجارب جديدة تمثلك وتمثل وعيك، ورؤيتك للعالم، حيثيتك تجاه الكائنات والأشياء، وتمثل موقعك وموقفك من الموضوعات الكبرى التي يشتغل عليها الشعر، وهو وجه من الأوجه التي ذكرت في الجواب السابق، وهو أنه أحيانا لا يتوافر لهذه التقنيات الجديدة نفس شعري موافق لها، أريد أن أستعمل مثالا قد يكون مضخما عما أقصد ولكن لمجرد إظهار الدلالة، أنت تعرف الفيديو على سبيل المثال ، آلة متطورة لم نعرفها قبل ثلاثين أو أربعين سنة، وهذه الآلة المتطورة كان لها أن تطور حاجات الإنسان واستخداماته للصورة وغيرها.
• هل ينفي ذلك وجود ما يمكن تسميته بملامح عامة للشعر الجديد؟
- هناك ملامح عامة للحداثة كما تعينت في أوروبا والغرب عموما، أما كيف وصلت هذه الحداثة إلى بلداننا فوصولها مختلف، وتوقيته مختلف، ودرجة القبول مختلفة، ودرجة الإنتاج انطلاقا من هذه الحداثة مختلفة ،أحيانا تصل الحداثة إلى بلد بشكل مفروض كما حدث في التجارب الاستعمارية، وأحيانا تصل بطلب محلي، مثلما أرسل محمد علي طلابا مصريين للدراسة في معاهد أوروبية، هناك حداثة تتم عبر سياقات متبدلة، بمعنى أن المحلي قد يمانع أو يبدل أو يحور، أو قد يتحمس أو يغالي في حماسته، إزاء هذا الوافد، هناك أشكال قبول لهذا الوافد، وكلها معايير دقيقة لتحديد الحداثة في مجتمع ما.
• هل ترى أن التحديث دائما يرتبط بالوافد؟
- هذا الأمر كان يصح في وقت سابق في بدايات صلتنا بالغرب، ولعل العثمانيين الذين حكموا هذه البلاد كلها فيما عدا المغرب وسلطنة عمان، لعلها أخطأت في امتناعها عن رؤية ما يحدث في أوروبا خاصة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، في هذين القرنين تطورت المعارف والتقنيات والعلوم والوسائل تطورا كبيرا عاشته فئات اجتماعية مختلفة فضلا عن العلماء والفنانين والمهندسين وغيرهم . الحداثة كانت تعبيرا داخليا عن الحراك في هذه المجتمعات، وبالتالي فالحداثة ليست وصفة أو "روشتة" أو درسا يتم حفظه وتنفيذه، الحداثة كانت تعبيرا اجتماعيا بقدر ما هي تعبير إبداعي أو تعبير معرفي عن هذا الحراك العام، لحظة هذا الخطر العثماني كانت مكلفة، بمعنى أننا تعرفنا على الحداثة المنتجة في أوروبا بعد مائتي سنة على الأقل من حصولها، وبالتالي أصبحت وتيرة التطور في أوروبا سباقة كثيرا عما كانت عليه وتيرة التطور في المجتمع العثماني المتعدد، وهذا ما حكم – منذ بداية القرن الثامن عشر وخاصة القرن التاسع عشر – طريقة استقبال الوافد.
لم يكن علينا وقتها أن نتعلم أو أن نتعرف على شيء جديد في أوروبا حصل ويمكننا أن نستفيد منه، كان علينا أن نتعرف أن هذه المجتمعات أصبحت تملك من المعارف والإمكانيات والنفوذ والقوة وإنتاج البضاعات العديدة، بحيث تسبقنا بمقادير واسعة في سلم التطور والتقدم، وأصبح بالتالي إقبالنا على هذه الأشياء أشبه بإقبال الأمي على دروس أستاذ كبير، وبالتالي أصبحت كلفة التقدم توازي كلفة التأخر الذي كان قد حصل، وكلفة التقدم أصبحت تعين في الهضم السريع والاستعمال التقني لهذه المنتجات الحداثية الأوروبية، وهذا بالتالي جعل الحداثة عندنا – الحداثة بمعناها الشامل أي تحديث المجتمع وتحديث الإنسان – فضلا عن تحديث الأدب والفنون- هذا ما جعلنا نشارك في الحداثة ولكن كمن يرتاد عالما مجهولا وجديدا.
• هل كان تجديد الشاعر العباسي أبي تمام في الماضي بتأثير أجنبي أم نتيجة حراك اجتماعي طبيعي؟
- المجتمعات العربية والإسلامية في العصر العباسي كانت حصيلة تطور داخلي في هذه المجتمعات ، أما عمليات التأثير والتبادل فقد حصلت قبل ذلك ، خاصة في صدر الإسلام ، وفي العهد الأموي، وهي حين حصلت كان العرب يقودون هذه الامبراطورية الناشئة، كانوا في موقع القدرة وموضع التصرف ما جعلهم يأخذون من غيرهم ويوظفون ذلك في نتاجهم الخاص، حيث أتى ذلك تغذية لشجرة كانت نامية وحية، وفي عصر أبي تمام كانت هذه الشجرة قد أثمرت ثمارا كثيرة وهي في عز حيويتها، وبالتالي أصبحت مثالا للاحتذاء والتقليد عند شعوب أخرى، وأشير في ذلك إلى مثل كافٍ في الدلالة وهو أن العرب في بدايات الإسلام أخذوا كثيرا من الفرس، أما بعد مائتين وثلاثمائة سنة من بدء العهد الإسلامي فنرى أن الفرس والشعراء الفرس تأثروا بالشعر العربي، بل أخذوا يقلدون بحوره، ويحتذون بناءه الفني، وهذا التغير كاف في حد ذاته للدلالة على ما أشرت إليه في سؤالك.
• الشعراء كثر لكن لا تكاد تجمع بينهم ملامح مشتركة.. هل التعدد دليل ثراء أم هم مجرد أرقام؟
- الجواب على هذا السؤال موجود فيما أجبت عنه من أسئلة سابقة، طبعا هناك شعر رديء وشعر جيد، والشيء الآخر أن الحداثة تحتمل مقادير من الاختلاف بين شاعر وآخر، وهذا يظهر في الشعر الحديث أكثر مما يظهر في الشعر القديم، يعني في الشعر القديم يمكن أن تميز بين البحتري وبين أبي تمام، بين أبي نواس وبين ابن الرومي إلى آخره، لكن هذه الاختلافات لا توازي في تقديري درجات الاختلاف ضمن الشعر الحديث، هذا لا يعني بالضرورة أن الشعر الحديث أفضل من الشعر القديم، لكن طبيعة القصيدة الحديثة تسمح بمقادير أكثر من التنوع والتعدد، وهذا أيضا ما طلبه الشعراء منها، أي أنهم سعوا إلى طلب التمايز في تجاربهم عن بعضهم البعض.
هناك أمر آخر أيضا علينا أن نوليه أهمية في هذا الشأن، وهو أن الشعر الحديث مثل الفن الحديث ، يقوم في جانب كبير من تجديداته على تجديدات في الفكر أو في علم الجمال، هناك – كما تعلم - تيارات ومذاهب، وهناك رؤى، وهناك مواقف تؤدي إلى هذا النوع أو ذاك من القصيدة الحديثة، هذه الإسهامات الفكرية أوالنظرية لها ما يؤسس على طبيعة وعلى تنويعاتها ، إذ إنها تتجدد بتجدد وتغير الاستلهامات النظرية.
وأريد أن أشير إلى أمر ثالث وأخير وهو ما أسميه الحساسية الفردية للشاعر، الشاعر الحديث هو شاعر له حساسية فردية متمايزة في حسها وفي تقديمها وفي نبرتها، وهذا ما لم يكن متوافرا أو مطلوبا بدرجة ما من الشاعر القديم.
الشاعر القديم كان يمتاز عن زميله بتجديد في المعاني، أو في طريقة للتركيب كما كان لدى أبي تمام، أما في الشعر الحديث، فأنت حين تتكلم عن حساسية فردية، فالحساسية الفردية – في حد ذاتها – نظرة مختلفة ونبرة خاصة، وبالتالي كل من يصدر ويعبر عن هذه النبرة الخاصة هو بالضرورة مختلف ومتعدد ومتنوع، ولا يشبه غيره، ولكن مع إقراري بكل هذا وتشديدي عليه، هذا لا يجنبني، بل يدعوني إلى الانتباه إلى أن هناك محددات عامة تتحكم بالقصيدة الحديثة.
• هل هناك مرجعية يمكن أن يعود إليها الشعراء، بمعنى أن أبا تمام جدد في القصيدة لكن لم يختلف أحد على كونه شاعرا وقد اختلفوا على قيمته؟
- ما تقوله صحيح، بمعنى أن الشعر العربي القديم كان له عمود شعري، وكانت له ذائقة فنية وجمالية يحتكم إليها، وتقاس بها شعرية أو فنية هذه القصيدة أو تلك، وهذا الأمر تغير في الشعر العربي الحديث، بمعنى أنه لم يعد هناك لا عمود ولا ذائقة، ولم يعد هناك قانون واحد، بل عدة قواعد، وأنا أميز بين القانون والقاعدة، القانون يقتضي وجود إجماع ورضا الجماعة بما فيها من شعراء ونقاد ومتذوقين، أما القواعد فلها سلطة مرجعية أقل من القانون، وهي تتوزع وتلتقي وتتباين بين حساسية شعرية وحساسية أخرى. وسبق لي في عدد من دراساتي أن تناولت هذه القضية، بمعنى أنني تحدثت أولا بأن الشعرية العربية القديمة كانت تتميز بما أسميه «الواحدية التمامية» أو وجود قانون واحد للقصيدة، وأن هذا القانون يقوم على تمام الصورة الفنية والجمالية، أي أنه لا يسمح بعطب أو تشوه في الصورة، بمعنى أن صورة الجمال وصورة الفن قديما هي صورة مثالية، وتطلب التمام، أي النقاء والاكتمال، أما في عصرنا الحديث – بما فيه الشعر الحديث – فقد تغير الأمر، بمعنى أن الشاعر الذي أصبح يتحكم بنظام القصيدة، ولم يعد هو الذي يتقيد بالنظام والعمود والقانون، ويسعى إلى الإجادة والتميز ضمن شروط هذا القانون والعمود والنظام، وبتعبير آخر بات النظام يبتدئ من الشاعر، أي من تصرفه وتحكمه وتفننه واختياراته ضمن مجموعة من الأساليب والطرق البنائية للقصيدة، طبعا هذا لا يعني أن الشاعر يؤسس من فراغ، ولا أنه يبتدئ من فراغ، وإنما يعني أن الشاعر باتت له قدرة على التصرف وعلى التلاعب كبيرة جدا، وهي قدرات قد تصل بالقصيدة إلى شطط ولا معنى، وأشياء غير فنية، وغير موفقة بالضرورة، لكن الشاعر الجيد هو الذي يحسن الإمساك بهذا الميزان، والشاعر الرديء هو من يفسد العملية كلها، ويجعل من الحرية فوضى، ويجعل من الجمال شيئا رديئا.
• هل يمكن الاعتماد بشكل نهائي على مقولة الجاحظ من أن المعاني مطروحة في الطريق ، وأن الذي يصنع التمايز هو قدرتك على صياغتها بشكل مختلف عن الآخرين ؟
- لي قصيدة طويلة بعنوان «الشارع»، وقد صدرتها بالقول الذي أشرت إليه للجاحظ، وكنت أريد أن أشير من طرف خفي ومن طرف صريح أيضا إلى العلاقة بالشارع، فالشارع هو أيضا يربينا مثلما يفعل الوالد والوالدة والمدرسة، والمعاني هي مطروحة في الشارع، ولكن الأساس يبقى وهو كيف نحسن وهل نحسن توظيف ما نقع عليه، أو ما يصادفنا في الشارع وفي الطريق، بمعنى أن المهم ليس ما نقول ولكن المهم كيف نقول، ليس المهم أن تقول ماذا تكتب ولكن المهم أن تقول كيف تكتب، وبالتالي ليس المهم ما أجده في الشارع، ولكن المهم كيف أبني هذا، وهنا أكون أمينا لفكرة الجاحظ وهي أولوية البناء في العملية الإبداعية على المادة التي يتشكل منها الإبداع، لأنه لماذا يختلف الشاعر عن غيره إن لم يكن باستعماله الخاص والمبتكر لما هو موجود أو متكرر أو متوارد بين بقية البشر، لماذا يختلف إذن وردة فان جوخ أو وجه بيكاسو عن الوجه الفلاني أو الوردة الفلانية إن لم يكن بالمعالجة الفنية التي يختص بها فان جوخ أو بيكاسو، أي أن تناول الشاعر لمواده الفنية ومعالجاته هي التي تظهر قدرة الشاعر وتميزه، وفي هذا المجال يعمل الشعراء على تمييز أساليبهم، وعلى اقتراح أشياء فنية متبدلة بين هذا الشاعر وذاك.
وهذا ما يمكن أن تلقاه عند مصممي الأزياء على سبيل المثال، وعند مصممي الديكور، هذه من شروط الإنتاج وخاصة الإنتاج الفني حيث يتم التأكيد والطلب على تمييز الفنان لفنه وصناعته عن فن وصناعة غيره.
• بالنسبة لك ، ما الذي يتحكم باختيار مفردات عالمك الشعري؟
- أنا في هذا الأمر أتعامل مع اللغة العربية من دون تهيب، وبحرص شديد في الوقت نفسه، وقد يبدو كلامي متناقضا، لكنني أوضح أنني أتعامل مع اللغة من دون تهيب بمعنى أنني أعتبر اللغة العربية بتصرفي، أفعل بها ما أريد وما أشاء من دون أي رقابة، ومن دون أي تحيز لقسم دون قسم في هذه اللغة، فليست عندي ألفاظ مألوفة وأخرى غير مألوفة ، وليس عندي لفظ يمكنني أن أستعمله ولفظ لا يمكنني أن أستعمله، وبهذا المعنى تجد في شعري أحيانا ألفاظا من العامية، أو ألفاظا من لغات قديمة أو أجنبية، المهم هو كيف تندرج هذه الألفاظ في مواضعها أو كيف تنتظم مثل فكرة النظم عند عبد القاهر الجرجاني، حيث إن موقعها من التركيب هو ما يحدد فنيتها وجماليتها، وفي هذا المجال وبهذه الطريقة أنا أعتبر نفسي شاعرا شديد الحرص على العربية، بمعنى أنني أوظفها كلها ، وحين أتحدث عن الحرص أتحدث عن بعض استعمالاتي الجديدة في اللغة العربية. حدث لي سواء في الشعر أو الكتابة التنظيرية للشعر أن استعملت ألفاظا ليست موجودة في اللغة العربية، بمعنى أنني تحدثت عن «محاسسة» في عنوان إحدى قصائدي، وهذا اللفظ لا تجده في اللغة العربية، إنما صيغته الصرفية موجودة، وتتيحها العربية. تحدثت في إحدى مجموعاتي الشعرية عن «الارتغاب»، وهذا اللفظ أيضا غير موجود، لكن اللغة العربية تقبله وتتيحه، وتحدثت عن «تلاذذ»، وهو من هذا السياق، وهذا يعني أنني حريص على اللغة العربية ولي طريقتي الخاصة في الحرص عليها وهي أن أجدد فيها ما استطعت.
(جريدة "المدينة"، السعودية، 11 نيسان-أبريل 2007).