مع "الخليج" الثقافي :
استعنت للقصيدة بالشاشة الإلكترونية


الشاعر اللبناني شربل داغر، أحد أبرز شعراء جيل سبعينات القرن الماضي، وله عدد من الدراسات النقدية والمجموعات الشعرية، وقد حصل على الدكتوراه من جامعة السوربون، ويعمل حالياً أستاذاً للأدب العربي في إحدى الجامعات اللبنانية، وقدم أكثر من ثلاثين مؤلفاً في الشعر والأدب والنقد والترجمة، منها في الشعر: "تخت شرقي"، "حاطب ليل"، وصدر له حديثاً ديوان "لا تبحث عن معنى لعله يلقاك"، عن "دار شرقيات" في القاهرة.
* صدر لك حديثا ديوان "لا تبحث عن معنى لعله يلقاك": العنوان إشكالي يمكن قراءته بأكثر من طريقة حيث يتألف من جملتين متعالقتين. ماذا عنه؟
- هذا العنوان جديد إذا ما قورن بعناوين مجموعاتي الشعرية، إذ انني أستعمل الجملة بدلا من التركيب اللفظي، وأستعمل للمرة الأولى جملتين نحويتين في العنوان. السمة الثانية لهذا العنوان أنه لا يقوم على استعادة ألفاظ قديمة وتحميلها حمولات جديدة، وانما يمتاز هذا العنوان بألفاظ بسيطة بل بقدر من المباشرة في بنائها. والسمة الثالثة في العنوان هو أنه يقوم على جملتين ربما على قولين لمتكلمين مختلفين أو لمتكلم واحد أطلق الجملة الأولى، ثم استدرك فأطلق الجملة الثانية. وهذا الأمر يناسب طبيعة هذه المجموعة الشعرية من الناحية الأسلوبية، حيث تتميز عما سبقها بكونها تقوم على عملين شعريين مطولين ينبنيآن وفق أقوال يقولها متكلمون أو كائنات أخرى مثل الشجرة أو المقعد وغيرهما. كما يشير هذا العنوان إلى رغبة في القول، في التموقع، كما لو أن القصيدة تريد أن تخرج من نطاقها إلى خارجها. ذلك أن هذه المجموعة تندرج في سياقات مكانية وزمانية، وليست قصيدة الانفراد بالنفس التي تستجلب الخارج إليها. هنا القصيدة تفضي على خارجها، بل تنبني في أمكنة بين متكلمين ينشغلون بتوليد معاني لقائهم حول تابوت على سبيل المثال، أو حول رسالة مطوية يتناقلونها من دون أن يتبينوا مضمونها وما إذا كانت تشتمل على كتابة أو علامات.
* اعتمدت في كتابة الديوان تقنيات الكتابة المسرحية: لماذا؟
- لم أقصد ولم أطلب كتابة المسرحية الشعرية. طموحي تمثل في مسعى آخر، وهو الإتيان بوسائل من خارج القصيدة إليها. وهذا ما تمثل في استعمال بعض تقنيات المسرح من متكلمين وديكور وشيء من حبكة حوارية. ولكني أشير أيضا إلى أنني استعنت بالشاشة الإلكترونية، فضلاً عن الهاتف النقال، وغيرهما من وسائل الاتصال الحديثة. وأردت من هذا كله التحقق من إمكانية استيعاب القصيدة لأدوات وتقنيات من خارجها، وتطويعها بحيث تؤدي وظائف غير وظائفها المعتادة، وهي الوظائف الشعرية. طبعا في إمكان رجل المسرح أن يقول إن في هذا العمل مقومات العمل المسرحي وهذا لا أنفيه، ولكني أقصد توسعة فضاء القصيدة وتمكينها من العبور بطرق أخرى غير الغناء والكلام الوجداني. ولقد عملت على إيجاد صيغة عملية لكسر امتلاك الشاعر بل المتكلم في قصيدته للقصيدة. فأنا حين أكتب مثل هذا النوع من الشعر لن يلقاني القارئ فيه، وإذا كان له أن يلقاني فأنا موزع فيه. فكيف إذا كان هناك متكلم في النص الحرفان الأولان من اسمه الأول والعائلي هما الحرفان الأولان من اسمي الأول واسم عائلتي. هذا ما سيصعب على القارئ والدارس من أن يجدني ويعينني في متكلم وفي قول ملزم لي. وهذا يحقق لي مطلبا قديما عملت عليه في نقد الشعر، وهو نقدي للأنوية المتضخمة التي يظهرها الشاعر العربي الحديث في قصيدته.
* ألم تخشَ المغامرة بهذا الأسلوب في كتابتك الشعرية؟
- في هذا مغامرة أكيدة وغير مضمونة، بل فيه مخاطرة في تجريب الكلام تجريبات قد تطيح بما هو شعري فيه. فأنت حين تنزل الكلام الشعري إلى كلام المحاورة ينبغي أن يكون الكلام الشعري كلاماً حقيقياً. وأنت حين توزع القصيدة في أوضاع وأحوال ومتكلمين تعرض القصيدة لنوع من أنواع التشتت وربما البلبلة. وهذه وغيرها مخاطرة أكيدة ما انتبهت إليها جدياً الا بعد الخروج منها. ولكن - كما تعلم - للمخاطرة لذتها ومخاوفها التي تحرك النفس وتجعل أشباحها النائمة والمخيفة تستيقظ أو تظهر كما يظهر لك في الحلم وجه قديم أو آخر غير معروف. وفي ذلك نوع من اللذة الممزوجة بالخوف. ولعل هذه اللذة هي التي حركتني بهذا اليسر في زمن قصير للغاية.
* هاجس الموت له حضور قوي في المجموعة: لماذا؟
- طبعا الموت تبدأ به المجموعة وتنتهي به. في العمل الشعري الأول، "جثة شهية"، هناك جثة تعترض القصيدة وتنبني عليها دورة المعاني. وفي العمل الأخير في المجموعة يتضح العنف بين المتكلمين، حيث لا قدرة لهم حتى على التواصل، وما هو في مقدورهم يتمثل في مساعي المماحكة والمخادعة وغيرهما مما يشير الى أنواع من الميتات الرمزية على الأقل.
والموت هو الصورة الأليفة العربية اليوم من فلسطين إلى لبنان مرورا بالعراق وغيرها. وهو موت يكاد يكون أهليا قبل أن يكون موتاً وطنياً. ويمكن أن تنسحب صورة الموت حتى على العالم، حيث ان ما وعدنا به البعض في مطلع التسعينيات من نهاية الأيديولوجيا الاستبدادية والأنظمة الديكتاتورية، وانتصار الديمقراطية وانتشارها في العالم وغيرها من الشعارات، انهار سريعاً وترتب على ذلك عدم وجود ضوابط وموازين تحد من فلتان العنف.
* أقمت في باريس 18 عاما ثم عدت إلى لبنان: هل تختلف الكتابة في الغربة عنها في الوطن؟
- هذه التجربة كانت تكوينية لي، بل هي تمثل ولادتي الجديدة أو الثانية، وفي باريس. إلا أن هذا يناسب تكويني العقلي أكثر من تكويني النفسي. باريس كانت مدرستي الحقيقية، ولقد كانت مكتباتها خير بيت لي طوال هذه السنوات. ولقد مكنتني هذه الإقامة من إنجاز دراساتي العليا في جامعة السوربون، كما أتاحت لي التعرف والاتصال والمشاركة أحياناً مع أدباء وظواهر وفنانين ما كانت لتتاح لي في أي بلد عربي بلا شك. وعلمتني الغربة الانفراد بالنفس، أي أن أتحقق من كياني من دون جسد الجماعة، وأن أتوصل إلى محاورة نفسي فلا أكون رقما بل ذاتا لها أن تظهر وتنمو وأن يكون لها أساس تستطيع أن تخلد إليه وتستطيب الإقامة فيه. كما علمتني الغربة ضرورة التشدد مع النفس، أي طلب الحزم والمعرفة والكتابة والابتعاد عن الاستسهال وضعف الحرفة والمراوغات التي تحفل بها الكتابة العربية. واكتشفت أن قوة تلك المجتمعات لا تظهر في قوة اقتصادها وعسكرها فقط وإنما تظهر أيضا في قوة بناء النص وتراكم المعرفة.
* هل تسلل جزء من سيرتك الذاتية إلى الديوان؟
- طبعا هناك أكثر من تسلل، هناك رغبة في القول يتكفل بها المتكلم ويتحدث فيها عن طفولته على سبيل المثال، أو عن سكناه في مقهى. فهناك قصيدتان في المجموعة، واحدة بعنوان "وليمة قمر" أحاول فيها أن أعود شعرياً الى أمكنة وصور الشيطنة في القرية التي ولدت فيها بعين تنظر الى الصور القديمة من دون التنكر لما صارت إليه. وهناك قصيدة أخرى بعنوان "المقهى جريدة"، وهي قصيدة تشير وتتموضع في المقهى، في أحواله وشخصياته وأحداثه، وأتلمس في هذه القصيدة حقيقة الإنسان بما هو إنسان راغب وطامع وحالم وغيرها من الصفات والمطالب الخصوصية التي تتجلى في فضاء المقهى أكثر مما تتجلى في البيت أو المكتب أو غيرهما. هي قصيدة تتحدث عن عالم الإنسان الافتراضي الذي يتحول إلى مجتمع حقيقي لفترات قصيرة، وهي فترات المتعة والتخلي عن العادات المتكررة واكتشاف الآخر والتعارف.
* في مقدمة كتابك “حاطب ليل” أبطلت فكرة أن المقدمة هي عتبة الديوان، لماذا؟
- وجدت هذا غير مقنع، ولا يمنع الناقد والدارس من أن يقول هذه تؤدي إلى هذا، وليس عندي جواب سري أخفيه، ولكن عندي فكرة خاصة بي أعرضها عليكم.
* اذاً لماذا تكتب مقدمات كتبك ودواوينك بنفسك؟
- النظرية لا أستسيغها كثيراً، وفي النصوص قدر من التنظير، واشتغال على فكر الشاعر، ولكن هي نصوصي وكتبت عنها كما لو أنها كواليس القصيدة، فهي بمعنى ما دفتري الخاص والحميم في الشعر ونوع من إراءة القارئ كيف أضع وكيف أكتب في بعض ما أكتب.
* ما سر ولعك بالشاعر ابن الرومي؟
- لو قدر لي عمر طويل سيكون لدي طموح أن أكتب كتاباً عن ابن الرومي، الشاعر العباسي الكبير، لأن شعر هذا الشاعر من أرق ما قرأت في الشعر. هو وبعض شعر أبي فراس الحمداني فيه إظهار لبعض القيم الإنسانية القليلة ليس في الشعر القديم فقط وإنما في الحديث أيضاً. وسوف أسلط الضوء على جوانب من تجربته الشعرية بالمعنى الإنساني... حتى كلامه في الهزل والوصف فيه متعة وزاوية في النظر لا نجدهما الا نادراً في الشعر القديم والحديث أيضاً.
* كيف تختار أفكار قصائدك؟
- الجواب صعب، لأن كتابة القصائد لا تخضع لقانون واحد عندي. فهذه قصيدة تكونت في رسم قصيدة أخرى فانتزعتها منها، وأفردت لها مكاناً خاصاً. وتلك قصيدة وصلتُ إليها من دون أن أقصدها من خلال فكرة أو موضوع أو بوابة محددة، وهي بالتالي أشبه بالقصيدة اللقيا، لا التي أمر عليها حتى أتجول. وهناك قصيدة بدأت كتابتها انطلاقاً من قصد، كأن أكتب عن المقهى أو عن الشارع الذي نشأت فيه في بيروت، إلا أن هذا أشبه بالذريعة والدافع الباطني لكتابة لا تلبث أن تنجلي. وأنا من الشعراء الذين يبنون قصائدهم أثناء كتابتها، وأكون في ذلك الباني والزائر الأول للمكان الذي أتوجه اليه فيما أكوّن أبنيته وأكتشفها في آن.
* والاسم الأدبي؟
- لو كان لي لكنتُ اخترت اسماً فنياً، ولما كنت ظهرت في صورة على أنني الكاتب الذي يقبع وراء هذا الاسم الفني. فما يعنيني من الأدب هو ما أكتبه وليس "أنا" بالمعنى الاجتماعي للكلمة. وأريد من ذلك نوعاً من الفصل بين الاسم الأدبي والاسم الاجتماعي، وذلك لتحرير نفسي وتحرير كتابتي من موجبات وقيود هي ملزمة لي إن جمعت بين اسم العائلة واسمي الأدبي، وبين صورتي الفوتوغرافية وما أكتبه. فأنت حين تبرز أنك الإنسان الفلاني الذي له تلك الهيئة، والذي يعمل في ذلك المكان، والذي يسكن في ذلك الحي، إلى غير ذلك من التعيينات، كلها محددات تجعل الكاتب في هذا الإنسان ملتزماً بها بمعنى من المعاني.
* والغاية من الكتابة؟
- أنا لا أكتب من أجل الوصول إلى مكانة اجتماعية، ولا النفوذ، ولا المنصب. ما أطلبه من الكتابة هو أن تمكنني من أن أقول ما أرغب وما أشاء بأقصى طاقات التخيل والرغبة والتصميم الذي لي.
("الخليج الثقافي"، الشارقة، 12-05-2007).