مع ياسر أبو عون : الألفة مع القارىء عن بُعد

 

طافت كتبه ودواوينه في أكثر من دولة عربية وغربية، وتميزت قصائده بعلامات الحداثة الإبداعية. الشاعر اللبناني شربل داغر من الشعراء الذين تخترقهم التعددية، فهو إضافة إلى كونه شاعراً، ناقد أدبي وفني ومدرِّس للجماليات. لهذا استطاع اختزال الإبداع في مجالات احترافه اللأدبي والفني.
"العرب اليوم" التقته، فتحدث الشاعر داغر عن صلته بالمكان وعن هموم القصيدة، كما دافع عن استخدام المفردات العامية في قصائده:
* ما مدى ارتباط شعرك بالأمكنة والأزمنة التي أحاطت بك خلال مسيرة حياتك؟
- يمكن أن تكون هناك إجابة إيجابية وأخرى سلبية لهذا السؤال، بمعنى أن شعري مرتبط وغير مرتبط بالمكان والزمان. فإذا أُريد من الارتباط الحديثَ عن صلة حدثية واقعية مباشرة، فشعري لا يرتبط بمثل هذه العلاقات. حتى الأمكنة هي حاضرة في شعري، لكن ليس بدرجة من التحديد الشديد. ومع ذلك أنا أعتبر أن الشعر "فعل موقعي"، بمعنى أنه تعبير، في صورة لازمة، عن وقوفي: حيث أقف أرى، وحيث اقف أحس، وحيث أقف اتناول واتلمس ما يحيط بي من مشاهد ومن اوضاع وبشر وغيرها.
بمعنى آخر، لي علاقة متجذرة بامكنة وبزماني الذي أعيش فيه. وللمكان علاقة أيضاً بغربتي وإقامتي في أوروبا ثم عودتي إلى لبنان. هذا ما جعل الصلة بالمكان مميزة بمعنى ما.
إلا أن عودتي لم تكن عودة الحنين إلى المكان الأصلي، بقدر ما كانت عودة من يحاسب ومن يعقد محكمة تطاول الأصول والجذور والأسلاف، وتطاول التربية، وتطاول الإنسان الذي هو أنا كما اصبحت عليه. وهذا الأمر يصح أيضاً في علاقتي بالزمن: فالزمن يتعين في ما أشعر به، في ما أحس به، في لحظة حاضرة هي لحظة كتابة القصيدة، وإن كنت أتحدث ربما عن علاقة بالماضي والطفولة، وبمسارح خُلعت من أماكنها، وبصورٍ بقيت في الذاكرة... إذ أنك بمجرد أن تستعيدها هذه كلها فأنت تستعيدها بنبض الحاضر، وبإحساس من يحتاج إلى هذه اللحظة، ومن يتوجب عليه أن يعود إليها بالضرورة.
* شربل داغر هل يكتب شعره بهمه الخاص أم أن قصائده هي مرآة للهم العام؟
-هذه الجدلية التي أقامها البعض من نقاد وشعراء بين الخاص والعام لا أقر بها، بمعنى أنني أعتبر الشعر تعبيراً فردياً، ومسؤوليته فردي، أي ان ما يظهر فيه من اهتمامات وشواغل وآمال وخيبات ذات صلة بأوضاع عامة هي قبل كل شيء تعبيري أنا عن عيشي في هذا الوجود بالذات، وهو تعبير يخصني ويعنيني وأحاسب نفسي عليه وأغبط نفسي عليه. بهذا المعنى لا أعتبر نفسي، لا منشداً في جوقة، ولا خطيباً في حفل، ولا موجهاً في تظاهرة. أنا شاعر، أستحضر غيري عندما أكتب، لأنني إنسان يعيش مع غيره، ويتفاعل مع غيره. وكل ما أتمناه من القصيدة هو أن يجد القارئ فيها ما يحاوره وما يربطه بكلام، بتواصل، وتفاعل، بيني وبينه.
هذه الألفة عن بعد ترضيني وتجعل من وحشة الشعر التي أعيشها مكاناً دافئاً.
* أشرت في حديثك إلى أنك لست منشدا" في جوقة، ولا خطيباً في حفل، فهل تعتقد بأن من متطلبات القصيدة الحديثة انصراف القارىء إلى قراءتها منفرداً لا في حفل؟
- أشكرك على طرح هذا السؤال، ولا أخفيك القول إنني قلما اقرأ الشعر، وإن كان من استثناء فهو ما يحصل لي في بلدكم العزيز. أنا أشارك في مهرجانات وفي لقاءات حول الشعر منذ خمس وعشرين سنة على الأقل، ولو أحصيت عدد المرات التي ألقيت فيها قصائدي، لما تعدت أربع أو خمس مرات... السبب بسيط، وهو، أولاً، أن قصيدتي - على ما أعتقد وعلى ما أدافع أيضاً - تصلح للقراءة أكثر مما تصلح للسماع، إذ أن بناءها في المقام الأول يقوم على أسس يحتاج القارئ أكثر من المستمع إلى الانتباه إليها، إذ أن للقصيدة عندي معماراً وهيئة بصرية. فالنقطة االفاصلة لها دور في قصيدتي، على سبيل المثال، فكيف لها أن تصل حين ألقي القصيدة؟ مثال آخر: أستعمل السطر الاول من القصيدة، في عدد من قصائدي، بوصفه عنواناً لها وسطراً أولاً فيها: فكيف لي أن ابلغ هذا إلى المستمع؟ هناك أيضاً فسحات في القصيدة تقع بين السطر والسطر، بين المقطع والمقطع، وهذه أمور لا تبلغ المستمع. وهذا يشمل أيضاً مبنى القصيدة بمعنى أنه يقوم على الكتابة وليس على الشفوية التي تستدعي الإلقاء والاستماع.
وهنالك أمر آخر ظريف أريد أن أذكره: أنا أحياناً لا أُحرِّك بعض الألفاظ في سطر بعينه، ما يجعل المعنى مختلفاً ومتعدداً في آن... أتركها بدون تحريك، وهذا ما ينتبه إليه المترجم، وهذا ما حصل لي أكثر من مرة حيث أن المترجمين اتصلوا بي وطلبوا مني إيضاحاً لذلك...
وقصيدتي تقوم على قدر من التكثيف البنائي، ولا تقوم - مثلما يقوم شعر غيري - على نوع من الوجدانية العاطفية التي تشبه نوعاً من الدندنة الموسيقية التي ربطت لفترة طويلة من الزمن الشعر بالغناء. أنا لا أنتمي إلى هذا النوع، بل أنتسب الى غيره، وطموحي ورغبتي هي أن يكون هنالك قارئ يمسك بالكتاب ويقرأ القصيدة ويتوقف فيها ويعود إليها، لا أن يكون مستمعاً لجوقة أو في حفل غنائي أو موسيقي، ويطرب للجملة قبل ان تصل إلى خاتمتها.
أنا اتمنى وأريد من القارئ أن تكون له مفأجات بالمعنى السار... مفاجآت جمالية بالقصيدة حين يتقدم من لفظ إلى آخر، ومن جملة إلى اخرى، بما يؤدي إلى قراءة يقظة، من جهة، ويتولد فيها الانفعال من معايشة وتكرار قراءة القصيدة الواحدة، من جهة ثانية.
* استخدام الألفاظ العامية أهو من المحببات في لغة قصائدك؟ وما مدى ضرورة استخدامها؟
- هذه مشكلة مطروحة في الرواية والمسرح أكثر منها في الشعر، حيث ان لغة الرواية والمسرحية تقترب من اليوم ومن المحسوس، وهي معرضة بالتالي لأن تجيب عن السؤال: بأي لغة نروي؟ بأي لغة نمسرح؟ أما في الشعر فإن علاقتي باللغة، بين فصيحة وعامية، قد تبدو غريبة للبعض. فلغتي لغة صعبة إذ أستعمل ألفاظاً في الشعر لا يستعملها الشعراء، مثل: "مزوقة" التي يسميها البعض "منمنمة"، ويمكن ان أسرد مئات الالفاظ. وكذلك "رشم"، عنوان إحدى مجموعاتي الشعرية، إذ لا أحد يستعمل هذا اللفظ. كما أستعمل الفاظاً قديمة صعبة خارجة من التداول، فأُعيدها إليه... إلى هذا أستعمل ألفاظاً وعبارات عامية للغاية مثل: "أنط" و"أبعط" وغيرها. هناك، إذن، ألفاظ عامية عديدة أحتفظ بها عند كتابتي للقصيدة، بمعنى انها ألفاظ تأتي من تلقاء نفسها، وأشعر أنها مثل الحجر مع الباني حين يتأكد من أن مكان هذا الحجر فعلا هو حيث حل.
وللكلام العامي لذته حين يرد في مواضعه، بمعنى انه مشبع بالخبرة الحياتية، فيما تكون الألفاظ الفصيحة أحياناً ألفاظاً ميتة، باردة في أحسن الاحوال. فالألفاظ العامية تستحضر معها مناخاً وجواً وإحساساً، وبهذا المعنى أشعر عند استعمالها بنوع من الامتلاء، بنوع من الإصابة، بمعنى أنني عثرت على ما يناسب في هذا الموضع.
ما أريد قوله، وأصل إليه في خلاصة ما، هو أن الشاعر باني لغة، واللغة بتصرفه، وعليه أن يتدبر أمره معها، بما يجعلها، في جملة، في بناء، لغة جمالية، لغة شعرية. نحن في العربية قضينا قروننا نتفاضل في مسألة ما إذا كان هذا اللفظ أو ذاك مأنوساً أم لا، فصيحاً أم لا.
أنا اليوم ما عدت أتحمل ألفاظ الريح والوردة والجرح والمطر لأنها أصبحت ألفاظاً مكرورة في الشعر العربي الحديث، ولها معان مستقرة، قبل أن تدخل القصيدة. المهم أن نجدد حياة الشعر بتجديد حياة اللغة نفسها.
* يشتمل شعرك على شواغل فلسفية بين الذات والآخر: كيف تفسر لنا هذا؟ وهل هناك علاقة بين الفكر والشعر؟
- إن الإنسان حين يتواجد في مكان ما يبني علاقة خاصة به. فهو بالضرورة إنسان متناغم ومتفاعل بين مدركاته وأحاسيسه وأفعاله ورغباته... تستوقفني في أحيان كثيرة أحوال الكتاب والمثقفين، إذ أرى تبايناً شديداً بين خطاباتهم وأقوالهم. فعندما تقرأ كلاماً لمثقف حول الهوية والعولمة والالتزام وحين تقترب من عمله وإنتاجه تراه بعيداً عما يقول في الخطاب، وعما يدعي. هنالك مسافة... هذا يعني ان المثقف والكاتب يتأثران بخطابات لكنها لا تندرج تماماً في شاغل داخلي، ولا تصبح خيطاً في نسيج هو كلية الإنسان. وهذا سببه أننا ننبهر بخطابات وفلسفات وشعارات ونحن في الوقت نفسه مجبولون ببنية تقليدية، هي بنية الولادة الاولى. وهذا ينشئ نوعاً من الانفصام بين الطبيعة التقليدية للكاتب وبين التطلع الحداثوي للخطاب عند هذا الكاتب.
هذا ما أسعى إلى تجنبه، بمعنى انني أسعى في حياتي، في مواقفي، في كتاباتي، في سلوكي الفردي والإنساني والاجتماعي، وفق قيم مرتبطة بتفكيري وكتابتي. فالفكر عندي هو فكر موجود في الشعور بالأشياء والبشر، كما ان الشعور بالأشياء والبشر مرتبط أيضا بالفكر. فليس هنالك انفصال أو قسمة حادة بين هذين العالمين. هذا ما أعتقده وهذا ما اؤمن به.

(جريدة "العرب اليوم"، عَمان، 9-8-2007).