مع عزيزة علي : ولادتي الثانية ثقافية

 

*حياتك في فرنسا كيف ومتى بدأت؟
- لم اذهب إلى فرنسا بقرار طبيعي، فقد اضطررت لترك لبنان في العام 1976 بسبب مضايقات وتهديدات سياسية، طالتني في تلك الفترة.
وقد وصلت إلى فرنسا واضطررت للبقاء فيها وللتسجيل في شهادة الدكتوراه. فلم يكن متاحاً لأجنبي في ذلك الوقت الإقامة من دون عمل، ولذلك كان السبيل الوحيد للبقاء في فرنسا هو ان أباشر الدراسة الجامعية. وهذا ما أقدمت عليه، وأثناء الدراسة عملت في مجال الصحافة.
وقد دامت إقامتي في باريس 18 عاما. وأنا إذ غادرت لبنان كنت انوي العودة اليه، لكن إقامتي طالت بسبب استمرار الأوضاع العنيفة هناك. وعندما توفر الظرف المناسب للعودة حزمت حقائب العودة مع عائلتي وعدت.
هذه الإقامة الاضطرارية وغير التلقائية كانت لها تأثيرات قوية في حياتي، وكتاباتي، وثقافتي، وإحساسي بالعالم، وعلاقاتي بالبشر، إذ انها أعادت تكويني من جديد.
ففي باريس شاهدت ولادتي الثانية الاختيارية، وهي ولادة ثقافية أكثر منها انفعالية أو وجدانية. بمعنى أنني في باريس جلست في الصف الدراسي من جديد، وربما للمرة الأولى. فانا بخلاف ما يظنه البعض درست ونجحت حتى تخرجت في لبنان من دون ان ابذل جهدا كبيرا في الدراسة. فلم أكن طالباً مجتهداً، لا بل قضيت قسماً كبيراً من سنواتي الدراسية في الإضرابات وأعمال أخرى لا تتصل مطلقا بالدراسة المنتظمة. لذلك أعتبر أنني في باريس تعلمت، ودرست، وفيها أعدت النظر في عدد من المصادر والمكونات الثقافية التي بنتني وأعدت النظر فيها بشكل نقدي.
كانت تجربة باريس مهمة حيث مكنتني من أن أتفاعل واطلع على ما فيها، وأقبلت عليها بشغف وفضول كبيرين فيما كان هذا الأمر ليس الأسلوب المتبع من قبل طلاب عرب ومثقفين تعرفت عليهم هناك. بل كنت أقول عنهم إنهم ينظرون إلى فرنسا مثل راكب طائرة ينظر إلى البلد وهو في الجو، وليس في شوارعها ومكتباتها ومقاهيها ومع مثقفيها وندواتها ولقاءاتها وغيرها.
ساعدني كذلك عملي المهني في الصحافة العربية بالمهجر بان تفاعلت علاقتي مع ثقافات اخرى، اذ صرفت مجهودي الأساسي الصحافي والدراسي في التعرف وتقديم الثقافات والفنون الأخرى التي كنت اطلع أو أشارك أحيانا فيها... يزيد من ذلك ان باريس هي واجهة عرض وتقديم لثقافات أخرى غير الثقافة الفرنسية.
لذلك أتحدث عن ولادة ثقافية، وليس عن ولادة انفعالية، على الرغم من أنني عرفت فيها شيئا من الحرية لم أكن اعرفه في السابق.
* كيف استطعت، إذن، التوفيق بين الثقافة الفرنسية والعربية؟
- منذ سنوات الدراسة الأولى كانت لي صلة باللغة الفرنسية. وهذا الأمر لا يخصني بالذات، وإنما يخص الكثيرين في مدارس لبنان. أما اطلاعي على الثقافة الفرنسية فكان اطلاعا محدودا بحدود البرنامج الدراسي واختلف الأمر بعض الشيء في سنوات الجامعة في بيروت حيث أنني اطلعت، ولكن اطلاعا خفيفا على بعض الشعر الفرنسي وبعض الأدب الفرنسي. بهذا المعنى أقول مدرستي الحقيقة كانت في باريس. وهذا يصح أيضاً في علاقتي بالثقافة العربية، اذ أتيح لي في باريس الاطلاع على أمهات الكتب في المكتبات الوطنية هناك، وغيرها من المكتبات الجامعية والاختصاصية. اما من جهة التوفيق فانا لم يكن لي - ان جاز القول - نهج واضح في التوفيق. هذا كان يخضع لظروف وحسابات كان بعضها متبدلا بمعنى انني انصرفت إلى الاطلاع على الفن الحديث في فرنسا ولم يكن غرضي ان أوفق بينه وبين الفن العربي الحديث، بل كان غرضي الاطلاع الواسع والمجاني الذي لم يكن يهدف إلى إعداد الكتب العلمية، ولا للتحصيل الدراسي. وما كان يظهر في الصحافة من حاصل هذه الاهتمامات كان محدودا للغاية. فأنت لا تحتاجين لكي تكتبي عن معرض لبيكاسو لان تقرأي كتابين او ثلاثة. ولكن في أحيان أخرى ما كانت تفارقني الثقافة العربية وأجري مقارنات لازمة وطبيعية بين ما كنت اطلع عليه وما كنت أعرفه عن ثقافتي الأولى. فلم تنقطع علاقتي بالثقافة العربية حيث كنت اعمل في الصحافة وكان لي أن انتقل إلى هذا البلد العربي وذاك، وأغطي هذا الحدث العربي أو ذاك، أو أشارك في بعض المؤتمرات والفعاليات.
عشت في فرنسا 18 عاما، بحيث لا يمكن ان نضبطها وفق وتيرة واحدة. وفي السنوات الأخيرة لإقامتي في باريس كنت قد حسمت خيارا أساسيا في حياتي، وهو أنني كاتب بالعربية. لأنه راودتني في فترة من الوقت أن أصبح كاتبا بالفرنسية... حسمت هذا الأمر وقلت لنفسي: لا أريد هذا الخيار، رغم اعتزازي وتقديري لما وفرته لي فرنسا من ثقافة ومعرفة وحماية ورعاية أحياناً.
* ما مبعث خيارك ان تكون كاتبا بالعربية، في حين وفر لك الادب والثقافة الفرنسية الكثير، الى جانب ان هذه اللغة تفتح لك أفاقا أوسع من العربية؟
- لأنني توصلت إلى قناعة متأتية من صلات مع أدباء عرب اتخذوا من اللغة الفرنسية وسيلة للتعبير، فوصلت إلى قناعة مفادها : أنني ان بقيت في فرنسا وقررت الكتابة بالفرنسية فمجالي الأساسي سيكون نوعا من التوسط بين الثقافة العربية والثقافة الفرنسية. وأنا لا أريد التوسط بل اريد الفعل. لا اريد ان اكون مترجما او معرفا بين هاتين الثقافتين. لا اريد ان اكون وسيط عبور بين ثقافتين. غيري اختار ذلك، وهو خيار مشرف ولكن ليس لي. انا أريد ان أكون "في" الثقافة، وليس "بين وبين". اريد ان اكون فاعلا بدون ادعاء، وفي ثقافة اعتبرها هي التي تعينني اكثر من أي ثقافة اخرى، وفي لغة هي التي تحددني بدورها اكثر من أي لغة اخرى. هذا ما جعلني اصرف مجهوداتي في التأليف بالعربية، على ان هناك مخزونا كبيرا وطرقا في التفكير وفي المراقبة وفي النقد حصلتها من عيشي في فرنسا ومن اطلاعي وتعمقي في الثقافة الفرنسية نفسها.
* تجربتك النضالية التي عشتها، هل قمت بتوظيفها في كتاباتك؟
- تجربتي النضالية دامت سنوات قليلة لكنها كانت مؤثرة في تكويني، لأنها كانت بين مرحلة المراهقة والسنوات الأولى من مرحلة الشباب. وهي مرحلة تكوينية أساسية، لكن تأثيرها الأساسي تمثل في القيم والسلوكيات ولم يكن في علاقتي بالأدب. فانا حتى عندما كنت مناضلا لم أكن من هواة تحكم النضال بالأدب. وبالتالي لم يكن لي ان أتحرر من هذا الإرث النضالي في الكتابة حين تركت المرحلة الحزبية وانصرفت بصورة أقوى إلى الأدب. وكان ان بقي لي من المرحلة الحزبية قيم وثوابت أتبناها حتى اليوم في سلوكي ومواقفي من جهة الإحساس بضرورة العدل وبرفع الظلم وإحقاق الحق، الى جانب تمردي وانتفاضاتي لأي ظلم أراه او اقع عليه او أشاهده او اطلع عليه بشكل من الأحوال. لا يزال ذلك النبض اليساري الذي ينفعل ولا يقبل بالأشياء، أتحقق منه في أحيان كثيرة بشكل مفاجئ بصرخة بصيحة غضب بموقف نافر، يفاجئ الكثيرين ممن لا يعرفونني تماما وربما اعتادوا أو انزلوا علي صورة أكاديمية رصينة. بهذا المعنى انصرافي إلى الأدب كان انصرفا كليا، اكاد اقول انصرافا وجوديا بمعنى انني اعتبر ان عملي في كتاب هو الذي يعينني كإنسان اكثر من أي أمر أخر. والكتابة عندي بهذا المعنى تجربة بالمعنى العميق للكلمة لا تقل أهمية عن أي تجربة عملية نقدم عليها في الحياة، فنستفيد منها ونتعلم وننجح او نفشل إلى غير ذلك.
لذلك الانصراف إلى الكتابة من دون مواقف مسبقة وبرغبة السابح الذي يرمي بجسده في البحر، ولكنه يدرك أن له قدرات على السباحة ومهارات عليه ان يمارسها في السباحة لكي يتمتع بما يقوم به، ولكي يفوز بما يطلبه من صيد في هذا البحر.
*هناك فجوه بين الشعر والمتلقي، ماذا تقول عنها؟
- انا اعتقد بذلك ولا اعتقد به، بمعنى ما. لا اعتقد به، ذلك أن البعض يفترضون ان هذه الفجوة جديدة، فيما اعتقد انها قديمة للغاية. عندما كان الشعر طقسا دينياً أو رسمياً، أو يصاغ في الأناشيد والتراتيل، كان شعرا شعبيا بمعنى ما، أي ان اناساً كانوا ملزمين بحفظه، ولا تبلغ علاقتهم هذه العلاقة التلقائية او الحرة، فيما يذهب القارئ، اليوم، إلى المكتبة ويشتري كتابا بفعل حر واختياري.
ولا اعتقد بذلك الرأي، من جهة ثانية، لأني اعتقد ان البعض يريدون منه النيل من الشعر الحديث ومن الشعراء، فيلقون اللوم على الشاعر على انه هو الذي يعقد المسائل وبالتالي يقيم هذه الفجوة بين شعره وبين المتلقي.
هناك مسؤولية تقع على الشاعر، ولكن المسؤولية الأساسية عن هذه الفجوة تقع على المجتمع، في البيت والتلفزيون والمدرسة والمحاضرات والبرامج الثقافية وفي الكيفية والمدى والمكانة التي يوفرها المجتمع للشعر.
الشعر صناعة مثل غيره من الصناعات المادية او العقلية او الفنية، بل ترقى صناعته إلى آلاف السنوات. وهو يحتاج كأي صناعة متبلورة إلى ثقافة فنية يجب ان تتوافر عند القارئ، وهي لا تتأتي تلقائية للقارئ او المتلقي. القارئ العادي عندما يقرأ اعلاناً في الشارع اليوم، قد لا يفهمه تماما، فيما هو كلام بسيط وقد لا يتعدى الجملة الواحدة.
عندما تنظرين إلى منظر غروب الشمس وتتأثرين به، وتقولين لإنسان آخر: انظر إلى هذا المنظر الجميل، فهذا لا يعني بالضرورة أن لوحة منظر الغروب تحدث في المتلقي الإحساسات عينها. لماذا؟ لأنها مرسومة بلغة فنية، فكيف إذا كانت اللوحة ليس منظرا طبيعيا وليست تفاحة ولا وجهاً جميلاً!
الشعر صناعة، بالمعنى العربي القديم، والشعر الحديث تحديدا صناعة شديدة التعقيد والتبلور لان الاشتغال في الشعر يتطلب مقادير عالية من التنافس وبلورة الفردانيات الشعرية المختلفة. فإن لم يصاحب هذا الجهد في صناعة الشعر مجهودات موازية له في كيفية التلقي تحصل الفجوة بالضرورة.
* برأيك ما هي المسؤولية التي تقع على الشاعر في هذه الفجوة؟
-على كل شاعر ان يجد دائما شكلا من أشكال التوسط او التفاعل مع القارئ، وعليه ان يدرس ويقترح حلا لإقامة التواصل بينه وبين المتلقي. والتواصل في هذا المعنى قد يصيب وقد لا يصيب... اعرف من تجربتي كشاعر ان هناك قراء يتواصلون معي ويقفون في المكان الذي اقف فيه في القصيدة. واعرف ان هناك قراء آخرين بمجرد ما يقرأون قصيدة لي أو لغيري لا يصلون إلى عتبتها، وتبدو لهم غريبة مجافية لما يعرفون ولا يجدون المفاتيح المناسبة للدخول إلى عالمها. وهذا شيء أتحقق منه. ويمكن ان أزيد على ذلك ان للقراء أذواقا مختلفة فيما يقبلون عليه وفيما يستحسنوه.
إننا ما نزال نتكلم عن جمهور الشعر، وأنا اعتقد بأنه لا وجود لجمهور الشعر اليوم. ما هو موجود كجمهور للشعر اليوم قد يصيب بعض الشعراء العرب الحديثين أو القلة، مثل محمود درويش على سبيل المثال، الذي له ذيوع وانتشار بين أوساط كبيرة من القراء، وهذا يسري على شعراء آخرين أيضاً، مثل نزار قباني قبل سنوات.
انا لا انكر ذلك ولكن، علينا ان نتكلم اليوم عن قراء. وبالتالي حينما نتحدث عن قراء نحن نتحدث بالضرورة عن قراء مختلفين، لهم صلات متباينة ومتفاوتة بالقصيدة، ولهم صلات بهذا الشاعر وليست بذاك. وهو من طبيعة الفنون والآداب الحديثة، مثلما ترتاحين لروائي، ولا ترتاحين لروائي أخر، وهذه من سنة الثقافة الحديثة.
* ألا تعتقد إذ استطاع الشاعر ان يلمس وجع وواقع شريحة كبيرة من المجتمع يستطيع ان يكون جمهورا كبيرا من القراء؟
-علاقة الشعر بالواقع تمر عبر وسائط، وليست علاقة مباشرة. فالقصيدة ليست آلة فوتوغرافية تصور الواقع. كل قصيدة هي واقعية بمعنى من المعاني، تحاول ان تتصل وان تقيم علاقة بواقع ما، وربما بواقع متخيل انطلاقا من واقع قائم او واقع افتراضي. لكن تعيينات هذا الواقع المختلفة تمر عبر هذه الوسائط. أول هذه الوسائط وأهمها هو اللغة. واللغة حينما تسمي الواقع وتبنيه، تبنيه وفق الجملة، ووفق أشكال في التركيب. وهي مضامين وأشكال تختلف بين شاعر وأخر في الاجتهاد، في طريقة التأليف والنظم إلى آخره. فكيف اذا كانت هناك وسائط اخرى هي الصورة والموسيقى والسرد وغيرها يتناول بها الشاعر الواقع.
* ديوانك الأخير، "لا تبحث عن معنى لعله يلقاك"، يحمل الكثير من المفارقات الحياتية. ماذا تعني لك هذه المفارقات؟
- نحن كعرب نعيش في الغالب في وضعيات تقليدية، فتتحكم بسلوكياتنا ومواقفنا وتصرفاتنا مع غيرنا. كما تتحكم بنا اعتقادات جماعية وسلوكيات، يجب ان يتبعها الكل... وبالتالي نحن لا ننتبه إلى ماذا يميز هذا الموطن عن ذلك، إلا حينما تقع مفارقة ما، أو سلوك غريب يؤدي إلى انتباه ان هذا الإنسان في داخليته مختلف عن الإنسان الأخر... بهذا المعنى المفارقة هي كشف الحياة الغامض والملتبس والمخبوء في احيان كثيرة، خاصة حينما تكون العلاقة بين الحميمي والعمومي، وبين الداخل والخارج، علاقة غير شفافة. بمعنى اننا في الغالب نعيش في الخارج وفق قوانين عامة ونحن في دواخلنا نرى إلى أنفسنا وإلى غيرنا بطريقة مختلفة. وفي أحيان كثيرة ما يميزنا كإفراد هو الجانب المخبوء منا، وليس الجانب الظاهر، وليس الجانب الذي نسمح لأنفسنا ان نظهر فيه وان نتعامل به مع غيرها. لذلك اعتقد ان إنسانيتنا تظهر في دواخلنا وهي كامنة فيها أكثر مما نراه في الشارع، او في المكتب او في أي ظهور علني لنا.
* تكتب قصيدة النثر وتدافع عنها بشكل كبير. لماذا كل هذا الدفاع عنها؟
- لأنني اجد فيها حرية، واريد ان استثمرها إلى أقصى ما استطيع، والا لكنت كتبت قصيدة تفعيلة او عمودية او غيرها. فالقصيدة بالنثر ميدان مفتوح للكتابة، ولقد سعيت وجهدت في مجموعاتي المختلفة في ان أوظف تقنيات ووسائل تعبير وأشكال أدبية أخرى في هذه القصيدة. لقد سعيت إلى السرد منذ مجموعتي الشعرية الأولى، "فتات البياض"، واسعى إلى السرد في مجموعتي الاخيرة. لا بل عدت في هذه المجموعة الأخيرة إلى تقنيات المسرح وأدخلتها في بناء القصيدة. وأنا إذ استعملها فلا اريد من ذلك ان اعدد وسائل التعبير بغرض الإكثار منها، وانما اريد ان امتحن أولا مدى قدرة هذه الوسائل والأشكال في ان تكون مقبولة، واريد ثانياً توظيف هذه الوسائل والأشكال في رفع شاعرية القصيدة التي اكتبها، أي اريد ان آتي بهذه الامكانية من خارج القصيدة إلى القصيدة لكي تنميها وتعززها ولكي افتح لها مجالات جديدة ومختلفة في التعبير والشكل.\
* هل ترى في قصيدة النثر اجواء ارحب واكثر اغراء من فضاء قصيدة التفعيلة، من حيث إدخال أجناس وأشكل أدبية مختلفة؟
- نعم فقصيدة التفعيلة سمحت لنفسها بقدر من التنوع في استعمالات تفعيلات البحور العروضية. وحتى في هذا المجال - وانا قد درست هذا في دراسات سابقة لي -، اعتقد ان شعر التفعيلة اقل تنوعا من الشعر العربي العمودي. لدينا عدد معروف من البحور الشعرية، وتنقسم هذه البحور بين بحور "مركبة" وبحور "صافية". البحور المركبة تتألف على الأقل من تفعيلتين مختلفتين، فيما البحور الصافية تتألف من تكرار تفعيلة واحدة. الغلبة الساحقة من قصائد شعر التفعيلة تنتسب إلى البحور الصافية، أي إلى البحور التي تعتمد على التفعيلة الواحدة المتكررة. بل يستعمل شعراء التفعيلة عددا قليلا من هذه البحور الصافية، وبالتالي أصبحت المنطقة التي تدور فيها تجربة شعر التفعيلة محدودة وضيقة. اما غنى شعر التفعيلة، بالمعني العروضي والموسيقي، فهو ما اسميه الموسيقى في داخل القصيدة، أي انها تتيح انتقالات على قدر من الابتكار والتنوع. وهذا أمر جميل وجديد في الشعر العربي. الا ان شعر التفعيلة لا يستطيع على سبيل المثال ان يستوعب في بنائه تقنيات مثل تقنيات المسرح مثلا، وإلا فعليه ان يكتب شعر تفعيلة يصلح للمسرح، مثل الشعر المسرحي الذي نعرفه. اما ان تدخل بعض تقنيات المسرح في القصيدة وتستعملها وتنتقل إلى غيرها، فهذا امر ممكن في قصيدة النثر وغير ممكن في قصيدة التفعيلة.
* هل ترى ان الجدال حول قصيدة النثر قد انتهى، وهل تم الاعتراف بها كقصيدة؟
- هذا الجدال انتهى في لبنان، وأتمنى ان ينتهي في جميع التجارب الشعرية في الوطن العربي. انتهى في لبنان منذ سنوات عديدة. فنحن نتعايش كشعراء ونقاد فيما بيننا تعايشا سلميا، ان جاز القول، بل اعترف بان اكثر النقاد اهتماماً بالكتابة عن القصيدة بالنثر هم شعراء تفعيلة مثل الشاعر محمد علي شمس الدين، والشاعر شوقي بزيع وغيرهم. وانا بالمقابل أخص أكثر دراساتي حول الشعر الحديث لشعراء التفعيلة، ولا تتناول شعراء القصيدة بالنثر. وهذا يعني اننا توصلنا إلى حالة من القبول والرضا المتبادلين. وهذه بشهادة فيهم وليس فينا. وهذا الأمر يسري على شاعر كبير مثل محمود درويش الذي يعترف بشعرية القصيدة بالنثر ويقر بها، بل هو يتفاعل ويتأثر ايجابيا بمناخاتها وبعض أساليبها، وهو نوع من الإقرار الجمالي بها. وهنا اريد ان أسجل واحيي الشاعر درويش على هذا الامر واعتبره ايضا لحظة رشد أتمنى على شعراء العربية ذوي التجارب الأخرى ان يتبعوها وان ننتهي من هذه الحرب المضحكة. ذلك أن بعض شعراء التفعيلة او شعراء الشعر العامودي يبدون احيانا مثل المراقبين لجوازات السفر او مثل مراقبين حدود يريدون ان يفحصوا القصيدة قبل ان تبلغ القارئ، وهذا دور لا أغبطهم عليه ولا احسدهم عليه وأتمنى لهم ان يتعاملوا بطريقة أخرى مع الشعر ومع القصيدة عبر مقوماتها الحقيقة التي تبنيها.
* كيف تنظر إلى اشكالية الخوف على الهوية العربية من العولمة؟
- يقول عدد كبير من المواطنين والكتاب العرب انهم يعيشون لحظة خوف، وانا افهم بعضا من هذا الشعور، بمعنى انهم يعيشون لحظة قد لا يكونون فيها او يشعرون فيها بالعدل بل بالظلم. إذا انهم يرون إلى هذه العولمة من خلال أوجه عنفية، هي ما نعيشه يوميا بين بغداد وفلسطين ولبنان وغيرها من البلاد العربية. والبعض يعيش لحظة الخوف هذه لانه يتوجس من مجهول لا يعرف حقيقته بعد. وهذا امر صحيح بمعنى اننا دخلنا في عالم مختلف ومتغير. وفي هذا العالم المتغير والمختلف لا نعرف من سنكون وكيف سنكون فيه، وبالتالي هذه المشاعر والتوجسات افهمها، وربما يعود للمثقفين والمفكرين ووسائل الأعلام التي تقوم بإخلاص ومسؤولية بمهنتها ان تسهل وتقدم بطريقة صحيحة العولمة للمواطن والقارئ والمثقف العربي. ان تشرح لهم حقيقة العولمة فهي إجبارية وليس اختيارية. وهذه تغيرات تحدث على الكرة الأرضية كلها وليس لنا قدرة على ردها. فلا يمكننا ان نبقى بمنأى عنها، ولهؤلاء المخلصينم والمدركين ان يشرحوا المخاطر الحقيقية التي يمكن ان تهددنا في مناحي من حياتنا ومن ثقافتنا، وان يشرحوا لهم ان في هذه العولمة إغراءات ومشهيات وأشياء ايجابية علينا ان ننتبه إليها وان نستعملها ونتقدم صوبها ونستثمرها بسرعة ونجاح. ذلك ان البعض يعتقد، في بعض المواقف كما اراها، اننا نستطيع ان نحرد وان ندير ظهرنا لما يجري، وأننا سننجو بأنفسنا من هذه العولمة الزاحفة. ويظن البعض انهم، بتأكيدهم على الأصول والجذور والهوية وعلى اعتقادات الأسلاف وغيرها، يحافظون على الهوية من خطر العولمة.
نحن لا نواجه العولمة ولا نستطيع ان نكون فاعلين في هذا العالم الجديد إن لم نكن في دائرة العولمة، وفق ما تقدمه هذه العولمة من تقنيات ووسائل ورهانات. علينا ان نشارك فيها وان نصححها حيث وجب التصحيح، وان نجد لنا دورا فيها، لأننا إن حردنا وأدرنا ظهرنا ستقع العولمة علينا ومن دون رضانا وسنكون دائما في دور المستهلك فيها والتابع لها.
* ما هي الاجواء والطقوس التي تنتزعك حتى تنهض وتكتب القصيدة؟
- هذا ما أطلق عليه د. مصطفى الكيلاني تسميةَ "الرغبة" في كتابه عني، وهو "الرغبة في القصيدة". اعتقد ان هذا المفهوم يفسر جانبا كبيرا من شواغلي واهتماماتي المتعددة في الكتابة. وهو ربما التفسير الانسب لشرح وفهم الدوافع والنوازع العميقة التي تدفع بي أحيانا إلى حيث أقف وأكتب: أي رغبة ذلك الطفل القديم الذي كنت عليه، الذي سحرته بيروت وهو صغير، اذ درج في شوارعها وتعرف فيها، منذ سنواته الأولى، إلى اناس من غير طائفته، ومن غير قوميته، بعد أن تعرف هذا الطفل على أرمن واكراد، كان يلتقيهم في الحي والمدرسة وفي حوش اللعب. هاتان العينان اللتان للطفل الذي كنت لا تزالان تنبهران احيانا وتندفعان صوب عوالم تسحرهما، طلباً للسفر، للاتصال. وهو سفر بقدر ما هو مكاني تخيلي أيضاً، تنطلقين فيه مما ترين لتذهبي إلى ابعد من ذلك، ولكي تتخيلي صورا وأوضاع غير الصور والأوضاع التي تألفينها وتعتادين عليها.

(مجلة "أفكار" الفصلية، عدد 224، عَمان، 2006).