مع نوارة لحرش: القصيدة خطاب متكلم، لا لسان نفوذ

شربل داغر شاعر لبناني وناقد ومترجم، خريج جامعة السوربون الجديدة باريس الثالثة، حائز على شهادتَي دكتوراه: في الآداب العربية الحديثة وفي جماليات الفنون. أستاذ في جامعة البلمند (لبنان)، أستاذ زائر في عدة جامعات، اختير منسقاً عاماً للتكريم الدولي للرئيس الشاعر ليوبولد سيدار سنغور في العام 1990، وشغل منصب الأمين العام للمجلس التنفيذي لـ"المنتدى الثقافي العربي الإفريقي" بين العام 1986 و1988، والأمين العام لـ"جائزة الشعر الإفريقي"، منذ تأسيسها في العام 1989 حتى العام 1993؛ وهو أستاذ محكم في دوريات للنشر العلمي.وهو كاتب بالعربية والفرنسية، له مؤلفات في الشعر والأدبيات والجماليات والترجمة: من مجاميعه الشعرية الكثيرة نذكر: "فتات البياض" ، "رشم" ، "تخت شرقي" ، "حاطب ليل"، "غيري بصفة كوني"، "لا تبحث عن معنى لعله يلقاك"، "تلدني كلماتي". أما من الترجمات فنذكر: "العابر الهائل بنعال من ريح" (ترجمة رسائل رامبو إلى العربية)،"دم أسود"(مختارات شعرية إفريقية)،"أنطولوجيا الشعر الزنجي/الإفريقي". كما له شعر كثير مترجم إلى الفرنسية والإنكليزية والألمانية والإيطالية وغيرها.أصدر عنه الدكتور نعوم أبي راشد مختارات بالفرنسية بعنوان:"عتمات متربصة"(2005)،عن "دار لارماتان" في باريس.وأصدر عنه الدكتور مصطفى الكيلاني كتاباً دراسياً بعنوان: "شربل داغر:الرغبة في القصيدة" عن دار شرقيات للنشر والتوزيع بالقاهرة العام2007.كما صدرت له رواية بعنوان "وصية هابيل"عن رياض الريس للكتب والنشر في بيروت أوائل 2008. والتي دخل بها إلى دروب السرد العذبة وعنها كان معظم الحوار الذي تحدث فيه عن هابيل ووصيته وعن الرواية التي استعذب كتابتها وعن الشعر الذي يراه عملية مؤلمة وعن الترجمة التي تتطلب الأمانة رغم كونها فعل كتابي قبل كل شيء وعن أمور أخرى كثيرة نكتشفها بفائض المتعة.
* كيف قادك الشعر إلى الرواية، كيف حدث هذا السفر بعد كل هذه التجارب الشعرية الزاخرة، والكتابات النقدية المتنوعة ، هل لأن الرواية عادة ما تكون محطة ضرورية للشاعر؟
- هذا السؤال يربكني فيما يتعدى ضرورة الجواب. فلو عاد القارىء إلى قائمة مؤلفاتي، قبل نشر هذه الرواية، سيجد بأنه لا مكان لها، طالما أن كتبي تندرج في أربعة محاور، بين الشعر والأدبيات والجماليات والترجمة.
يربكني بمعنى أنني لم أطلب كتابة الرواية حين شرعت في كتابة ما انتهى إلى أن يكون "وصية هابيل". أما الانصراف إلى الرواية، أو اتخاذ القرار بشأنها، فقد أتى بعد وقت: أثناء الكتابة نفسها، وبعد الانتهاء منها خصوصاً. وهو ما يعرفه أصدقاء مقربون ممن قرأوا الرواية قبل اتخاذي قرار النشر. ومن يقرأ الرواية يمكن أن يتحقق مما هو أعقد من هذا الاعتراف الذي أقبل عليه، وهو أن روايتي غريبة المبنى، ومبعث ترددي نشأ من غرابة شكلها، حيث أنها تنعقد في مجموعها في حوار متصل ومنفصل في آن.
بهذا المعنى أيضاً أقول: لم تكن الرواية محطة لازمة، ولا ضرورية لي كشاعر. بل يراودني سؤال ملح، وهو: هل يقوى الشاعر على السرد أساساً ؟ هل يقوى على الخروج من أنويته المتكلمة ؟ فالشاعر متورط في أحسن الأحوال، إن لم يكن منغمساً تماماً في ما يقول ، في ما يعبر عنه. أما الروائي فيحتاج إلى أداء مختلف، ويتمثل في قدرته على التوزع ، على التلبس، في هيئات وأوضاع، على التبعيد إذن بين أنويته وبين كائناته.
* "وصية هابيل" عملك الروائي الأول، كيف لهابيل (الذات/الأنا) أن يوصي، وبماذا أوصى تحديداً ؟ وهل وصيته في أوانها أو متأخرة بكذا جرح وكذا خيبة وكذا حلم وكذا حياة ؟
- أعترف لكِ بأنني كتبت القسم الغالب من الرواية أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان في صيف العام 2006: فهل يمكن اعتبارها الرسالة المكتوبة تحت وقع القنابل، والوصية قبل الموت المهدد ؟
تعرفين طبعاً أن هابيل لم يخلف رسالة، ولا وصية، حسب الكتب المقدسة، بل لم تحفظ لنا هذه أي قول له، ما هو مدعاة للتساؤل، بل للاستغراب. هذا ما أصوغه في سؤال بسيط ، افتراضي وقابل للسرد الروائي: ماذا لو قال ؟ ما كان له أن يقول ؟ لمَ لم يقل ؟ لمَ لم يبلغنا كلامه ؟ ألا يكون كلامه هو عينه صمته ؟ لماذا انقاد إلى الصمت، إلى السكوت أو إلى كبت ما كان له أن يقول ؟..وهي أسئلة يمكن أن يطرحها الروائي على ولد ، أو مراهق ، لم يعتد على الكلام إلا في سره، أو في تدوين عباراته بخطه فوق بنطلونه وهو جالس: ما الذي منعه أو لم يشجعه على الكلام ، على "التكالم" كما يسميه أحد المتكلمين في الرواية ؟
بهذا المعنى لا أستعيد الأسطورة لتفسيرها من جديد، كما سارع البعض إلى القول، وإنما تريد الرواية أن تحقق في صراع أخوين ، في رصاصة طائشة بينهما، على أن أحد الأخوين يتلبس بالمعنى النفسي والسلوكي شخصية هابيل، فيما لا يبالي الثاني بها، ولا بدور قاين.
وما يمكن التنبه إليه في الرواية هو أن الأب هو الذي أطلق الرصاصة على الأرجح، وأنه يكون بذلك هو الذي "قتل" الولد، رمزياً على الأقل، وإن لم يقصد ذلك. يحصل هذا بخلاف قصة القتل عند فرويد ، التي تقول بأن الولد هو الذي يسعى إلى قتل الأب تأكيداً لشخصيته. إذن تكون الرواية، بمعنى من المعاني، قلباً للحكاية حيث يبدو الأب مهدداً لبروز الولد. ألا نكون في ذلك قريبين من أحوال نرى فيها الأجداد بل الأسلاف يطبقون على جنين الحاضر بأيديهم الغليظة؟
* "وصية هابيل"، هل يمكن اعتبارها سيرة ذاتية تفتح سماءها ونوافذها نحو الأعمق دون إغلاق ممكن؟
- طبعاً هي تنتسب في بعض موادها الحكائية إلى سيرتي الخاصة، كما تبني في متخيلها السردي سيرة جزئية لكاتب اسمه: شربل داغر. أما أن أجيب بأكثر، فهو ما أتركه لمحققين، الذين يطلبون التثبت من الهوية الشخصية في الكلمات، في أخبارها.
قد يعني البعض التفتيش في حياتي ابتداء من الرواية، إلا أنني لن أساعدهم في عملهم هذا، لأنني لا أجد لزوماً له من ناحيتي. ما يعنيني هو ما يقوله الكلام نفسه، أي ما يرويه، بعيداً أو بمنأى عن شخصي. أريد للكلام أن يقنع، أن يجذب، بالمعنى الإنساني والفني، بنفسه.
طبعاً قد يلجأ البعض إلى إجراء مقارنات أو تقاطعات بين الرواية والمعروف من حياتي. وقد يغريهم ما قاله أوسكار وايلد وهو أن الكاتب "يتخفى" في نتاجه، على أنه يتمنى دائماً أن "يتم العثور عليه". لست من هؤلاء، و إن كان يفيد في التعرف على شخصي. ما يعنيني هو ما يساعد في التعريف عن كتابتي.
يبقى أن أشير إلى أمر، وهو أن هناك طرفاً غير الأخوين في الرواية، وهو "المحقق" الذي تلتبس صفاته بين أن يكون محققاً صحفياً ( كما نتكلم عن كتبة التحقيقات الصحفية، أو الريبورتاجات، في الجرائد) ومحققاً بالمعنى الجنائي للكلمة.
* في مقالة لفاروق يوسف عن الرواية قال: "رواية يكتبها شاعر هي في حد ذاتها حدث جمالي"، هل هذا لأن الشاعر يزخر بكم هائل من الشاعرية؟ هل لأنه كائن شفاف بامتياز؟
- لا أعرف ما كان الناقد يوسف يقصده من كلامه هذا: أكان يقصدني تحديداً أم أي شاعر؟ أيريد من ذلك الانتباه إلى أن الشعراء قلما يقبلون على السرد ، ما يجعل انصرافهم إليه حدثاً قائماً بذاته ؟ أم يريد أن يقول إن الشاعر يقبل على السرد بذاكرة وخبرة متأتيتين من الشعر، فضلاً عن السرد ، ما يجمع بالضرورة بين مرجعيتين ما له بالتالي أن يغني التكوين الجمالي للرواية بالمعنى العالي للكلمة ؟ أم يريد أن يتناول كتابتي السردية نفسها حيث أنها تنهل من مصادر جمالية متعددة ، مثل السينما والتشكيل والمسرح وغيرها؟
* في السياق ذاته ما هي أهم مرتكزاتك الجمالية، وأهم خلفياتك الفكرية والأدبية ؟
- هذا سؤال كبير لكي أجيب عنه في هذا الحوار. ما يمكنني قوله، وفي ما يخصني في كتابتي، هو أن للنص عندي، أياً كان نوعه، مبنى جمالياً، بقدر ما هو مبنى كتابي، أي أن له أن تتوافر فيه عنايات خاصة ببنائه، فلا يكون تدويناً وحسب، وأن تظهر فيه معالجات تعنى بشكله خصوصاً. فما ننساه أحياناً، ونظراً للمكانة القديمة والمستمرة للأدب في ثقافتنا، أن النص إنتاج جمالي مثل الصورة أو المعزوفة وغيرها.
أسوق مثالاً بسيطاً ولكن كافياً في دلالته: هناك متكلمون في روايتي لا يفصحون تماماً عن هوياتهم، ما يعنيني منهم هو ما يقولون وما يفعلون، وفي ذلك إغفال لمرجعياتهم وإلى ما يحيلون عليه: ألا يشبه هذا الصنيع السردي ما يعرفه بعض الفن التشكيلي حين يكون اللون مطلوباً لذاته في بناء اللوحة،لا بوصفه صفة لهذا الشيء أو ذاك ؟. وهي خيارات تأليفية وجمالية انتهيت إليها ابتداء مما حصلته دراسياً، بين درس الأدب ودرس الفن، فضلاً عن عملي الكتابي والفكري هنا وهناك.
* ألا ترى بأن الشعر هو فن النخبة وليس فن الجماهير على الأقل عندنا في الوطن العربي ، كان في السابق البعيد فن الجماهير وصوتها وحتى ملاذها لكن راهنيا هو ربما ليس فنها، ما رأيك ؟
- لا يسعني تأكيد ما تذهبين إليه من أن الشعر كان "فن الجماهير" في ماضينا الثقافي. في أي عهد كان القراء يقبلون على قراءة الشعر؟ أفي تلك العهود التي كان يقتصر فيه حفظ الشعر على عمل الوراقين والنساخين، مما كان يوفر عدداً محدوداً من الكتب بالضرورة ؟ في أي عهد كان المستمعون الكثر يقبلون على سماع الشعر، وهو ما كان يقال إلا في البلاطات أو في حلقات العلماء والأدباء من دون غيرهم ؟. أقرأ في هذه الأيام ديوان ابن الرومي، وهو أكبر دواوين الشعراء القدامى من دون شك، بمجلداته الستة، ولقد استوقفني أثناء القراءة أن قصائده تتركز في حلقة ضيقة من الأشخاص ممن كان يتوجه إليهم بالمدح أو الهجاء أو العتاب أو الغزل وغيرها. ولقد بدا لي أن القصيدة تكاد تشبه الرسالة الشخصية في حالته، على أنه يوجهها للشخص المعني في المقام الأول قبل مستمعيها - أو قرائها المحتملين، إذا شئتِ. وهو ما نجده في شعر غيره أيضاً، حيث أنه أقرب إلى أن يكون معداً لفئة مخصوصة، لا إلى القارىء، كما نتحدث عنه اليوم. فالقارىء، على ما أقول ، طرف جديد في التحاور الأدبي، وبات الكاتب يطلبه في الأزمنة الحديثة، ابتداء مما أحدثته الصحافة من تقاليد ناشئة، وهي التوجه إلى القارىء، أي العمومي، غير المعروف بالضرورة.
* ما الذي يجعل شعراً ما عابراً للثقافات والحضارات وربما للذات والجراحات ؟
- عبور الشعر لهذه الكيانات المذكورة يكفله الاعتراف بهذا الشاعر أو ذاك من عصر إلى آخر، من بلد إلى آخر. وهو اعتراف صعب التحديد، على الرغم من أنه بديهي حين نقع على شعراء مجيدين، مثل شكسبير الذي إذ نقرأه نخال أننا أمام كاتب معاصر وضع نصه للتو. ففيه عمق بسيط وإعجازي في الحالتين، وهو ما يصعب تفسيره من دون شك، على أنه واقع في النص، لا في "أسرار" عجيبة، وإن صعب تحديده.لكن هذا العبور مضلل كذلك، إذ أن الشعر يختلف إذ يتجدد حضوره من عصر إلى آخر، من بلد إلى آخر. فمن يضمن لنا أن ما كان يكفل قيمة هذا الشعر، عدا الشهرة المتنقلة والمتجددة، هو القبول عينه الذي للقارىء أو للناقد من دون تبديل يذكر ؟. أعرف أن مثل هذا السؤال هو من أصعب ما يمكن الجواب عنه لأنه يشير إلى خليط كيميائي مدهش من الإبداع والنجاح والتفوق.
* هل من يكتب عن الذات يكتب عن الآخر بالضرورة ؟ يعني هل الذات دوماً انعكاس للآخر؟
- العلاقات إلزامية بين الأنا والآخر. قد تكون مضمرة، أي غير مطلوبة بذاتها، وقد تكون مطلوبة في نوع من التحاور البنائي الصريح. ولهذا قد لا تعني الأنا انعكاساً للآخر، وإنما هي ضده أو مقابله أو شريكه في رحلة وغيرها. لهذا يستحسن أحد المتكلمين في الرواية الحديث عن "تكالم"، بوصفه امتحاناً لقدرة الأنا، أنا المتكلم، على أن تكون في حوار مفتوح، غير مغلق، غير محدد مسبقاً. يعنيني الآخر إنسانياً وكتابياً. وهو ما أحتاجه في نوع من البحث عما يجذبني إليه، وأسعى وراءه، وراء ما يكونني وأجهله. ويعنيني في الآخر "غيريته"، أي اختلافه عني، بما يجعلني أرى إلى الكون كما إلى الإنسان في ما يؤلفه، ويغنيني بالتالي.
* إذا كان سارتر يقول الآخر هو الجحيم، فهل من الضروري أن يغوص الشاعر بنصه في جحيم الآخر؟ ألا يكتفي بجحيمه الذاتي؟
- كلام سارتر يحكي عن التواصل، بل عن مثالية الكلام عن تواصل موفق بين الأنا والآخر. وهو قول يتحدث عن الصعوبة، ولا ينكر التواصل سبباً لقيام الإنسانية.
ويمكن القول في حالتي، ابتداء من كتابي الشعري: "غيري بصفة كوني"، إنني أطلب التواصل والتفاعل في عالم يتحدث عن القربى والتشابه والشراكة فيما يمعن في التبعيد والقسمة والاختلاف. ذلك أن خطاب اليوم خطاب غلبة وتأكيد راجف لخطاب الأنا عن نفسها، وفي مسعى لتشويه الآخر، بل لإلغائه الرمزي. ولكي أبقى في نطاق الشعر، أريد التنبيه إلى أن شعرنا ينهل ويصب في أنوية سميتها في أحد كتبي بـ"الأنوية المتضخمة".وهي أنوية تأخذ من الشاعر-الفحل- سندها البعيد، ومن الشاعر الرؤيوي سندها الإيديولوجي، وهي لا تعدو كونها سعياً لتسيد الشعر، لغلبته الرمزية في ألعاب السلطة والنفوذ، قبل المعنى نفسه. مثل هذا الشعر لا أطيقه. مثل هذا السعي النفوذي أعتبره مقيتاً بل مميتاً للشعر. ما أريده في القصيدة ومنها هو أن تكون خطاب متكلم، لا ناطقة بلسان نفوذي ما. أريد لهذا المتكلم أن يكون "متواضعاً"، لا بالمعنى الأخلاقي، وإنما بالمعنى الإنساني والجمالي .
هذا ما جعل بعض قصائدي الأخيرة لا ينبني على متكلم في القصيدة، وإنما على عدة متكلمين، بحيث لا يحتكرها أحدهم، أو لا تصب في منحى واحد. وهو ما يصح في جمالية القصيدة أيضاً حيث أنني لا أكتفي بتراثها المرجعي الذي طالما احتكمتْ إليه، وإنما أتعامل مع القصيدة تعاملاً يقربها من المسرح كما من التشكيل، ما يوزع ويعدد وينوع أنسابها الجمالية.
* الآن وأنت في أوج الكتابة وتوهجها هل أنت كائن شعري أم كائن روائي، أم كائن شعري يشتغل في/على كينونات الفنون الأخرى؟
- أنا هؤلاء كلهم، فلا أقوى على التنكر لهذا أو لذاك. أتبناها كلها مثل مخلوقات ناشئة، لا طبيعية بالتالي. حلا لي مرة أن شبهت هذا التعدد بالبيت الذي له غرف كثيرة،على أنني شددت حينها على أن زائر البيت له أن يُعنى أيضاً بالممرات الواصلة بين غرفتين أو أكثر، وله أيضاً أن يعنى بالنوافذ فيه:حيث أن بعضها يفضي على خارجها، فيما يفضي غيرها على هذه الغرفة الداخلية أو تلك.هكذا يمكن التنبه على سبيل المثال إلى الحوار، بوصفه سبيلاً في بناء هذه الرواية مثلما حضر ذلك في بعض شعري..كما يمكن التنبه إلى "المتكلم"، كما يتحدد ويظهر في روايتي، وفي بعض شعري أيضاً.
ولو شئتِ الإستمرار في الإضاءة هذه لقلت بأن الدكتور مصطفى الكيلاني تنبه في كتابه عني، "شربل داغر: الرغبة في القصيدة"، إلى أن هناك نسقاً تداولياً يتعين في كتاباتي كلها، وأبعد من الشعر نفسه، إذ يجد بأن التداول يصيب بحوثي في منحاها التحليلي كذلك.
* الذات الشاعرة أو الذات الشعرية هل تكتمل في النص، في لذته في احتراقاته، في تجاربه، أم تبقى تشتغل على خراباتها وطموحاتها دون أن تكتمل؟
- جميل ما تسألين، ويذكرني بما قاله هيراقليطس، الفيلسوف الإغريقي، في معرض آخر، أي حديثه عن السابح في النهر، وعن أنه يغتسل بالماء مرتين، طالما أنها جارية. أشار الفيلسوف بذلك إلى جريان الزمن، وهو ما يحمل التجديد في حده الزمني على الأقل. أما الشاعر فما عساه أن يقول بين ما يكتبه وما يطمح إليه، بين ما يكابده ولكن مثل مسافر في طريق: يحلو له الوصول، على أنه أشبه باستراحة قبل استعادة المسير!
* قصيدتك الطويلة "وليمة قمر"، التي ترجمت مؤخرا للفرنسية، بماذا كانت تحتفي ؟ وهل الترجمة أبقت على نفس توهجاتها الأولى؟
- سبق للشاعرة فينوس خوري أن ترجمت أجزاء من هذه القصيدة، قبل أن تقدم المترجمة الفرنسية كريستين زيمر على ترجمتها ونشر أجزاء منها في مجلة "أوروبا" في عددها الأخير. ومن يعود إلى الترجمتين يلاحظ فروقات هنا وهناك ، بل يقوى المتابع – لو شاء – أن يختار أقساماً من هذه الترجمة كما من تلك. وهو مثلٌ ظاهر على ما أذهب إليه دوماً، وهو أن الترجمة تطلب الأمانة طبعاً، إلا أنها فعل كتابي قبل كل شيء. وهذا يشير إلى اختلافات وتباينات، من جهة، وهذا يعني أن التفاضل ممكن بينهما، من جهة ثانية. كما أريد أن أقول أيضاً أن الترجمات التي "تخون" أصولها (من دون تعمد بالضرورة) قد تأتي أجمل من الترجمات "الأمينة" للنص عينه.
* ما معنى أن يمشي الشاعر في حذاء جريح ؟
- هذا القول مستقى من رامبو، من إحدى قصائده، حيث يتحدث عن مشيته وعن وجعه في المشي. وهو ما استعدته في إحدى قصائدي حيث طلبت علاقة بين المشي والتحسس والمعاينة هي التي للشاعر في تنقله، في تحسسه الحيوي والحركي في الوجود، على أنه ما يصغي إليه في توجهه إلى القصيدة.
* كيف هو حال الشعر الآن... و هل يمكن أن تستشف حاله غدا أو بعد غد بعيد ؟
- الشعر يتجدد في عالم العربية، وتزيد رقعة كتابته وانتشاره، على الرغم من الشكوى أو من الحديث عن ضموره أو نضوبه أو تراجعه. وما ينقص الشعر هو درسُه في المقام الأول، إذ أجد أن حراك الشعر لا يسعه، ولا يصفه، ولا يحلله النقد في صورة كافية ومرضية.
* هل ننتظر روايات أخرى ؟
- لا أحسن الجواب عن هذا السؤال، لأنني لم ألتزم، ولا أريد أن ألتزم بأي تعهد من هذا النوع. ما يمكنني قوله هو أنني استعذبت كتابة الرواية، فيما الشعر عملية مؤلمة، حتى أنني أتحاشاها مثل رافع الصخرة يوماً بعد يوم، التي لا تلبث أن تسقط من جديد ويقدم على رفعها مرة ثانية وثالثة. أيعني هذا أنني سأعود إلى السرد من جديد ؟ ربما. هذا ما لي أن أعرفه قبل القارىء بقليل، من دون أي تعهد مسبق.
* في الأخير ماذا يوصي هابيل فيك، ماذا يقول، ماذا ينثر؟
- يحصل لهابيل بعد وقت، وبواسطة أحدهم، ما كان له أن يقول. أما ما يوصي به فهو القدرة أو الرغبة في التكالم، وهو ما نفتقده بين الحاكم والمحكوم، بين الوالد وولده، وبين بلادنا والضاغطين عليها من هنا وهناك.

(جريدة "النصر"، قسطنطينة، الجزائر، 18-2-2008).