مع عزيزة علي : الكاتب تحت عباءة القبيلة

 

يعد الدكتور شربل داغر من أبرز المثقفين المهتمين بالشأن الثقافي والإبداعي، ولديه العديد من المؤلفات في مجال النقد الفني والجمالي والأدبي وغيرها.
وقد أثرى الدكتور داغر بكتاباته المكتبة العربية، والمشهد الثقافي العربي، بالعديد من كتبه التي تناولت الشعر العربي الحديث والنقد وجماليات الأدب (...).

* صدرت لك رواية تحمل عنوان: "وصية هابيل"، وهي العمل الروائي الأول لك بعد مشوارك الإبداعي في مجال الشعر والنقد. ما الأجواء التي كتبت فيها روايتك؟
- لا أعرف إن كان في إمكاني تسميتها بالرواية. هذا أحرجني لما عرضتها على الناشر الأستاذ رياض نجيب الريس، الذي سألني – بعد أن تحقق من شكلها الجديد – عن نوعها الفني، فأجبته بأنها من السرد، فقال لي: "هذه التسمية لا تصلح للغلاف"؛ فاتفقت معه بشيء من التردد بأنها رواية. وهذا ما صدرت به.
لقد كتبت القسم الغالب من الكتاب في أيام الحرب التي عصفت في لبنان في صيف العام 2006، من دون أن أعرف ما إذا شكلت كتابته نوعاً من الهرب الخلاصي، أو إتقاء من الموت الداهم بكتابة الوصية، بتسجيل السيرة قبل فوات الأوان. ما أعرفه هو أن هذا الكتاب كتبني، أي شاغلني، قبل أن تندرج حروفه فوق بياض الحاسوب. كما إنه تقدمني في أحوال أخرى مثل غابة لي أن أكتشفها، لا أن أتنزه فيها. وهو في ذلك لا يختلف كثيراً عن طريقتي في كتابة الشعر، حيث أن خطواتي إذ تتقدم خلف مجهولها تستدرك وتصوب وتستعيد.
* أنت أكاديمي وشاعر وناقد، لماذا دخلت عالم الرواية؟ وماذا ستضيف لك هذه التجربة؟
- أنا، بالمعنى الكتابي، هذا وذاك وأولئك وغيرهم في الوقت عينه. ويحق لك طرح هذا السؤال إذ أن الإقبال على رواية يبلبل حتى قائمة مؤلفاتي. فأنا، كما تعلمين، وزعت كتبي بين أربعة محاور: الشعر، الأدبيات، الجماليات والترجمة. أين أدرج هذا الكتاب؟ هذا ما لا أحسن الجواب عنه، لا لأسباب تصنيفية وحسب، وإنما لأسباب كتابية أيضاً.
ويزيد من حيرتي هذه هو أنني أنساق في كتابتي الشعر، كما ظهر جزئياً في مجموعتي السابقة: "لا تبحث عن معنى لعله يلقاك"، وكما سيظهر بقوة أكبر عند صدور مجموعتي الشعرية القادمة، صوب أشكال كتابية مغايرة تماماً لما هو سائد ومعروف. ففي ما أكتب شعراً أنحو صوب تشكيلات نصية تستقي عناصرها وأشكالها من أنواع أدبية مختلفة مثل المسرح وغيره. وهو ما يتضح كذلك في كتابتي السردية حيث أنها تنحو هي بدورها صوب أشكال حوارية.
في إمكاني طبعاً أن أجد تفسيرات نظرية ونقدية لما أقدم على كتابته، وكيف يتنزل سواء في نتاجي، أو بالاختلاف مع نتاجات غيري، إلا أنني أجد أن مثل هذه التفسيرات لا تكفي أبداً طالما أن ما يشدني إلى هذه التشكلات الكتابية يبقى أبعد غوراً في النفس، وأعمق تعبيراً عنها.
لهذا لا يسعني الجواب تماماً عن السؤال الذي تطرحين، إذ أنني أبدو مندفعاً صوب هذه الأشكال الجديدة كما خلف رغبة غامضة. وهي رغبة أنساق إليها أكثر مما أتقدم فيها، وأعاودها كما في لقاء الشهوة الأول.
* ماذا أردت أن تقول في هذه الرواية ولم تستطع أن تقوله في كتاباتك الأخرى؟
- يتذمر أحد المتكلمين في الرواية من لفظ "الإفصاح"، حيث أنه يشير إلى رغبة صريحة أو إجبارية في القول، بل في الاعتراف أيضاً. وهو ما يتجنبه المتكلم، ويتحاشاه، لا لأنه "يخجل" أو يريد أن "يتستر"، وإنما لأن في القول، في السرد، ما يوجع. فكيف إذا كان الوجع هذا له وقع رصاصة قديمة في جسده، فلا يحسن انتزاعها منه، بعد أن "تآخت" (كما يقولون في العربية الدارجة) مع جسده!
ذلك أن العودة إلى جرح قديم، وإن اندمل، تفضي على مياه جوفية، هي الدمع المخزون، والساخن في عتمته الساهرة. تفضي على الوجع في البيت، في المشهد العائلي، على أنه نزاع مكتوم، مؤجل ربما. قد ينفجر في صراع دام، كما بين قايين وهابيل، من دون أن نعرف أسبابه الفعلية. وقد ينفجر في رصاصة طائشة أو مفاجئة، أو مبيتة... لهذا قد تكون الرواية نوعاً من وصية مستلحقة، إذا جاز القول، لمن لم يتح له كتابتها في حينها. لعلها وصية بالواسطة، يتكفل بها واحد عن الآخر، عن سلفه البعيد، عن شبهه الأكيد.
* هل هذه الرواية هي خطوة أولى في كتابة الرواية، وستتبعها أخرى؟
- هذا ما لا أحسن الإجابة عنه بعد، إلا انني أميل إليه من دون أن أعرف ما إذا كنت سأقدم عليه في مرة ثانية وثالثة.
* في الكتاب تعتمد على تقنية الحوار، وكذلك في بعض شعرك الأخير. لماذا؟ ماذا تعني لك هذه التقنية؟
- انسقت إلى هذه التقنية، منذ مجموعتي الشعرية الأخيرة، "لا تبحث عن معنى لعله يلقاك"، بل قبل ذلك بكثير، لمن يطلب الدقة. إذ أن العودة إلى مجموعتي الشعرية الأولى، "فتات البياض"، تظهر انشغالاً بيناً بالحوار، بل بالمسرح كشكل فني واستعارة للقصيدة ككل.
لا أريد من ذلك الإشارة إلى أن هذا الشكل أصيل أو قديم في تجربتي الكتابية. فقط أريد أن اشير إلى أن الكتابة كصيغة مسرحية، حوارية، تشغل كتابتي إلى جانب غيرها منذ عهد بعيد. إلا أن هذه الصيغة حضرت بقوة في كتبي الأخيرة، حتى أنها باتت شكل الشكل، إذا جاز القول. وهو ما سيظهر بوضوح أشد في مجموعتي الشعرية القادمة.
أما اندفاعتي المزيدة إلى هذا الشكل فتعود في بعضها إلى أسباب واعية، أريد منها، في الرواية، الفصل بين الكاتب وبين الراوي، وفي القصيدة بين الشاعر وبين المتكلم. فالقصيدة في شعرنا، ولا سيما الغنائية، تتمحور حول أنا الشاعر تمحوراً يكاد أن يكون نرجسياً، و"متضخماً". وهذا يصح في الشعراء الذين يخاطبون الوجود والكائنات من عليائهم، مثل أدونيس وغيره. كما يصح في الشعراء "الهامشيين" أيضاً، الذين يكررون التجربة التعبيرية نفسها، ولكن بمؤشرات سلبية. أدونيس وأقرانه يتحدثون عن الريح والجرح والوردة وغيرها، فيما ينصرف "الهامشيون" إلى السيجارة والمقهى والتسكع وغيرها. هؤلاء كلهم يتصرفون تجاه اللفظ تصرف المالك، القادر على التسمية والتعبير، فلا يرقى هذا ولا ذاك أي شك، أي تردد، في ما يقول، أياً كان ما يقول. هو القول المبرم، هو القول الفصل، ما يشير إلى رجع ديني مترسب أو متماد في القول، حيث أن الكاتب أشبه بالداعية في مجتمع أمي، يتفنن في ما يقول، بل يظهر دوماً مقدرته على الإبهار والإعجاز...
وهذا ما يمكنني قوله في كتابة الروائيين، ولا سيما منهم من يُقبلون على كتابة السيرة الذاتية، إذ أن ما يكتبونه يقدمونه على أنه نقل أمين لسيرتهم، فيما هو اشتغال روائي بها، حتى لو كانت النية صادقة وأمينة. كيف يمكن لمحمد شكري، بعد أكثر من عشرين سنة على الوقائع التي يسردها، أن يتذكر أن الأزهار فوق طاولة المقهى كانت اصطناعية، وأن هذا أو ذاك من رواد المقهى سعل لما قال أحدهم هذه الجملة أو تلك... هذه كلها من ضرورات الكتابة، لا الذاكرة.
لهذا سعيت، في قصيدتي، أن أجعل لها متكلمين عديدين، فلا يتعين واحد منهم على أنه "أنا" الشاعر، ولا يحتكر أحد المتكلمين "حقيقة" ما للشاعر أن يقول أو يدعي. فالمتكلمون يتبينون القول، أو يُقبلون عليه، مثل جوقة أصوات، مثل احتمالات مختلفة بل متضاربة أحياناً للمعنى. فلا يختفي هذا المتكلم لصالح آخر، بل يتشارك أكثر من متكلم، وعلى اختلاف وتباين، في بناء القول. فلا يعود هناك معنى بعينه، ولا "رسالة" بعينها، بل يصبح هناك تقليب للمعنى يتيح للقارىء بدوره أن يتعدد، أن يتوزع، وأن يشارك هذا ويأنف من ذاك.
وهو ما سعيت إليه في روايتي، إذ أنها تقع بين الرواية والسيرة الذاتية، عدا أن السرد يقيم التعدد في من هو شربل داغر، في ما له أن يقول، في ما هي سيرته ووقائعها الصحيحة، وفي ما يمكن أن يحدث فيها من وقائع متخيلة، غير حاصلة أساساً.
إلا أن لاندفاعتي هذه أسباباً أبعد غوراً في النفس، على ما أتحقق وأعايش في تدافعات الكتابة. إذ أنني بهذا الشكل الحواري أتعدد وأتوزع. وهو ما يروق لي، إذ أنني أشبه المسافر في القطار: هو لا يصل، وإن ركض بين الحافلات، إلا عند وصول القطار إلى محطته، وهو مع ذلك قد لا يتوانى عن التحرك، وعن الجلوس وفق وجهة القطار أو عكسها...
* هل يمكن الحديث عن صلات أخرى تجمع بين روايتك وشعرك؟
- يمكن الحديث عن وجه آخر، وهو أنني عولت كثيراً في شعري على السرد، وهو ما تناوله أكثر من ناقد، حيث تحدث بعضهم عن "المشهدية" في القصيدة، وهي تعبير مكثف عن السردية هذه. وهي رغبة في الإخبار، مبثوثة هنا وهناك، من دون أن أتبين الداعي إليها. أللحرب اللبنانية صلة بهذا، بوصفها هددت مادياً بزوال ما كان عليه بعض هذا التاريخ، الفردي كما العام؟ وهو ما يمكن التساؤل عنه أيضاً إثر إقامتي المديدة في باريس، ثم عودتي إلى بلدي من جديد: ألهذه صلة بالسرد، بعد أن بات الماضي القريب، ومشاهد السيرة الشخصية، محل نظر مختلف، مغاير بالضرورة، بعد طول تغرب؟
وقد يكون الجواب الأنسب عن هذا كله هو القول بأن للسرد تقنيات أستسيغها وأحاول كتابتها، بما يوسع من أسلوب كتابتي، ويعدد متعتي.
* على هامش الحديث عن الرواية، كيف ترى حال الرواية في لبنان بظل التحولات والتغيرات التي تمر على لبنان اليوم؟
- هذا سؤال كبير، وأتركه لغيري من النقاد. ما يسعني قوله هو أن الرواية اللبنانية تعيش أحسن أيامها منذ عشرين سنة على الأقل، إذ ظهر أكثر من روائي جديد، ووجد مكانته الأدبية المرموقة، سواء في عالم العربية، أو مترجماً إلى لغات أجنبية.
هذه الرغبة في السرد تسبقني، إذا جاز القول، ولعلها تشملني معهم، على الرغم من أن لي أسباباً خاصة قادتني إلى السرد، وهي لا تتعين في الحرب التي سعى إلى كتابتها أكثر من روائي بينهم، وإنما تتعين في أسباب فردية وتعبيرية خاصة.
* لنطرح السؤال بشكل آخر، وهو: برأيك ما هي أهم التطورات التي حصلت للرواية اللبنانية والعربية بشكل عام؟
- الجواب عن هذا السؤال متوسع بالضرورة، وهو ما لا أقوى عليه، وفي هذه الحدود الصحفية. ما يمكنني قوله هو أن النوع الذي أقدم على كتابته محدود للغاية، حيث ان الروائيين العرب قلما يقبلون على كتابة سيرهم الذاتية. فلو وضعنا جانباً "أيام" طه حسين، و"عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم، و"الخبز الحافي" لمحمد شكري، وغيرها من الأعمال السردية المحدودة على أي حال، لتبين لنا أن الإفصاح السيري غير محمود في الكتابة العربية. حيث أن الكاتب يتمنع عن البوح، عن كشف الحياة، كما لو أنه كاتب عمومي بمعنى ما. حتى أدونيس وضع على أحد كتبه عبارة: "سيرة ثقافية"؛ وهو ما فعله هشام شرابي بدوره في كتابه "الجمر والرماد".
ليس كل كاتب ملزماً بالضرورة برواية سيرته، ولا هذا دليل حداثة حاسم، إلا أن امتناع غالبية الكتاب العرب عنه دالٌ في حد ذاته على خشية اجتماعية بينة، تجعل الكاتب مختبئاً تحت عباءة القبيلة بمعنى ما. وهو ما يظهر في صورة أبين لو تتبعنا سِيَر "النجوم". فلا أم كلثوم، ولا محمد عبد الوهاب، ولا فيروز على الأرجح، ولا فاتن حمامة، ولا هذا ولا تلك، خلفوا لنا، أو ساعدهم أحد الكتاب على كتابة مذكراتهم أو سيرهم الذاتية.
وهذا ما ننتبه إليه في صورة مواربة لو تتبعنا المسلسلات التفزيونية، أو الأفلام، التي تروي حياة هذا أو ذاك من المشاهير. ففي مسلسل عبد الحليم حافظ، على سبيل المثال، لا تظهر قصة حبه بل زواجه من سعاد حسني... وهو ما يمكن قوله في قصة نزار قباني أو غيره.
* كناقد وأكاديمي كم يرضخ نصك لهاجسك النقدي؟
- هو يرضخ له بالضرورة، قبل الكتابة وبعدها خصوصاً. ذلك أن خياراتي أو ثقافتي النقدية تقع في عدة الكتابة من دون شك عندما أقبل عليها. وهي تقع بعدها حكماً، عندما أنصرف إلى مراقبتها وضبطها وتنقيحها وإجراء التعديلات فيها.
وهو أمر لا أنكره، ولا أتجنبه، خاصة وأنني أعترف أن الكتابة مهنة، لها عدة احترافية بالضرورة، ولا يجوز أن تبقى أسيرة نظرة "تلقائية" عن الأدب.
* كيف تتعامل مع النقد الذي يوجه إليك؟
- أميز بين نقد ونقد. بين نقد عجول ومتسرع، وربما استنسابي أو تذوقي، ونقد متشدد وصارم. إلى هذا أعتبر النقد وجهة نظر في الأدب، وليس لي أن أرضى بها أو أن أرفضها مثل "حكم"، بل بوصفها مسعى في الفهم والتأويل. والنقد يعيد نظرتي إلى ما أكتب إذ يعرض لي وجهات نظر أفيد منها، بمعنى أنه يدلني على أشكال قبول كتبي من قراء اختصاصيين ومن دارسين محترفين.

(مجلة "قوافل"، الرياض، العدد الرابع والعشرون، آذار-مارس 2008).