عندما ألتقي بصديقي الدكتور شربل داغر يتوارد إلى ذهني، وبصورة لاشعورية، الدكتور بشر فارس الأديب اللبناني المتمصر، الذي كان وجهاً معروفاً في الأوساط الأدبية المصرية واللبنانية والعربية في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي. ذلك أن كلاً منهما شاعر، على الطريقة الحديثة غير الكلاسيكية بالنسبة لعصرهما، كما أن كلاً منهما باحث وخبير في قضايا الفنون بعامة، وقضايا الفنون الإسلامية بخاصة. وقد ألح كل منهما على الشعر، وعلى أن يلتصق به، ويوصف به، بالرغم من أن لهما نتاجاًَ بحثياً ونقدياً وفكرياً وافراً.
وفي الحوار التالي نتعرف إلى جوانب من شخصيته وتجربته الشعرية والأدبية. وهذه الأخيرة حصيلة ثقافة عربية وأجنبية معمقة، وحصيلة سياحات في النفس والقلب والروح، وفي الجغرافيا والتاريخ بالطبع:
* آخر إصداراتك كتاب شعري بالفرنسية، بعنوان "عتمات صاحية" عن "دار لارماتان" في باريس، أعده وترجمه الدكتور نعوم أبي راشد. وهذا بعد ترجمات إلى لغات أخرى: ماذا تقول فيها وأنت مترجم بدورك لرامبو وريلكه وغيرهم؟
- ما أعرفه واحد، وإن ينطلق من تجربتين مختلفتين: ما أصاب شعري عند ترجمته، وما أصاب قصائد عندما ترجمتها إلى العربية. خلاصة هذه المعرفة، المعززة بتدريسي لمادة الترجمة الأدبية في الجامعة، تقول بأن الترجمة تقع حكماً بين النقل والتأليف، مهما علت أمانة المترجم في عمله. ذلك أن اللغات لا تتطابق أبداً، ويستحيل إيجاد معادلات تامة بين لغتين. بل يزيد من حدة المشكلة كون العمليات هذه تشمل الشعر، لا الرواية أو المسرحية وغيرها. فالشعر يبقى الاشتغال العالي في اللغة وبها، إذ يقترب من الدلالات فيحيد بها عن جاريها، ويقترب من التراكيب النحوية فيبتعد في أحيان كثيرة عن المستعمل والمتفق عليه في الأساليب الكتابية. فكيف للترجمة أن تستقبل ما يربك ويقلق العبارات والمعاني في ركونها، في استعمالاتها المعجمية؟!
للترجمة طبعاً أن تكون شديدة الأمانة، إلا أنها ليست ممكنة إلا بما تتيحه اللغة نفسها، لغة الاستقبال نفسها، وبما تتيحه أيضاً ملكات المترجم نفسه في الترجمة، وفي معرفة اللغتين. لهذا تقع على قصائد جميلة من دون أن تكون أمينة تماماً، وعلى ترجمات متعددة للقصيدة الواحدة، وعلى قصائد أمينة من دون أن تكون جميلة. بات من اللازم - على ما أقول وأدافع - أن نقر بأن للترجمة مقاماً تأليفياً خاصاً بها، وبأنها ليست طيفاً أو شبحاً هارباً أو متدهوراً من نص على أنه الأصل.
* لماذا اخترت الشعر وسيلة للتعبير، إلى جانب طرق كتابية أخرى تمارسها؟
- كتبت وأكتب في سبل مختلفة، من تاريخ الفن إلى فلسفته، ومن تاريخ الأدب إلى نظريته، كما صرفت مجهودات وكتباً كثيرة للترجمة، إلا أن للشعر إغراءه الأشد. في هذا ما يخيفني ويثيرني في آن. أسعى خلفه، قصيدة تلو قصيدة، من دون أن أكل عنه، أو أن يروي عطشي. اللذيذ والمحير في القصيدة هو أنها أولى وأخيرة في آن. أنتهي من الواحدة منها كما لو أنني بدأت وانتهيت. وأقبل على كتابة غيرها بمثل الإحساس هذا. لعبة بمعنى ما، تستنفد الرغبة فيما تجددها واقعاً.
* تتحدث في مقدمة مجموعتك الشعرية الأخيرة، "إعراباً لشكل"، عن اللعب: ما تقصد بذلك؟
- بل يمكن الحديث أيضاً عن المكر، إذ يعني، في حسابي، المحاولة، والإقدام، والسعي، وهو أشبه بالمراودة أو بالتحرش الجنسيين. فالكتابة، على ما كتبت، "مناورة حية" فعلاً. مناورة فيها جنود ورصاص وحركات عسكرية، التفافية وهجومية وانكفائية وغيرها. على أنها من باب اللعب طبعاً، والجاد أيضاً، إذ نعود منها مختلفين بالضرورة.
* غير أنك لا تتوانى في شعرك عن الحديث عن "مقابر ضاجة"، أو عن "مواطن بالوكالة": ألا ترى في الأفق ضوءاً جديداً؟
- أرى في القصيدة ضوءاً جديداً، أكيداً، ليس في شعري وحسب وإنما في غيره أيضاً. وهي فسحة ضوء في فضاء من المتخيل ليس إلا، فلا تعوض بأية حال عن العتمة المقيمة، المحيطة.
ذلك أنني أرى أن قيمة الموت، قيمة السالفين، يرسمها البعض لنا أشبه بأفق لحاضرنا. هذا ما أراه في الخطاب، في مديح الموت، في "مقبرة ضاجة"، كما قلت في إحدى قصائدي. هؤلاء الموتى مقيمون في القصيدة أيضاً، في طلب المناعة المستدامة لها، فيما تحيا القصيدة في هواء التغير، الذي يهددها دوماً بالفساد، بالخسران، بالفقدان، بالتلوث. من دون هذه الجسارة على التعدي، على الانتهاك، على أن نكون أنفسنا ابتداء من حاضرنا، لا تصل الحياة إلى قصيدتنا.
* تشير أكثر من قصيدة لك إلى أحداث ماضية، إلى سيرتك الذاتية، على ما يبدو. لماذا؟ ما الذي يبرر هذا الخيار الشعري؟
- القصيدة، أياً كان موضوعها، هي فعل حضور قائم بنفسه، بما تعنيه من إقدام أحدهم، أي الشاعر، على الاشتراك في حوار يسبق القصيدة بالضرورة. القصيدة فعل حضورٍ بتركيب الكلام، وبميلِ الكلام في التعبير. هذا يصح في أية قصيدة، لي أو لغيري، وإن كان موضوعها الماضي، أو الحنين أو التذكر. فهذه كلها أفعال تصدر عن حاجة لازمة، في حصولها، في قولها، في وجهاتِها التعبيرية والجمالية.
الشاعر لا يجلس لكتابة سيرته، مثلما يفعل شاعر أو سياسي في خريف العمر أو شتائه عند كتابة السيرة أو الذكريات، حتى وإن طلب الاستعادة في القصيدة. فما يملي على القصيدة حصولها إلحاحٌ أكيدٌ في الراهن، في الحاجة إلى التعبير...
* ماذا عن "شربل" أو "شربل داغر"، الذي تتحدث عنه على أنه كائن شعري على الأقل، بل تذكره اسماً في متن قصائد مختلفة، ومنذ مجموعتك الأولى: "فتات البياض"؟
- يقول سرفنتس ما نصه: "أنا بالطبع كسول لكي أقتفي الأدباء الذين لهم أن يقولوا لي ما أحسن قوله بنفسي ومن دونهم". كما يقول أيضاً: "فيما انني، خلافاً لما يظهر بوصفي الأب الفعلي (لهذا الكتاب)، لست سوى أب بالتبني لدون كيشوت". كما يضيف في تعريف علاقته بدون كيشوت: "كل كائن يولد شبهه".
كان يمكن لي أن أكتفي بأقوال سرفنتس هذه، وهي عندي أولى تعريفات الكاتب "الحديث"، من دون شك، إلا أنني طلبت أشياء أخرى تتعدى التماهي بشخصية أسطورية أو متخيلة، وهو ما عرفه الشعراء "التموزيون" في الشعر العربي الحديث بدورهم... طلبتُ، بل أجريتُ اللَّعب في القصيدة مع نفسي، مع أصواتي، مع ملكتي الكتابية، مع متخيلي... وهو ما يتيحه الشعر - إن شئنا طبعاً - في كل انعطافة للفظ، أو لمبنى عبارة. بل أقدمت في مجموعة "إعراباً لشكل" إلى الحديث عن "شربل داغر" بوصفه "الكاتب العدل"، أي الذي يوقع العقود عن غيره، ويشهد على صحة تواقيعهم. وهو نوع من التعيين أردت منه الحديث عن أن القصيدة مغفلة، لا تعرف بالضرورة ما تقوله. هذا ما يجعل القصيدة صعبة التملك الصريح من كاتبها.
* متى "أردت" أن تكون شاعراً؟ ومتى "أصبحت" شاعراً؟
- يروق لي هذا السؤال، أي صياغته وتمييزه بين حالين لا نفرق بينهما في أحيان كثيرة. والجواب عن هذا السؤال لا يعين في حسابي التمييز، على ما هو جار ومعروف، بين الهواية والاحتراف، وهو المعنى الأول الذي يقفز إلى الذهن، وإنما التمييز بين كاتب وكاتب في نطاق الاحتراف. ذلك أنني كتبت في صدر مجموعتي الشعرية الأولى، "فتات البياض": "إلى شربل: لئلا يصير شاعراً".
هناك خشية من بلوغ رتبة الشاعر، لا من الشعر بالضرورة. ذلك أنه اعترى قبولي بتسمية الشاعر شيء من التردد، ومنذ هذا الوقت المبكر. هكذا ترددت بين نشر أول قصيدة لي، في صيف العام ،1971 في الملحق الأدبي لجريدة "النهار"، وبين نشر أول مجموعة شعرية في العام ،1981 عدا أنني لم أقدم على نشرها إلا بعد إلحاح وتدبير من الصديق الشاعر محمود درويش . ولقد انقضت فترة أطول بين المجموعة الأولى هذه ومجموعتي الثانية، "رشم"...
هذا التردد يلازمني، وإن تتالى صدور المجموعات الشعرية في السنوات الأخيرة. وهو نوع من الانتحاء بالشعر إلى جهات خافية، حميمة، تقع بيني وبين غيري، وتقع بيني وبيني، أي بين أصواتي وتموجات هويتي. فالشعر هو السبيل الوحيد الذي يقيمني في هذه المنطقة الرخوة، الغامضة، الأشد قرباً من مكوناتي، من احتمالاتي. فهو محاورة مع النفس قبل أن يكون تبليغاً، أو إفصاحاً، مثلما هو عليه شعرنا. والشعر هو الأصوات التي تتناهب ملكتي التعبيرية، وتتملكني في ما أقول.
* عُرف عنك، إلى كونك شاعراً، اشتغالات عديدة في الفن، بين تاريخ ونقد ودرس جمالي، إلا أنك قد تعديت هذا الدور في معرض "تواشجات" الذي كرسه لك "المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة"، لتكون موجهاً لعمل إبداعي يشمل سبعة فنانين عرب مرموقين: ترى كيف مارست في هذا المعرض دور المحرض من خلال قصائدك؟
- تروق لي صفة "المحرض"، لا "الموجه"، ذلك أن علاقاتي بهذا المعرض، وبهؤلاء الفنانين، نشأت من إقبالهم الحر والطوعي على قصائدي، ومن عمل بعضهم السابق على إنتاج أعمال فنية باستقلال عن هذا المعرض، وقبل تبلور فكرة قيامه. لكنه يصعب علي، بالمقابل، الحديث عن دوري المحرض، إذ أن السؤال يتوجه إلى الفنانين قبلي. ولو كان لي أن أستعين بأقوالهم وتصريحاتهم الصحفية، لذكرت ما قالته الفنانة الأردنية وجدان، بأن مطالعتها لقصائدي أحدثت في نفسها، بل في أدواتها الفنية، تغيراً فنياً حاسماً تنبه إليه غير زائر وناقد عندافتتاح المعرض. هذا ما قاله بدوره الفنان المصري محمد فتحي أبو النجا، الذي أفاد أنه أقبل على قراءة قصائدي، وعلى اختيارها مواد للتشكيل، بعد أن تحقق من "ملمسيتها"، وفق تعبيره، أي من كونها تتحدث عن عالم مادي، حسي، ملموس، وهو ما يقوم عليه عمله الفني.
انه لمن دواعي غبطتي أن يكون الشعر، لا شعري تحديداً، قد فعل فعله الحيوي في العمل الفني، ولا سيما في ثقافتنا التي تراخت فيها مثل هذه العلاقات، وتراجعت فيها أسباب التفاعل، إذ ينغلق كل فن على كبرياء تميزه ووحشته في آن. وإذا كان بعض الفنانين العرب قد وجدوا في شعري ما حفز مخيلتهم، فإنهم يستعيدون، في ما يخصني، بعض ما أحدثه فيَّ إمعاني على قراءة اللوحة، وتتبعها، والتملي من مبانيها ومن فتنتها الآسرة. فأنا أعاشر صنوف الفن البصري بمتعة خالصة، فضلاً عن أنها مدونة أفيد منها في تعلم كيفيات بناء النص الحديث. فلطالما أعانتني معاشرة اللوحة في قراءة ما يمكن أن يكون عليه الاجتهاد في التأليف. لقد عايشت اللوحة عن قرب، ووجدت فيها ما يدلني على الشعر.
ولقد وافق هذا الميل دراساتي في الشعر وقبل الفن نفسه، إذ تنبهت إلى أن قسماً كبيراً من شعرنا يكاد يخلو من معاينة بصرية لما يتحدث عنه، ويكاد أن يكون خلواً من لون وهيئة وشكل، غارقاً في لفظانية تنهل من سجلات الخطاب، لا من تبر الوجود.
* الشعر والرسم والنقد التشكيلي تلتقي في إنجازك الإبداعي، هل يحدث أنك ترسم قصائدك، أو تفكر بالرسم شعرياً؟
- هذا ما تنبه إليه غير ناقد لشعري، مثل الناقد العراقي فاروق يوسف الذي تحدث في إحدى دراساته عن "المجاز البصري" في قصيدتي، وهو ما تكلم عنه بدوره الناقد المصري أمجد ريان إذ تحدث عن "الشعرية المشهدية" في شعري. وهي أوصاف وتعيينات للقصيدة أستسيغها، بعد أن تنبهت في دراساتي بدوري، إلى أن الشعر العربي، في قديمه خصوصاً، ابتعد عن الملاحظة، عن المعاينة، واستغرق في الذهني أو الوجداني، المنمط والمتكرر، لدرجة تخال فيها هذا النمط أو ذاك يتلفظ، أو يتكلم بلسان الشاعر. وهذا ما وقع فيه أيضاً بعض الشعر الحديث...
هذا ما أنساق إليه في صورة واعية ولاواعية في كتابة القصيدة. هذا ما أبنيه ويبنيني في آن، إذ القصيدة، في حسابي، مثل اللوحة مدونة دالة ونافذة مطلة على غيرها، على خارجها. وفي غير قصيدة أتحقق من أنني أعامل الورقة مثل لوحة، على أنها جديرة ببناء. أو مثل باب يفضي إلى خارجه، وينغلق على ما يحتويه.
مثل هذا التعايش والتبادل بين الشعر والرسم لا يصدران وحسب عن وعي بجمالية القصيدة، وعن مستويات التعبير فيها، التي لها كما للوحة الفنية، وإنما يصدران أيضاً عما أعينه في كلامي عن "التجربة": فكتابة القصيدة تصدر، كما رسمُ اللوحة، عن تجربة، أي أنها تتحقق في عمل متماد على مواد، وعلى استظهار صورة منها. وفي التجربة يتم دعكُ السابق، وتعريضُه لأحوال لا تبقيه على ما كان عليه، بل تتيح له إمكانات عيش وظهور مختلفة. فالقصيدة لا تقوم لها قائمة، في هذه التجربة، من دون أن تعود إلى خارجها، إلى ما يحيط بها، أي إلى الإنسان والعالم في آن، ما يجعلها تحاور وتستعيد أصداء. لزومُ الصورة متأتٍ، إذن، من لزوم التجربة، من لزوم التحاور الجاري في القصيدة، بينها وبين ما تتحدث عنه.
* صدرت لك في القاهرة قبل سنتين مختارات شعرية بعنوان: "غيري بصفة كوني" عن "دار شرقيات للنشر والتوزيع": ماذا يعني هذا العنوان بالنسبة إليك؟
- يشير إلى علاقة الأنا بالآخر، إلى علاقة المتكلم في القصيدة بغيره. ويشير هذا العنوان خصوصاً إلى نشدان علاقة بالغير تتبناها الأنا وتدعو إليها، بوصفها معينة ومتممة لها. وفي ذلك يبتعد شعري عن أنوية، وعن نرسيسية، أسميتها في أحد كتبي بـ"الأنوية المتضخمة" التي تجعل القول الشعري العربي الحديث مفتوناً ومعنياً بترويج صورة الشاعر لنفسه.
* لا يزال الحديث عن "قصيدة النثر" وشرعيتها محتدماً في مصر وغيرها، فماذا تقول؟
- يهمني بداية أن أقول بأنني لم أعد أستعمل التركيب اللفظي الساري "قصيدة النثر" لتعيين هذه القصيدة، إذ أنني وجدت، في عودة إلى الأصل الفرنسي، أن المقصود منه هو: "القصيدة بالنثر"، أو "القصيدة نثراً"، أو "القصيدة النثرية". وهو اجتهاد يتعدى الترجمة الدقيقة، إذ يشير إلى محتوى التعيين كذلك. وفق منطوق الأصل الفرنسي يتم التأكيد على القصيدة، وعلى أنها مصنوعة من النثر. هذا التمييز دقيق، وهو غير شكلاني.
أما عن أسباب الصراع في مصر فتعود إلى أسباب واقعة، علي ما أظن، في اجتماعية الشعر، وإن تتسلح بأدوات نقدية أو شعرية أو تقنية. ففي مصر، على عكس ما هو عليه الأمر في لبنان على سبيل المثال، يتم النقاش حول الشعر بألفاظ قومية، جماعية، لا فردية أو في خيارات أسلوبية وجمالية، فيما انعدم هذا النقاش في لبنان وسلك الشعر سبل الأفراد، سواء في القراءات الصامتة، أو في مسالك النقد نفسها، من دون أن يقوى هذا على ادعاء مكانة متأتية من كونه "الأكثر لبنانية" أو "الأكثر وفاء لأصول الشعر"، على سبيل المثال. حتى أن شعراء التفعيلة أنفسهم في لبنان يكتبون بحماس أو بتحفظ عن القصيدة النثرية عند أقرانهم اللبنانيين، من دون حرج أو شعور بالخيانة القومية أو الجمالية.
أما في وصف الحالة المصرية، فأعتقد أن الكلام عنها لا يناسب حالها الفعلية، إذ أنها أغنى تنوعاً وتعدداً مما تظهر عليه في الكلام النقدي والصحفي. كما ان المحافظين فيها يفتقرون إلى أسلحة مجددة في النقد والنظر، إذ يريدون من الشعر أن يتخلى واقعاً عن كل مكتسباته وتوصلاته المحصلة في القرن العشرين، في مصر وغيرها، لصالح تقليدية جافة ومتعنتة، يشغلها الحفاظ على مواقعها لا التفكير المتجدد في ما تقوله.
* فنانون عرب مختلفون استلهموا أشعارك، مثل البحريني جمال عبد الرحيم والمصري الدكتور محمد أبو النجا واللبنانية إيتيل عدنان والعراقية هناء مال الله والأميرة وجدان من الأردن وفيصل السمرة من السعودية: ماذا تقول، وأنت الناقد الجمالي، في علاقة الشعر بالتصوير من خلال هذه التجارب؟
- هذه الأعمال الإبداعية تنتسب إلى فن التصوير والمحفورة، وليست أعمالاً تشكيلية-شعرية، وإن دخل الشعر، أي بضعة سطور أو النص تاماً، في نسيجها المادي والشكلي واللوني. هي أعمال تعود إلى فنانيها في المقام الأول. ذلك أن الفنانين انطلقوا من قصائدي، بعد أن أثارتهم بالمعنى الجمالي والتعبيري، إلا أنهم أنتجوا أعمالاً تخصهم، تعنيهم، في علاقتهم بشعرهم، في علاقتهم بتجربتهم التشكيلية نفسها. هذه الأعمال هي أقرب ما تكون إلى التأويل، ولا تمت بأية حال إلى الترجمة، أمينة أم لا.
العلاقة بين الشعر والتصوير شديدة التعقيد: فيها تعالق أكيد، وفيها تحريض على ممارسة التصوير بعد حدوث هزة انفعالية وجمالية عند قراءة قصيدة ما. وهذا ما يحدث للشاعر أيضاً، إذ تدفعه رؤية لوحة إلى كتابة قصيدة. هذا ما خبرته بدوري في النص الشعري، إذ أن طول معاشرتي لممارسات وأساليب الفنون الحديثة أفادني في التعرف على حقيقة النص الحديث، حيث تبدو اللوحة شبيهة بالنص. وما خبرته هو أن إقبال الشاعر على قصيدته عليه أن يكون مثل إقبال المصور على لوحته، أي أن الفنان في الحالتين يصنع عمله الفني من مواد، هي الألوان في حالة والألفاظ في حالة.
لمثل هذا التعيين أهميته الحاسمة في التجربتين، إذ أنه يفيد أن النص لا يقوم إلا بلغته، لا بمعناه المسبق، أو بقضيته أو بغير ذلك. النص لا يمثل للقارىء إلا في هيئة لغوية، ولا يقوى القارىء على انتهاجها من دون انتهاج سبل الألفاظ والتراكيب.
* تدعو، في كتاب متأخر لك عن اللوحة العربية الحديثة، إلى لزوم بناء "متن" للفن العربي الحديث، فما تقصد من ذلك؟
- الفن العربي الحديث، ولا سيما اللوحة منه، يفتقر اليوم إلى متحف يجمعه ويعرضه في أشكال تاريخية وفنية مناسبة له. ونحن مهددون بعدم القدرة على بناء هذا المتن، وعلى تأسيسه، كلما تأخرنا في ذلك. لأن أعمال فنانينا معروضة في السوق، ويبحث عنها، ولا سيما أعمال الرواد والمؤسسين منهم، الهواة والجامعون والمتاحف من خارج البيئات العربية.
طبعاً هناك جامعون عرب، ولا سيما في الخليج، إلا أنهم لم يقدموا على تأسيس متاحف أو صالات عرض لمجموعاتهم. ويزيد من حراجة هذا الوضع كون كبار الجامعين العرب لم يقدموا على توثيق أعمالهم في صورة تاريخية وتحليلية مناسبة، ما يمنعنا كذلك من التعرف الدقيق على حقيقة هذا الفن.
(مجلة "الحوادث"، لندن، 8-7-2005).