شربل داغر واحد من أهم النقاد البصريين العرب، علاوة على كونه باحثاً جمالياً وشاعراً مبدعاً، كما كتب الرواية. وهو حاصل على شهادتي دكتوراه: الأولى في الآداب، والثانية في تاريخ الفن، وقد عمل فيما بعد في التدريس الجامعي. وله حضور مميز في اللقاءات والندوات الثقافية والبصرية. وقد كان لـ"لعرب اليوم" هذا اللقاء معه، على هامش مشاركته في "مهرجان الأردن".
* أنت مثقف متعدد الإبداع ولك إبداعات في أكثر من ميدان. فقد كتبت الرواية والمسرحية والشعر ومهتم بالجماليات والفنون البصرية: نريد تحديداً ما هي العوامل الثقافية والاجتماعية وغيرها التي كونت شخصيتك؟
- سؤال صعب عليَّ قبل القارئ، إذ أنني لا أجد فيه تنفيذاً لمخطط شخصي، وإنما هو حاصل تجربة، كان لي فيها، في أكثر من محطة، خيارات وممكنات، وكان لي فيها عادة المشاء في غابة لم تألفها قدماه في السابق. الشيء الوحيد الذي يشدني إلى بداياتي هو الشعر. فأنا منذ عمر مبكر سحرتني القدرة على توليد كلام له هيئة شيء أكيد وان في الهواء. عدا هذا الأمر لم أصنع مخططاً لأي من محطات حياتي. فأنا لجهة سيرتي المهنية دخلت إلى الصحافة وأنا طالب جامعي في بيروت من دون ان أطلبها، بل اقترح علي رئيس التحرير تولي القسم الثقافي في جريدة "السفير"، وقام إنجازي حينها على أن يكون للثقافة ربع صفحة يومياً، ما لم يكن موجوداً قبل ذلك. وأنا لم أقرر مغادرة لبنان مع انطلاق الحرب فيه، بل أرغمت على ذلك بفعل تهديدات طاولت شخصي. وأنا لم أسع في باريس إلى تحصيل شهادة دكتوراة أولى في السوربون، وإنما أجبرت على ذلك، لأنه لم يكن متاحاً للمهاجر مثلي في حينها سوى الإقامة كطالب. وأنا اخترت التدريس الجامعي إثر عودتي إلى لبنان عام 1994، بينما رفضت التدريس في السوربون في العام 1982، حين اقترح علي ذلك المشرف على أطروحتي ورئيس دائرة العربية البروفيسور محمد اركون.
ولو شئت تناول مكونات سيرتي من جهة الكتابة، فيمكنني القول إن الشعر نفسه كاد أن يسقط متى بقرار ذاتي. فأنا توقفت عن كتابته سنوات طوال بعد صدور مجموعتي الأولى. أما اهتماماتي الكتابية الأخرى فهي لاحقة، تولدت في مخاض التجربة نفسها. ولو شئت التمثيل على ذلك لذكرت بأن القارئ يستطيع العودة إلى مؤلفاتي، والتنبه إلى أنها تتوزع في أربع مجموعات من دون أي توقع لما ستتولد عنه تجربتي الكتابية، وهو كتابة الرواية. وهذا ما يحيرني حتى اليوم. فلوعدت إلى موقعي الإلكتروني لوجدت أن هذا النوع الكتابي لا محل أكيداً له في خريطة الموقع. فكيف لي أن حدثتك – وأنت عارف ومساهم في النقد التشكيلي - عن كتاباتي في تاريخ الفن وجمالياته، بعد ان خصصت الدكتوراة الثانية لهذا المنحى الدراسي. ولو كان لي أن أجد دافعاً لهذه الحركة، لوجدتها في رغبة الخروج إلى العالم، إلى نوع من العطش والجوع، الذي تسحره دائماً عتمة الغابة وخفاياها أكثر من جلاء الحدائق المرسومة. وهي الرغبة عينها التي تدفعني إلى كتابة الشعر. فأنا لا أعرف الضجر في حياتي. وأنصرف إلى ما انشغل به انصرافاً تاماً، كما لو انه لن يتاح لي غير القيام بمثل هذا العمل وحده. وهذا قد يكون شكلاً من أشكال محاربة الموت، وإعطاء أسباب وجدوى لما يبدو قلقاً ومهزوزاً في ثقافتنا. وكل ما أتمناه هو أن لا يكون ما أكتبه رسالة مرمية في بحر، وإنما قول يأمل في أن يكون هذا عمله في حوار يشمله ويتعداه مع غيره.
* على ضوء مشاركاتك الدائمة في المهرجانات والبيناليات العربية والدولية كيف ترى التشكيل العربي المعاصر؟
- أعتقد أننا لا نزال في مرحلة البدايات، على الرغم من اعتقادات كثيرة تؤرخ وتسجل وتؤكد وجود مدارس وتيارات ومذاهب وأعلام وموجات. ذلك أن الثقافة الحديثة بأنواعها المختلفة ثقافة ناشئة، لا يتعدى أبعدها في التاريخ المئة والخمسين سنة. وهي فترة زمنية طويلة بالقياس إلى تجارب شعوب وثقافات اخرى. إلا أنها ليست كذلك في تاريخنا الثقافي. ذلك أن هذه الثقافة لم تتولد تولداً تلقائياً. وإنما أتت وفق مقادير من التأثر والافتعال، ما لم يوفر لها دائماً النمو السريع. كما أن هذا التولد عرف أشكالاً من الممانعة لما يستقبله، ومن التحوير له ما لم يجعله أكيد الحضور. ومن يرى بتمعن إلى هذا التاريخ سيلاحظ أنه شهد موجات كانت دلالتها الأسطع هي التعبير عن هذا المخاض الصعب. لهذا أرى أن ثقافتنا - وفيما يتعدى الآداب والفنون فيها - لا تمتلك تماماً خيارات أكيدة وتوجهات حاسمة. وإنما هي عرضة دائماً لتشقاقات ونزاعات وارتدادات، ما لا يوفر لها قبولاً ميسراً، ولا ذائقة عامة تتلقاها وتدعم مشروعات هذه الثقافة وتجددها بالتالي. وإن كان لي أن اجد علامة أستدل بها على هذا النزاع الداخلي، فإنني أجده في معادلة يقف طرفاها في موضعين متباينين: هناك المبدع والمثقف وما ينتجان وما يصدر عنهما من خيارات جمالية وذوقية وغيرها، وهناك طرف آخر هو البنية الاجتماعية التقليدية في جوانب كثيرة منها ما لا يتيح تفاعلاً وحواراً منتجين بينهما.
* قبل الدخول إلى عمق الأسئلة الاشكالية نود إضاءة اهتمامك بالتراث وقراءاتك المختلفة نوعاً ما له وتوظيفه في نصك الإبداعي والنقدي؟
- عودتي إلى التراث تلت تحصيلي لشهادة الدكتوراه الأولى (في الآداب العربية الحديثة)، وسارت في اتجاهات مختلفة، بين إعادة نظر في التراث اللغوي والانتباه إلى ما يدل فيه على موجودات الحسن ومكانته في العصور الإسلامية. ولقد وجدت في دراسات التاريخ الفني سبيلاً لإعادة النظر في كتب ومخطوطات عديدة، ما مكنني من استخراج معطيات دالة على وجود الفن الإسلامي بعيداً عن التنقيبات الأثرية ومخطوطات المتاحف في العالم. ومبعث توجهي هذا تأتى من كوني لاحظت أن دارسي الفن الإسلامي من الغربيين كانت لهم مساع أخرى في النظر إلى هذا الفن. وإذا كانت مجهوداتهم في التنقيب والتوثيق مهمة للغاية في هذا المجال، فإنهم تعثروا في مساع فهم هذا الفن. بل تعامل بعضهم معه كما لو أنه فن قديم عثر عليه من دون خطاب يسنده.
أقول هذا بعد أن توصلت إلى استخراج مادة واسعة من الكتب والمخطوطات القديمة. وبدأت ذلك مع "كتاب العين" للفراهيدي وعند عدد كبير من القدامى، كالجاحظ وأبي حيان التوحيدي وإخوان الصفاء والفرق الإسلامية المختلفة وغيرها. وقد وجدت في هذه النصوص المختلفة آثاراً دالة على وجود هذا الفن وأنواعه وأساليبه وفنانيه. كما وجدت خطاباً يمكن أن تستدل به على ما كانه الحسن أو الجمال، وعلى ما كانه الذوق والمعايير والقيم التي تستحسن أو تستقبح انتاجات أو أعمالاً أو سلوكات بعينها. وهو ما أستمر في البحث عنه في دراساتي الحالية. وسيكون كتابي القادم دائراً حول العلاقات بين الكتابي والتصويري في هذا الفن. أما لجهة إفادة إبداعي من هذا الشغل فهي أكيدة. إلا انها مبثوثة في ثنايا النصوص. والعودة إلى مجموعتي الشعرية الأخيرة، "تزانزيت"، تتيح ربما لأول مرة بهذا الشكل الصريح الجمع بين مفهوم الصورة والظهور والاحتجاب في التجربة القديمة، وبين ما يمكن أن تكون عليه في نص حديث يستعين بالحاسوب والشاشة.
* على ضوء معايشتك للحركة الفنية العربية وربما الدولية كيف ترى دورك كناقد وما هو دور الناقد بشكل عام؟
- اسمى ناقد وأفضل الحديث عن دارس للفن فيما يتعلق بعملي على رصد التغيرات والتجارب وعلى فهمها، بما يناسب تغيرانها المستجدة. وهو أمر ليس بالهين في فترة تاريخية تشهد تقلبات عديدة قد يكون عنوانها الأبرز الحديث عن موت اللوحة الصالونية. وما أسعى إلى تجنبه في هذا الدرس هو المشاركة في تسويق - وإن بشكل غير واعٍ - لفنانين على حساب غيرهم، ولفن على حساب غيره. فلا يخفى على القارىء أن الخطاب عن الفن بات جزءاً لا يتجزأ من قيمته، بما فيها القيمة التسويقية.
كما أسعى أيضاً إلى فهم الفن في ارتباطاته بفنون أخرى، ما يجعلني أطرح السؤال الأساسي، وهو ما صلة هذه الفنون بعضها ببعض، من جهة، وما هي المعايير الجمالية التي تشملها، من جهة ثانية؟ لذلك أعتقد أن لحظة الفن الحالية لحظة مثيرة ومنشطة للفكر النقدي والفلسفي، وإن كان لا يحظى دائماً بإجابات ميسرة أو جلية عن الأسئلة العديدة التي تؤرق المبدع في هذا الوضع الجديد.
* على ضوء معايشتك لهذه المتغيرات كيف ترى التشكيل العربي في ظل العولمة؟
- التشكيل العربي شريك ومتلق في هذا المشهد العريض. فهو مثل غيره من الفنون الغربية يعايش تصدعات وتغيرات، ولا يرى بوضوح بالضرورة إلى مستقبله القريب. ويعمل فنانون عديدون على اقتراح أعمال وتجارب يمكن لها أن تكون أجوبة موفقة للخروج إلى صيغ جديدة. وما يقلق في هذا المشهد هو التجاوب المتسرع أحياناً لفنانيين عرب، حيث أنهم مقلدون فيما يقترحون التغيير، وهم قلقون فيما يظنون أنهم مشاركون. وهذا يعود، كما سبق القول، إلى عدم وجود بنية ثقافية على قدر من الثبات والاستقرار. لأن من نتائج ذلك هو التقلبات وغياب التراكم الصحي والصحيح، والذي له أن يكفل التغيرات. إلا ان السواد الأهم في هذا كله، على ما أظن، يكمن في التعرف على كيفية تلقي الجمهور لظواهر الفن الجديدة، سواء في الغرب او في بلادنا. فنحن لا نعرف تماماً كيف يمكن لفنون أو لإنتاجات سريعة الزوال، مثل فن الاداء، أن تحل كقيمة مالية مكان اللوحة على سبيل المثال. ولا يسعني سوى إبداء الشك في موت اللوحة الصالونية الأكيد. ذلك أن الإنتاجات الجديدة لا تتيح في قسم منها تمكين الرأسمال من الاقتناء والندرة، بحيث يتاح لمثل هذه الأعمال القدرة على الثبات في القيمة، كما تحصل ذلك للوحة الزيتية في مدى خمسة قرون.
* في مثل هذا الوضع، ألا ترى ضغطاً من قبل جهات ومؤسسات فنية وسياسات تشجع على فنون "الأنستوليشن" وفنون ما بعد الحداثة بطريقة أو أخرى؟ وما مدى تأثير ذلك على الفن بشكل عام؟
- المشهد مرتبك وغامض. وما يبدو أكيداً فيه، هو أن لأجهزة العرض الكبرى، مثل البيناليات والمتاحف العالمية، قدرة على إنتاج الفن من خلال قدرتها على عرض الفن وما تشاء من الفن، بحيث يبدو دورها أكثر من دور الوسيط، إذ بات يقوم على إثبات دور الموجه بمعنى ما للفن. وهذا يطرح السؤال: من ينتج الفن اليوم؟ اهو الفنان نفسه؟ أهو الفيلسوف الجمالي؟ أم هو مؤسسة العرض الكبرى التي تطلق موجات من التأثير الكبير، المعزز بأدوات الاتصال الحديثة؟ المتاحف تغير دورها عما كانت عليه وبدأت به قبل قرنين، وأصبحت منتجا للفن، وقادرة على التحكم به، بنسب ما، طالما أنها باتت أشبه بمالكة "السوبر ماركت"، التي يعنيها التسويق في المقام الأول، ولزبائنها: إنها تقوم بتبديل بعض السلع بغيرها، أو تقترح سلعاً جديدة على مستهلك مولع بالاستهلاك نفسه. والسؤال يبقى: كيف لهذا الفن أن يجد بدورة قبولاً له في المجتمع أوسع وأضمن مما هو عليه في عروض هذه المؤسسات؟
* ما هي الحصيلة التي خرجت بها من دراساتك الجمالية؟
- سعيت، سواء في دراساتي عن الفن الإسلامي، أو الفن العربي الحديث، إلى بناء بعض القواعد، اللازمة في اعتقادي، لخطاب عن هذا الفن. وهذا يقوم على توفير عدة متطلبات، منها توفير المعلومة الصحيحة وما تحتاجه من توثيق، والسعي الى فهم تاريخي يدرج هذه التجارب وهؤلاء الفنانون فيما بينهم ويشملهم. وهي المحركات والاحتياجات والمقترحات الثقافية والجمالية العامة، سواء في بيئاتهم أو في تفاعلاتها مع غيرها. كما سعيت إلى الاسهام في توليد لغة اصطلاحية تحسن استقبال مفردات الفن والجمالية الغربية في لغة الخطاب الفني العربي. وهو ما ظهر في جانب منه في كتابي الأخير، في ترجمتي لكتاب "ما الجمالية؟" للباحث الفرنسي مارك جيمينز، الذي صدر مؤخراً عن "المنظمة العربية للترجمة".
("العرب اليوم"، عمَان، 9/8/2009)